أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - لوحة الطوفان: صراع الإنسان بين الماضي والمستقبل.. نقد تحليلي لعمل جوزيف ديزيريه كورت















المزيد.....

لوحة الطوفان: صراع الإنسان بين الماضي والمستقبل.. نقد تحليلي لعمل جوزيف ديزيريه كورت


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8456 - 2025 / 9 / 5 - 21:33
المحور: الادب والفن
    


في قلب الفن الرومانسي الفرنسي، يبرز عمل فني يجسد الصراع الإنساني الأزلي بين العاطفة والعقل، بين التمسك بالماضي والبحث عن المستقبل. إنها لوحة Scène du Déluge أو Scene from the Great Flood (مشهد من الطوفان العظيم)، التي رسمها الفنان الفرنسي جوزيف ديزيريه كورت (Joseph-Désiré Court، 1797-1865) عام 1826، وعرضت لأول مرة في صالون باريس عام 1827. اشترتها الدولة الفرنسية مقابل ثلاثة آلاف فرانك، وهي الآن محفوظة في متحف الفنون الجميلة بمدينة ليون (Musée des Beaux-Arts de Lyon).

هذه اللوحة ليست مجرد تصوير لقصة توراتية عن الطوفان، بل هي رمزية عميقة للصراع الداخلي والاجتماعي الذي يواجه الإنسان في مواجهة الكوارث، سواء كانت طبيعية أو نفسية. في قراءتها يتجسد سؤال أبدي: ماذا ننقذ أولاً، الماضي بأثقاله أم المستقبل بوعوده؟



سيرة الفنان وسياقه التاريخي

جوزيف ديزيريه كورت، المنحدر من عائلة فنية، كان حفيد رسام البورتريه الشهير هياسينث ريغو (Hyacinthe Rigaud). بدأ دراسته الفنية تحت إشراف مارك أنطوان ديسكامب (Marc-Antoine Descamps)، ثم انتقل إلى استوديو أنطوان جان غروس (Antoine-Jean Gros) في باريس. ورغم الضائقة المالية التي أجبرته على بيع لوحات صغيرة، فقد فاز بجائزة روما عام 1821 عن لوحته سامسون ودليلة، مما مكنه من الدراسة في روما.

عاد إلى باريس ليشارك في صالوناتها بلوحات تاريخية بارزة مثل موت قيصر (1827)، التي اقتناها متحف اللوكسمبورغ، وكورنيل يتلقى التكريم (1828)، التي منحته ميدالية ذهبية من أكاديمية روان.

كان عصر كورت عصراً انتقالياً بين الكلاسيكية الجديدة والرومانسية. فبعد الثورة الفرنسية (1789) والإمبراطورية النابليونية، شهدت فرنسا عودة الملكية البوربونية تحت حكم شارل العاشر (1824-1830)، الذي أثر في الحياة الفنية من خلال سياسات الصالون وتوزيع الجوائز. في هذا السياق، شكّلت لوحة الطوفان تحدياً للمثل الكلاسيكية المثالية، إذ ركزت على لحظة إنسانية غير مثالية: لا بطولات، بل خيارات مؤلمة.

هذا الميل يتقاطع مع جوهر الرومانسية التي أبرزت العاطفة والفردية، في مقابل الكلاسيكية التي أكدت على التوازن والمثاليات، كما في أعمال معلمه جاك لويس دافيد، الذي انتقد اللوحة بشدة ورأى فيها “مبالغة ومشاهد صادمة تقلل من كرامة الفن التاريخي”. ومع ذلك، دافع آخرون عن بعدها الفلسفي المتمرد، فرأوا فيها جسراً بين عصرين.



وصف اللوحة وتحليلها الفني

اللوحة، بأبعاد 280 × 220 سم، تصور أربع شخصيات في مشهد درامي يقطر توتراً: رجل شاب يمد يده لإنقاذ والده العجوز الغارق في المياه، بينما زوجته تحمل طفلاً وتحاول التشبث بدالية. الإضاءة الدرامية تسلط على الجسد العاري للرجل، لتبرز عضلاته المتوترة في مواجهة قدر لا يُقاوَم، فيما تظل الخلفية مظلمة، توحي بالعزلة والضياع.

الألوان الدافئة في جانب الأب والابن تعاكس برودة الألوان في جانب الزوجة والطفل، وكأن التكوين اللوني نفسه يصرخ بالانقسام: بين دفء الماضي ورمزيته، وبرودة المستقبل وحقيقته.

رمزياً، يختار الرجل إنقاذ والده (رمز الماضي والتقاليد) على حساب زوجته (الحاضر والحب) وطفله (المستقبل). هذا الخيار يناقض المنطق العملي، فالطفل أقرب وأخف وزناً، والزوجة لا تزال قادرة على النجاة. لكن كورت يصر على إبراز مأزق الإنسان الذي يغرق في التقاليد ويهمل ما يمنحه الاستمرار.



التحديات الثقافية والنقدية

عند عرضها في صالون 1827، أثارت اللوحة صدمة بصرية وأخلاقية. بعض النقاد اعتبروها “تجسيداً عميقاً للرمزية الإنسانية”، فيما رآها آخرون، مثل دافيد، تهديداً للمثل الفنية السائدة. كانت أوروبا تعيش فترة انتقالية، حيث المثل القديمة تطارد الإنسان الحديث، وحيث الفنون تبحث عن صيغ جديدة لتصوير المعاناة الإنسانية.

في هذا المناخ، مثّلت اللوحة نقداً للتقاليد الأسرية والاجتماعية التي تضع الماضي في مقام الأولوية على حساب الحاضر والمستقبل. وبذلك تندرج في صميم النقاش الثقافي بين الرومانسية والكلاسيكية، كما ظهر أيضاً في جدالات أخرى عن المناظر الطبيعية الإنجليزية أو الموضوعات المصرية القديمة.

من هذا المنطلق، يمكن اعتبار اللوحة تمرّداً على النزعة المثالية، إذ لم تعرض خلاصاً ولا بطولة، بل فشلاً إنسانياً أمام لحظة الاختيار.



القراءات النفسية والفلسفية

من منظور نفسي، تكشف اللوحة عن فشل في الذكاء العاطفي، بالمعنى الذي قدّمه دانييل غولمان. فالوعي بالذات غائب (تبرير الاختيار الخاطئ بأسباب رمزية)، وإدارة العواطف مشوشة (تقديم العاطفة المقدسة على العاطفة الحية)، والتعاطف الواقعي غائب (تركيز على الماضي العاجز لا على الزوجة والطفل).

فلسفياً، تذكّرنا اللوحة بما قاله أنطونيو غرامشي: “الماضي يثقل كالكابوس على أدمغة الأحياء، ولا بد من وعي جديد كي يُحرر الإنسان نفسه.”
هنا يتحول الأب الغارق إلى صورة لذلك الكابوس، الذي يشد ابنه الشاب بعيداً عن إنقاذ ما يرمز إلى الحياة والمستقبل.

البعض يرى في المشهد سؤالاً أخلاقياً معاصراً: في لحظة كارثة، من تُنقذ أولاً؟ الأضعف والأصغر لأنه المستقبل؟ أم الأكبر لأنه الحكمة والتجربة؟ هذه الأسئلة تتكرر اليوم في النقاشات الأخلاقية حول الحوادث، والرعاية الطبية، وحتى الأولويات السياسية.



الذكاء العاطفي حين يقع في أسر الماضي

الذكاء العاطفي، كما يُفترض أن يكون، هو قدرة الإنسان على فهم ذاته، وإدارة عواطفه، وبناء قراراته على مزيج من العقل والرحمة. لكنه في هذا المشهد يبدو مختطفاً من العقل النقدي، ومكبلاً بموروثات جامدة حول قدسية الماضي. وهنا يصبح الذكاء العاطفي مشوهاً: بدلاً من أن ينقذ الحياة، ينحاز إلى الرموز الميتة.

إن قرار الرجل بمد يده إلى والده الغارق لا ينبع من تعاطف سليم، بل من عاطفة مغشوشة، تغذيها أوهام القداسة التي تضع الماضي في مرتبة أعلى من الحاضر والمستقبل. هنا يفقد العقل توازنه، ويعجز عن التمييز بين ما يمنح الاستمرار (الطفل والزوجة) وما يشد إلى الانطفاء (الأب المتهالك).

هذه القراءة تفتح أمامنا باباً معاصراً: كم من المجتمعات اليوم تنفق جهدها في إنقاذ الماضي، بينما تغرق أجيالها الجديدة في طوفان البطالة واليأس والهجرة؟ كم من السياسات تُبنى على حماية الرموز المتهالكة بينما تهمل المستقبل الحيّ؟

إن الذكاء العاطفي حين يُسجن داخل قداسة الماضي، يتحول من أداة للتوازن والتمييز إلى قوة معيقة، بل مدمرة. واللوحة تفضح هذا الانحراف بجرأة: الرجل ليس بطلاً، بل مثال على إنسان فقد بوصلته لأن قلبه اختطفه إرث ثقيل.

هنا أضع رؤيتي النقدية ككاتب ومحلل: اللوحة لا تحكي فقط عن مأساة عائلة في الطوفان، بل تكشف مأساة الإنسان حين يُغلق وعيه أمام المستقبل. إنها درس في أن العاطفة إذا لم تُصفَّ من شوائب القداسة، تتحول إلى جهل مقدس يبدد كل إمكانية للنجاة.



الدروس الإنسانية والاجتماعية

على المستوى الفردي، تحذر اللوحة من التمسك بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل، لتذكّرنا بأن إنقاذ الطفل أولاً يعني إنقاذ الغد.

على المستوى الاجتماعي، تشير إلى أن المجتمعات التي تستنزف مواردها لحماية رموز متهالكة وتترك شبابها يغرقون، إنما تختار طريق الفناء.

في الحاضر المعاصر، يمكن قراءة الطوفان كرمز للتغير المناخي الذي يهدد الكوكب، أو كرمز للأزمات الرقمية والهوية. والدرس يظل ثابتاً: لا خلاص إلا باختيار الحياة والمستقبل، لا التقاليد الغارقة.

في السياق العربي، تُعيدنا اللوحة إلى صراع الحداثة والتقاليد، حيث يغرق الشباب في بحر من القيم الجامدة، بينما الفرص تضيع. وهي دعوة صريحة للتوازن: احترام الماضي دون أن يكون على حساب المستقبل.



خطاب بصري خالد

لوحة جوزيف ديزيريه كورت ليست مجرد تصوير لحظة توراتية، بل خطاب بصري خالد يتجاوز زمنه. غضب الطبيعة في اللوحة يعكس غضب الإنسان على قراراته الخاطئة، وهي اليوم نبوءة تتحدث إلى كل جيل يواجه طوفانه الخاص.

إنها تحفر في وعينا درساً لا يتغير: إذا أردت النجاة من الطوفان القادم، أنقذ المستقبل أولاً.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في خرفان بانورج: بين السخرية والمجتمع في ملحمة رابلي ا ...
- كذبة الكناري ووصيّة الحمار الوحشي
- الجنس عبر الحضارات: من طقوس الخلق إلى ثورات الحرية
- النخب العربية بين الوعي والتخاذل: مأساة أمة تعرف الطريق ثم ت ...
- الإخوة كارامازوف: ملحمة النفس البشرية بين الإيمان والشك
- خرفان بانورج: بين سيكولوجية القطيع وتميّز العقل الحر
- نظرية الكون 25: حين تتحول الجنة إلى مقبرة
- نظرية -الضفدع المسلوق-: كيف يقتلنا التكيف المفرط مع الأوضاع ...
- فن القيادة الصعبة: بين بصيرة القائد وتحدي القرارات
- الشركات والدول المستفيدة من الإبادة الجماعية في غزة
- الكاهن والشيطان: جحيم دوستويفسكي فوق جدران الزنزانة
- المستشار: بين هيبة الصلاحيات وفقدان الفحولة
- انتقام أولجا من الدريفليان: تشريح الغضب المُبرَّر والدهاء ال ...
- الفرق بين القانون والأخلاق في فلسفة إيمانويل كانط
- لم أخنك حتى في أفكاري: دوستويفسكي والحب كمرآة للوجود
- حين يتحدث الإنسان إلى الطير: من نبي الله سليمان إلى تجارب ال ...
- التواضع والمحبة في التعامل مع الآخرين: رؤية إنسانية وفلسفية ...
- ومضات من حياة فيرجينيا وولف
- ومضلات من حياة كافكا وهل كان يكتب عن العبث الإنساني… أم عن ا ...
- نظرية باريتو: من حقول البازلاء إلى قانون عمل وفلسفة اقتصاد


المزيد.....




- أولريكة الخميس: الفنون الإسلامية جسر للتفاهم في متحف الآغا خ ...
- من -الغريب- إلى الشاشة.. الرواية بين النص والصورة
- محمد خسّاني.. رقصة الممثل الجزائري في كليب الرابور المغربي د ...
- صناع فيلم -صوت هند رجب- يتحدثون لبي بي سي بعد الإشادة العالم ...
- فيلم عن مقتل الطفلة هند رجب في غزة يلقى تصفيقاً حاراً استمر ...
- الممثلة الفرنسية أديل هاينل تنضم إلى أسطول الصمود المتجه لقط ...
- الرواية الأولى وغواية الحكي.. وودي آلن يروى سيرته ولا يعترف ...
- لوحة رامبرانت الشهيرة.. حين باتت -دورية الليل- ليلة في العرا ...
- سجى كيلاني بطلة فيلم -صوت هند رجب- بإطلالتين ذات دلالات عميق ...
- جِدَارُ الزَّمَن ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - لوحة الطوفان: صراع الإنسان بين الماضي والمستقبل.. نقد تحليلي لعمل جوزيف ديزيريه كورت