أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - أوزجان يشار - المستشار: بين هيبة الصلاحيات وفقدان الفحولة















المزيد.....

المستشار: بين هيبة الصلاحيات وفقدان الفحولة


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8445 - 2025 / 8 / 25 - 13:49
المحور: كتابات ساخرة
    


المستشار… كلمة لها وقع خاص في الأذن، وكأنها تمنح صاحبها امتيازًا فوقيًّا. نتصور رجلًا يجلس في مكتب عريض، بملامح رزينة، يضع نظارته على طرف أنفه، يقرأ الأوراق بتمعّن، يتحدث بصوت هادئ، ثم يسكت فجأة ليترك جملته الأخيرة معلقة في الهواء وكأنها حكمة الأبد. لكن هذه الصورة المهيبة تخفي خلفها مفارقة ساخرة: فالمستشار ليس دومًا عقلًا خارقًا أو حكيمًا منزّهًا، بل كثيرًا ما يكون رجلًا فقد القدرة على الفعل، خرج من الميدان بعد أن دفع ثمنًا باهظًا، ليجلس في الظل تحت شجرة وارفة يتحدث عن قفزات مثالية لن يجربها بعد اليوم.

تمامًا كما الثور العجوز الذي كان في شبابه أسطورة القفز فوق الأسوار، ثم جاء اليوم الذي أخطأ فيه الحسابات، اندفع بسرعة غير محسوبة، قفز بزاوية خاطئة، فارتطم بالسياج وسقط سقوطًا مدويًا انتهى بفقدان فحولته. لم يعد قادرًا على الصراع أو التلقيح، لكنه لم يغادر المسرح كليًا. وجد لنفسه دورًا آخر: أن يجلس تحت الشجرة، يحكي قصص الماضي، يوزّع الوصايا، ويقدّم نفسه بوصفه “المستشار”.

وهنا تكمن السخرية العميقة: المستشار ليس دائمًا الحكيم الذي يعرف الطريق، بل قد يكون مجرد لاعب قديم خسر أدواته الأساسية، فتحوّل إلى متفرجٍ حكواتي. الحكمة هنا ليست أكثر من فشل متحجّر، قفزة منتهية بثمن فادح صارت تُروى على شكل دروس.



في حظيرة الريف، حيث وضعت الإدارة سياجًا شائكًا بين الثيران والأبقار، كانت الغريزة ترفض الانضباط. ثور شاب، مندفع بحماسته، تساءل عن كيفية تجاوز الحاجز. أشاروا إليه بالذهاب إلى الثور العجوز: “اذهب إليه، إنه المستشار.”

اقترب الشاب من العجوز الجالس تحت الشجرة، وسأله عن السر. فأجابه العجوز بخطة دقيقة: “ابتعد مئة متر، اندفع بسرعة لا تقل عن ستين، واقفز بزاوية لا تقل عن ستين، وستصل إلى مبتغاك.” بدا الأمر علمًا دقيقًا. لكن الشاب، وقد تخيّل العواقب، سأل بوجل: “وماذا لو أخطأت؟ ماذا لو سقطت وفقدت خصيتيّ؟”

ابتسم العجوز، وربّت على كتفه قائلاً: “حينها ستجلس هنا بجواري، تحكي خبراتك، وتصبح مستشارًا مثلي.”

منذ تلك اللحظة صارت الحكاية رمزا يُروى: أن المستشار هو من فشل قفزةً ما، وفقد فحولته، فجلس في الظل يبيع الكلام بدل الفعل.



في عالم السياسة، هذا المشهد حاضر في كل القصور. الرؤساء والملوك يحيطون أنفسهم بجيوش من المستشارين. بعضهم عباقرة تركوا أثرًا حقيقيًا، وبعضهم مجرد ثيران عجائز جلسوا تحت أشجار السلطة بعد أن فقدوا فحولتهم السياسية.

هنري كيسنجر مثلًا، كان في قلب الأحداث خلال الحرب الباردة، لعب دورًا في فيتنام والصين والشرق الأوسط. لكنه بعد أن ترك المناصب التنفيذية لم يعد يملك توقيع القرارات. فقد فحولته التنفيذية، لكنه احتُفظ به كرمز استشاري.

وفي قصور العرب، المشهد أكثر سخرية: وزراء أُبعدوا بعد فشل، قادة سقطوا سقوطًا مدويًا، كتّاب وإعلاميون خرجوا من الضوء. لكن الأنظمة لا تريد خسارتهم، فتوكل إليهم لقب “المستشار”. يجلسون في ظل القصر كما جلس الثور العجوز تحت الشجرة، يتحدثون عن القفز المثالي بينما القرارات تُصنع في مكان آخر.

وإذا نظرنا إلى تاريخ الخلفاء، نجد صورة مشابهة. في بلاط العباسيين مثلًا، صعد البرامكة حتى صاروا “مستشاري الدولة” ووزراءها الفعليين. كانوا ثيرانًا فتية، يصنعون القرارات، يتحكمون في المال والسياسة. لكن قفزتهم كانت عالية أكثر من اللازم. وحين أخطأوا الحسابات مع هارون الرشيد، انتهوا بمذبحة شهيرة قضت على نفوذهم. منذ تلك اللحظة صار ذكرهم يتردد كحكاية عن سطوة المستشار الذي فقد فحولته السياسية دفعة واحدة.

وفي بغداد أيضًا، بعد قرون، صار ابن العلقمي مثالًا آخر. كان وزيرًا ومستشارًا للخليفة المستعصم لحظة سقوط المدينة بيد المغول. قيل إنه قدّم النصائح الكارثية التي عجلت بانهيار الخلافة، فصار في التاريخ العربي رمزًا للخيانة. لم يعد مستشارًا حكيمًا، بل صار ثورًا عجوزًا يُتهم بأنه فقد فحولته في لحظة فاصلة وأدخل القطيع كله إلى المذبحة.

هذه الأمثلة التاريخية تُظهر أن المستشار قد يكون صانعًا للمجد أو سببًا للخراب، لكنه في كل الأحوال يظل في موقع “الثور تحت الشجرة”: إما يبيع حكمة حقيقية، وإما يبيع كلمات مدمرة.



في الاقتصاد أيضًا، نرى الثيران العجائز. بعد أزمة 2008، ملأت المؤتمرات وجوه خبراء كانوا جزءًا من الانهيار. جلسوا يشرحون “الدروس المستفادة”، بينما يعرف الجميع أنهم فقدوا فحولتهم الاقتصادية في لحظة سقوط. إنهم لا يقودون الأسواق بعد الآن، لكنهم يتقنون اللغة الناعمة التي تملأ الشاشات والتقارير.

وفي أسواق العرب، يزدهر لقب “المستشار الاقتصادي” كما يزدهر لقب “الشاعر” في المقاهي. كثيرون لم يفتحوا متجرًا صغيرًا، لكنهم يكتبون تقارير عن إصلاح الاقتصاد الوطني. إنهم ثيران عجائز بلا فحولة تجريبية، لكن ظلّهم يبقى حاضرًا عبر الكلمات.



حتى في البيوت، القصة حاضرة. الجدّ، الذي عاش عمرًا، يجلس في صدر المجلس. يحمل على جسده ندبات المحاولة والسقوط. يقول للأحفاد: “لا تقفزوا كما قفزت أنا ذات يوم. لا تندفعوا بطيش. لقد جربت وخسرت.” كلماته تأتي من تجربة فعلية، من جسد وقع وتحمّل الخسارة. تحذيره له وزن، لأنه عاش القفزة وفقد شيئًا من فحولته الرمزية.

أما الأم، فحديثها يأتي من مكان آخر. هي لا تحذر من القفزات الجسدية، لكنها تحمل خبرة العاطفة والمشاعر والتضحية. تقول لبناتها: “لا تمنحن قلوبكن كاملة. لا تثقن في وعود لا يُبنى عليها. لا تكررن خيباتي.” تحذيرها ليس عن الفحولة ولا عن القفز، بل عن الانكسار الإنساني في الحب والعلاقات. وهكذا يكتمل المشهد: الرجل يحذر من السقوط الميداني، والمرأة تحذر من الانغماس الوجداني. وكل جيل يستمع، ثم يكرر التجربة بطريقته الخاصة، ليجلس في النهاية بدوره تحت شجرة، محاطًا بلقب “المستشار”.



التاريخ يعيد إنتاج هذه الحكاية باستمرار. في الأندلس، مستشارو الملوك المتناحرين كثيرًا ما لعبوا أدوارًا مأساوية. كم من نصيحة خاطئة سرّعت بسقوط مدينة؟ كم من وزير أو ناصح فتح الأبواب للخصوم؟ إنهم في جوهرهم ثيران عجائز جلسوا يتحدثون، بينما الأسوار تتداعى.

والطريف أن بعضهم، بعد قرون، صار يُذكر كحكماء في كتب التاريخ. وكأن الفشل نفسه إذا صار قديمًا يُعاد تدويره كحكمة. هكذا تتحول قفزة انتهت بفقدان الفحولة إلى درس خالد، حتى لو كان في وقته كارثة.



إن الفلسفة الساخرة للحكاية تكمن في هذا: أن المستشار يبدو أكثر حكمة لأنه لم يعد قادرًا على ارتكاب الأخطاء. إنه خارج الحلبة. لا يقفز، فلا يسقط. لا يغامر، فلا يخسر. لكن صوته يبقى حاضرًا، وأحيانًا مؤثرًا. الحكمة ليست إلا فشلًا متجمدًا في صورة قصة تُروى للأجيال.

الحياة ستدفع كل واحد منا إلى تلك اللحظة. سنقفز قفزات، بعضها ناجح وبعضها متهور. سنسقط، سنفقد شيئًا عزيزًا. وسيأتي يوم نجلس فيه نحن أيضًا تحت شجرتنا الخاصة، نروي وصايانا لمن يأتون بعدنا. قد نبتسم ابتسامة الحكيم، لكننا نعرف في أعماقنا أن آخر قفزة لنا انتهت بفقدان فحولتنا.

وهكذا، كلما سمعنا كلمة “المستشار”، يجدر أن نستحضر الصورة الأصلية: ثور عجوز تحت شجرة، يتحدث عن القفز المثالي… بينما الحقيقة أنه لم يعد قادرًا على القفز، وأن آخر مغامرة له انتهت بفقدان فحولته.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انتقام أولجا من الدريفليان: تشريح الغضب المُبرَّر والدهاء ال ...
- الفرق بين القانون والأخلاق في فلسفة إيمانويل كانط
- لم أخنك حتى في أفكاري: دوستويفسكي والحب كمرآة للوجود
- حين يتحدث الإنسان إلى الطير: من نبي الله سليمان إلى تجارب ال ...
- التواضع والمحبة في التعامل مع الآخرين: رؤية إنسانية وفلسفية ...
- ومضات من حياة فيرجينيا وولف
- ومضلات من حياة كافكا وهل كان يكتب عن العبث الإنساني… أم عن ا ...
- نظرية باريتو: من حقول البازلاء إلى قانون عمل وفلسفة اقتصاد
- كائنات صغيرة، كوابيس صناعية: عندما تُهدِّد الأحياء الغازية أ ...
- ثلاثة أرواح أثمرت إبداعًا فوق شجرة المعاناة .. حين يصبح الجر ...
- فاسكو دي جاما: الوجه الدموي وراء أسطورة “مكتشف” رأس الرجاء ا ...
- الجزائر المحروسة بالله: حينما نزلت السماء إلى ساحة المعركة
- بين براءة التفاؤل وجحيم الآخر: دع الحياة تمر، لا تتعثر في أر ...
- الذكاء الاصطناعي ينهش الوظائف التقليدية… والتعليم لا يزال في ...
- كين نورتون: المارينز الذي هزَمَ العمالقة.. وقهره النسيان
- ست ساعات في أديس أبابا: عبورٌ في شرايين القارة القديمة
- المجتمع والحضارة: عشرة محاور تصنع مصير الأمم
- تلقين الدم والتفوق: كيف تصنع المدارس الإسرائيلية جيلًا يؤمن ...
- الرومانسية الخالدة للكلمات: تأمل في الحب وإرث برونتي عبر آفا ...
- زلزال روسيا المهيب يقرع جرس الخطر: العالم على موعد مع موجات ...


المزيد.....




- الممثل الأمريكي -روفالو- يناشد ترامب وأوروبا التدخل لوقف إبا ...
- ما سر تضامن الفنانين الإيرلنديين مع فلسطين؟.. ومن سيخلف المل ...
- التوحيدي وأسئلة الاغتراب: قراءة في جماليات -الإشارات الإلهية ...
- الموسيقى الكونغولية.. من نبض الأرض إلى التراث الإنساني
- مصر.. وفاة الفنان بهاء الخطيب خلال مباراة والعثور على -تيك ت ...
- فيلم -درويش-.. سينما مصرية تغازل الماضي بصريا وتتعثّر دراميا ...
- شهدت سينما السيارات شعبية كبيرة خلال جائحة كورونا ولكن هل يز ...
- ثقافة الحوار واختلاف وجهات النظر
- جمعية البستان سلوان تنفذ مسابقة س/ج الثقافية الشبابية
- مهرجان الجونة 2025 يكشف عن قائمة أفلامه العالمية في برنامجه ...


المزيد.....

- حرف العين الذي فقأ عيني / د. خالد زغريت
- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - أوزجان يشار - المستشار: بين هيبة الصلاحيات وفقدان الفحولة