أوزجان يشار
الحوار المتمدن-العدد: 8431 - 2025 / 8 / 11 - 17:17
المحور:
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
هشاشة المنظومات الكبرى أمام خصمٍ صغير
في عصر نقرأ فيه باستمرار عن اختراقات سيبرانية تعطل معامل ومصانع، تظهر لنا اختراقات أكثر بساطة في مظهرها، لكنها أشد خطورة في تأثيرها: أسراب من كائنات بحرية صغيرة تخترق أنابيب تبريد محطات الطاقة ومصانع البتروكيماويات، فتتوقف عجلة الصناعة لساعات أو أيام، متسببةً بخسائر اقتصادية ضخمة تقاس بالملايين وربما بالمليارات.
هذه الحوادث، رغم كونها محلية أو تبدو بسيطة، تكشف لنا بعدين أساسيين: أولاً، أن الأنظمة الهندسية الضخمة هشّة أمام مخلوقات لا تكاد تُرى، وثانيًا، أن العولمة البحرية جعلت انتقال الأنواع بين القارات شبه روتيني، محولةً بذلك مشكلة بيئية إلى أزمة صناعية واقتصادية واجتماعية. تشير تقديرات المنظمات الدولية إلى أضرار مالية جسيمة بسبب الأحياء الغازية، مما يحتم علينا إعادة النظر في سياسات الشحن والحماية البيئية كأولوية استراتيجية.
⸻
حادثة الجبيل: عندما تعطّل الأسماك مصانع البتروكيماويات
في التسعينات، شهدت مدينة الجبيل الصناعية بالمملكة العربية السعودية حادثة فريدة من نوعها، حين تسللت أسراب من أسماك “الميد” و”أبو سيف” الصغيرة عبر شبكات الحماية لمياه التبريد، لتصل إلى مضخات المياه والمؤثرات الحرارية، مما أدى إلى توقف الإنتاج في مصانع سابك.
تبدو الحكاية بسيطة، لكنها تعكس نمطًا متكررًا: ثغرات في الأنظمة الميكانيكية أو التشغيلية تُستغل من الطبيعة بطرق غير متوقعة، ما يحول مشكلات بيولوجية إلى أزمات إنتاجية ذات تبعات مالية وبشرية جسيمة. ويرى البعض أن الخطأ يعود إلى الصيانة، لكن الحقيقة أن الأنظمة الصناعية تصمم عادة لتتلاءم مع ظروف نمطية، في حين تبقى الطوارئ البيولوجية غير محسوبة ضمن السيناريوهات الرسمية.
⸻
محطة “سرجيو موتا” وسلسلة المفاجآت: بلح البحر الذهبي يهاجم قلب الطاقة
في أوائل عام 1998، تعرض معمل “سرجيو موتا” الكهرومائي في ساو باولو لبراز بلح البحر الذهبي Limnoperna fortunei بكميات هائلة. تغلغلت هذه الرتائل السريعة التكاثر في أنابيب التبريد، مما أدى إلى انسدادها، وارتفاع درجة حرارة التوربينات، فتعطل المعمل الذي يزود الكهرباء لما يقرب من 60% من سكان ساو باولو.
يقول المهندس لويس تادو دو فريتاس: “نقلنا عربات محملة بالبلح وكانت الرائحة نتنة لا تحتمل”، مشيرًا إلى حجم الكارثة البيولوجية التي هاجمت المرافق الصناعية. بلح البحر الذهبي، الذي يعتقد أنه وصل من آسيا عبر مياه الصابورة أو ملتصقًا بهياكل السفن، أصبح مثالًا صارخًا على قدرة الأنواع الغازية على تعطيل البنية التحتية للطاقة.
هذا النوع لم يقتصر تأثيره على البرازيل فقط، بل شهدت عدة دول في أمريكا الجنوبية انتشارًا مماثلاً أثر على محطات الطاقة ومحطات معالجة المياه. دراسات تفصيلية لروافد نهر بارانا وحوض ريو دي لا بلاتا توثق كيف يمكن لهذا المحار أن يشكل “حصارًا” حيويًا يعرقل أنظمة تكنولوجيا المياه والطاقة، ويؤكد ضرورة وجود تدابير وقائية فعالة.
⸻
طرق الغزو: من مياه الصابورة إلى أحواض الزينة — أشكال النقل الحيوية
كيف تهاجر هذه الكائنات الغازية؟ الجواب يتصل بشريان التجارة البحرية والحركة البشرية. السفن التجارية العملاقة تستخدم مياه الصابورة للحفاظ على توازنها، وهي مياه تملأ في أحد الموانئ وتُفرغ في ميناء آخر، تحمل معها ملايين الكائنات الحية الدقيقة والبيض والعوالق البحرية.
تشير بيانات المنظمة البحرية الدولية إلى أن مليارات الأطنان من مياه الصابورة تُنقل سنويًا، تحمل آلاف الأنواع المحتملة للانتقال عبر البحار، بمعدل وصول “غزو” جديد كل أسابيع قليلة. هذا يجعل قطاع الشحن البحري محور المشكلة وسببًا رئيسًا في انتشار الأحياء الغازية، مما يدفع إلى التركيز الدولي على تنظيم معالجة مياه الصابورة كأداة أساسية في الحد من انتقال الأنواع.
أما السفن فليست الوسيلة الوحيدة؛ تجارة أحواض الزينة تسببت في نماذج أخرى أكثر بساطة وألمًا، مثل سمك الأسد (Lionfish) الذي دخل إلى مياه الكاريبي عبر أحواض منزلية، وتكيف بسرعة مع البيئة الجديدة، فتك بثروة الأسماك المحلية. كذلك نقل مزارع الروبيان، الأصداف، أو تراكم الطحالب على هياكل السفن يفتح أبوابًا لنشر فعّال.
⸻
أمثلة عالمية: قناديل البحر، المحار، والسلطعون — خرائط أضرارٍ متشابهة
تتكرر الحكايات من مناطق عدة حول العالم، حيث تبرز عدة نماذج:
• قنديل البحر Mnemiopsis leidyi في البحر الأسود: خلال الثمانينيات، تسبب هذا النوع في انهيار المخزون السمكي وأدى إلى أزمة اقتصادية واجتماعية لدول ساحلية عدة، بسبب التكاثر السريع وغياب المفترسات الطبيعية.
• محار الزيبرا والكواغا (Dreissena spp.) في البحيرات الكبرى بأميركا الشمالية: تسبب هذه الرتائل في أضرار جسيمة بالبنى التحتية للمياه والطاقة، حيث أنفق القطاع مليارات الدولارات على عمليات التنظيف والصيانة خلال عقود التسعينات.
• تفشّي الطحالب الضارة (Harmful Algal Blooms) في سواحل آسيا وأميركا وأوروبا: تستهلك هذه الطحالب الأكسجين أو تفرز سمومًا قاتلة للأسماك، مما يؤثر على البيئة البحرية والسياحة والصحة العامة.
تختلف الأمثلة في أنواعها وآلياتها، لكنها تتفق على خصائص مشتركة: التكاثر السريع في بيئة جديدة، غياب رقابة طبيعية، وتكلفة باهظة لإعادة تأهيل الأنظمة أو إدارة الآثار.
⸻
الأثر على القطاعات الحيوية: الطاقة، الغذاء، والصحة
الأحياء الغازية ليست مجرد تهديد بيئي، بل تؤثر على الاقتصادات والبنية التحتية والوظائف الحيوية. محطات الطاقة الساحلية ومصانع المياه التي تعتمد على مياه السحب تواجه خطر انسداد المصافي وتآكل أنظمة التبريد، مما يؤدي إلى توقفات إنتاجية مكلفة. القطاعات السمكية والسياحية تعاني من تراجع الإنتاج وإغلاق المواسم، أما الصحة العامة فتتأثر بانتشار السموم والناقلات المرضية التي تنتقل عبر هذه الكائنات.
تشير دراسات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) ومنظمات دولية أخرى إلى أن الأثر المالي السنوي للأحياء الغازية قد يصل إلى مئات المليارات من الدولارات عالميًا، مع تقديرات تاريخية تصل إلى تريليونات الخسائر على مدى عقود، مما يضع هذه الظاهرة في مرتبة تهديد استراتيجي.
⸻
لماذا يصعب الاحتواء؟ العقبات التقنية والسياسية
تواجه مكافحة الأحياء الغازية عدة تحديات:
• الحجم الصغير والتغلغل: هذه الكائنات قادرة على الاستقرار في أماكن يصعب الوصول إليها داخل السفن والأنابيب وأحواض الترسيب.
• التكلفة والفاعلية: الحلول التقنية مثل محطات معالجة مياه الصابورة (الفلترة، الأشعة فوق البنفسجية، الأوزون) أثبتت نجاحًا جزئيًا، لكنها مكلفة وتتطلب تجهيزات متطورة، ما يعيق تعميمها على نطاق واسع.
• التنسيق الدولي: نظراً لتداخل المصالح الحدودية، يتطلب الحل تعاونًا دوليًا فعالًا وموحدًا، وهو ما تعاني منه الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية إدارة مياه الصابورة (BWM) من تفاوت في التنفيذ والالتزام بين الدول.
⸻
ماذا يمكن عمله؟ خريطة حلول بين التقنية والسياسة والبيولوجيا
لا يمكن الاعتماد على حل واحد، بل ينبغي اتباع استراتيجية متكاملة تشمل:
• الوقاية: تشديد معايير الشحن وفحص السفن في الموانئ، وفرض نظم معالجة مياه الصابورة الإلزامية، بالإضافة إلى وضع قواعد صارمة للتعامل مع الحمولات البحرية والموارد الحية.
• التقنيات المساعدة: تركيب محطات معالجة متطورة، استخدام الأشعة فوق البنفسجية، تقنيات الأوزون، وتطوير طلاءات مضادة لتراكم الكائنات على هيكل السفينة وأنابيب السحب.
• المراقبة والرد السريع: إنشاء محطات تحذير مبكرة، مختبرات تشخيص بيولوجية متقدمة، وبرامج إزالة مكثفة (يدوية وروبوتية)، مع إجراء بحوث على مفترسات طبيعية يمكن استخدامها بأمان وفاعلية.
• التعاون الدولي: التزام جاد بتطبيق الاتفاقيات البحرية، وتقديم دعم مالي وتقني للدول النامية ذات القدرات المحدودة.
يظل المبدأ الأساسي أن الوقاية أفضل وأرخص من العلاج، إذ أن كل دولار يُنفق على منع دخول الأنواع الغازية يوفر مئات الدولارات التي قد تُنفق لاحقًا على إصلاح الأضرار.
⸻
الخاتمة: استيقاظ جماعي قبل أن تتحول البحار إلى ساحات حرب حيوية
ما بدأناه من قصص محطات التبريد في الجبيل وحوادث بلح البحر الذهبي في ساو باولو ليس مجرد استثناءات، بل إشارات تحذيرية لزلزال بيولوجي يتشكل في أعماق البحار. الأحياء الغازية تذكير قاسٍ بأن العولمة لا تنقل فقط البضائع والأشخاص، بل تنقل أنظمة بيولوجية قد تكون أكثر خطورة.
إن لم نضع قواعد صارمة تحمي حدودنا البيئية، سنواجه موجات متتالية من الأزمات التقنية والاقتصادية والبيئية. كما قال العالم إدوارد أو. ويلسون:
“الطبيعة لا تعرف الحدود السياسية… وخطأ مكاني واحد قد يكلف الكوكب قرونًا من الإصلاح.”
لذا، لا يكفي أن نعتبر الأحياء الغازية مجرد “مشكلة بيئية”، بل هي تهديد استراتيجي للبنية التحتية للطاقة والغذاء، وتتطلب استجابة عالمية موحدة وحلولًا فنية وسياسية عاجلة.
⸻
المراجع والمصادر
• منظمة الأغذية والزراعة (FAO): تقارير دورية حول آثار الأحياء الغازية والتقديرات الاقتصادية العالمية، بما في ذلك مراجعات حديثة تشير إلى خسائر بمئات المليارات سنويًا.
• المنظمة البحرية الدولية (IMO): الوثائق الإرشادية حول إدارة مياه الصابورة، تقديرات حجم نقل الأنواع عبر مياه الصابورة، وإحصائيات الأنواع الغازية.
• دراسات Limnoperna fortunei (بلح البحر الذهبي): بحوث علمية منشورة حول انتشاره وتأثيره على محطات الطاقة والمياه في أمريكا الجنوبية.
• أبحاث Mnemiopsis leidyi (قنديل البحر في البحر الأسود): دراسات بيئية توثق تأثير هذا النوع على الأسماك والصناعات السمكية في الثمانينيات.
• تقارير Dreissena spp. (محار الزبرا والكواغا): تقارير عن التكلفة الاقتصادية والتنظيف في البحيرات الكبرى بأمريكا الشمالية.
• مقالات علمية وتقارير بيئية متعددة من مجلات ومؤسسات بيئية دولية حول ظاهرة الطحالب الضارة وأثرها في مختلف القارات.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟