أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - أوزجان يشار - حين تُبتر الساق وتُبتر الذكرى: قراءة فلسفية ونفسية في رسالة فريدا كاهلو إلى دييغو ريفيرا














المزيد.....

حين تُبتر الساق وتُبتر الذكرى: قراءة فلسفية ونفسية في رسالة فريدا كاهلو إلى دييغو ريفيرا


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8418 - 2025 / 7 / 29 - 00:35
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


في عام 1953، من داخل غرفة معقمة في مستشفى "الإنغلس" المعروف حاليا بإسم “المستشفى الإنجليزي الأمريكي” في العاصمة المكسيكية "مكسيكو سيتي"، جلست فريدا كاهلو تكتب رسالتها الأخيرة إلى رجلٍ لم تستطع أن تحبه دون أن تكرهه، ولم تستطع أن تكرهه دون أن تذوب فيه عشقا. لم تكن الرسالة مجرد وداعٍ رومانسي لرجل أحبته بجنون، بل كانت تشريحًا دقيقًا لعلاقة مؤلمة تآكلت حتى النخاع، وبوحًا عنيفًا ينزف من شقوق الجسد والروح، واعترافًا أخيرًا بأن البتر الجسدي أهون بكثير من البتر العاطفي.

هذه الرسالة ليست نصًا شخصيًا عابرًا، بل وثيقة نفسية واجتماعية وفلسفية تضعنا أمام المرايا الكاشفة لعمق العلاقات الإنسانية حين تمزج بين العشق والخذلان، بين الأمل واليأس، بين الانتماء والانفصال.



المرأة المشوهة: الجسد كمرآة للخذلان

فريدا لم تنتظر العملية لتُصبح “تلك المرأة المشوهة”، كما قالت. في نظرها، كانت الإعاقة الحقيقية هي ما تركه دييغو في روحها بعد الخيانة، لا ما سيتركه الأطباء على ساقها. كانت ترى أن ما أصابها ليس مجرد كسر في العظام أو تلف في النسيج، بل انهيار في معنى الثقة والانتماء. ومن هنا تنشأ الفلسفة الجسدية للعلاقة: حين يُجرح الجسد، نذهب إلى الطبيب؛ لكن حين يُبتر القلب، لا علاج سوى الاعتراف.

تتحدث فريدا عن البتر كحدث قدر، لكنها تماهي بين بتر القدم وبتر دييغو من حياتها. كلاهما استأصل منها جزءًا تعلّقت به طويلًا رغم ألمه. وكلاهما ترك ندبة… لا تُشفى، بل تُروى.



الحب والكراهية: جدلية العاطفة المتطرفة

لا تكتفي الرسالة بإلقاء اللوم أو توزيع الاتهامات. بل هي اعترافات امرأة نحتت حبها في قلبها كما نُحت الألم في جسدها. هي لا تلعن دييغو فقط، بل تعترف بحبها له حتى آخر لحظة، وتُعلن بوضوح أنها ستبتره لأنها لا تستطيع أن تراه دون أن تتألم. وهذا التناقض هو جوهر الحب العنيف، الحب الذي يتغذى على التناقض، ويعيش في حالة احتراق دائم بين التماهي والانفصال.

الرسالة تكشف عن صراع داخلي شديد، ترفض فيه فريدا أن تُعامل كضحية، لكنها لا تنكر ضعفها. هذا الاعتراف المزدوج بالحب والخذلان يُشكل أحد أكثر أشكال الصدق الإنساني ندرة وعمقًا، ذلك النوع من الصدق الذي لا يسعى للغفران ولا للانتقام، بل للتطهّر.



الخيانة والعائلة: حين تخونك الأخت ويخذلك العاشق

من أقسى ما حملته الرسالة تلك الإشارة العابرة – لكنها كافية كطعنة – إلى خيانة دييغو لها مع أختها “كريستينا”. هنا لا نقف فقط أمام خيانة عاطفية، بل أمام زلزال أسري يهدم المعنى العميق للحماية والانتماء داخل العائلة.

ومع ذلك، لا تُحمّل فريدا أختها كامل الذنب، بل تعود لتسأل نفسها سؤالًا يُعري هشاشتها: “ما الذي كانت تستطيع أن تعطيك إياه النساء ولم أستطع أنا؟”. هذا السؤال ليس سؤال غيرة، بل سؤال وجودي يضرب في جوهر الذات الأنثوية: هل قيمة المرأة تقاس بما تمنحه للرجل؟ وهل الخيانة ناتجة عن نقصٍ ما فيها أم طمعٍ لا يُروى فيه؟



الجمال والقبح: أسطورة دييغو المشوه والمحبوب

تقول فريدا في جملة تكاد تكون من أكثر الجمل قسوة:
“كيف بحق الجحيم تمكنت من إغواء هذا الكم من النساء بينما أنت ابن عاهرة قبيح؟”

بهذا السؤال الصاعق، تكشف فريدا عن خلخلة تصورها الجمالي للعالم، ذلك العالم الذي يُفترض أن يكافئ الجميل ويُدين القبيح. لكنها هنا تصطدم بقبح انتصر، وبحب كان يجب ألا يكون، ومع ذلك كان. إنه التساؤل الذي يطرح نفسه على كل من أُحب من لا يستحق، أو تألم على يد من لم يُظهر أي نُبل.



التحرر: البتر كفعل خلاص

رسالة فريدا ليست شكوى ولا لعنات، بل فعل إرادي مكتمل. تقول بوضوح إنها ستُبتر دييغو من حياتها كما تُبتر ساقها. هذا التوازي بين الجسد والعاطفة يعكس شجاعة مريعة، امرأة تقرر أن تتحرر من معشوقها كما تتحرر من ساقها الميتة.

لكن التحرر هنا ليس مجرد إعلان انفصال، بل إعادة تشكيل للهوية. فريدا لا تريد أن تُشفق على نفسها، ولا أن يشفق عليها أحد. إنها تختار أن تُكمل حياتها – أو ما تبقى منها – بدون ساق، وبدون دييغو، وبدون ذُل. وفي ذلك إعلان للبطولة الشخصية بصيغة أنثوية فريدة، متوترة، وموجعة.



فلسفة الانفصال: عندما يتحول الحب إلى قيد

في نهاية الرسالة، تُعلن فريدا أن أكبر متعة تتخيلها الآن هي ألا ترى وجه دييغو مرة أخرى في حديقتها. وكأنها بذلك تقول: لقد أحببتك حتى استهلكتُني، وحين أحرقتَ كل ما في داخلي، لم يبقَ سوى رماد أريد أن أكنسه بهدوء من عتبة حياتي.

هنا يتجلّى العمق الفلسفي للانفصال الحقيقي: أن تكون قادرًا على إغلاق الباب دون ندم، على حذف الآخر من المشهد دون أن تتمنى له الشر، فقط أن يختفي… كأنه لم يكن.



في خضم متاهات النهاية: الحب كعاهة، والفقد كتحرر

رسالة فريدا كاهلو ليست فقط رسالة انفصال، بل سيرة موجزة لحبٍّ جسّد كل ما في الحياة من عطب وجمال، من أمل وخيبة، من ولادة وموت. إن ما يجعل هذه الرسالة خالدة ليس صدقها فقط، بل توازنها المذهل بين قوة المرأة الهشة وهشاشة المرأة القوية.

تكتب فريدا الرسالة من سريرها، تنتظر بتر ساقها، لكنها تُمارس فعلًا أكثر جرأة: بتر الحب. أن تُزيل الجزء الذي لم يعُد يصلح، لا بالجراحة فقط، بل بالكلمات. ولهذا، فإن رسالتها ستبقى، لا باعتبارها نصًا حزينًا، بل باعتبارها أغنية شجاعة يُمكن أن تُغنى عند كل انفصال يُعيد الإنسان إلى ذاته.



المصادر:

• الرسائل الخاصة لفريدا كاهلو
• كتاب: Frida: A Biography of Frida Kahlo – Hayden Herrera
• تأملات في الحب – آلان دو بوتون
• تأملات فلسفية في الجسد – موريس ميرلوبونتي



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجدل العقائدي بين النقد أم الشيطنة؟ حين نرى العالم بعين واح ...
- حين يُصبح الصمتُ العالمي شريكًا في الإبادة
- الهوية الأمازيغية بين وهم النقاء وخديعة الجينات: صراع الانتم ...
- حين تعشق أجنحة الطائر أسلاك القفص
- شخصية الضحية المزمنة: بين قناع الضعف وحقيقة الاستنزاف المقدس ...
- ومضات من حياة ديكنز (الجزء الثاني): عبقريةٌ مزدوجة وظلالُ زو ...
- إبادة غزة تسقط الهولوكوست من كافة المعايير الانسانية ومن الا ...
- السيخية بين الروح والتاريخ: تأملات رحّالة بين المعابد
- عندما يضيء عقلك عتمة حياتك: أربعون درسًا من قلب الطريق
- الابتسامة التي تُبنى عليها الإمبراطوريات
- ملفات إبستين: التستر الكبير، الانقسام المؤسسي، وامتحان الشفا ...
- لوران ديكريك… عندما تصبح الأسئلة التاريخية جريمة أخلاقية
- أسماك القرش: ضحايا وهم التوحش
- صرير العجلات ومعنى أن نُقاد بدل أن نقود
- من نباح الامان الى عواء الحرية
- من فولتير إلى بيل غيتس: رحلةُ الوعي بين التنوير والكلاشينكوف
- المتقاعدون: ثروة وخبرة تُستثمر لا تُهمَّش – نحو سياسات مستني ...
- رؤية خضراء لإحياء الصحراء: مقترح بيئي شامل لإعادة تأهيل الصح ...
- الصهيونية والعقيدة اليهودية: تفكيك خرافة دينية وخيانة أخلاقي ...
- معاهدة الماء: حين يصبح الصمت ديانة


المزيد.....




- كواحدٍ من رموزها الثقافية.. مدينة برمنغهام تعلن تفاصيل جنازة ...
- الجيش الإسرائيلي يُعلن تفاصيل أنشطته العسكرية في لبنان.. ومص ...
- -هجمات لصالح روسيا-.. بولندا توجه تهمة الإرهاب لكولومبي محتج ...
- إسرائيل -ترفض- إعلان لندن عن اعتراف محتمل بدولة فلسطين
- محادثات أمريكية صينية -بناءة- قبيل انتهاء هدنة الرسوم وسط ته ...
- اكتئاب خلف الكاميرا.. مشاهير هوليود يروون معاركهم النفسية
- -ما وراء الخبر- يناقش مستقبل قضية نزع سلاح حزب الله
- -أنقذوا الفاشر- حملة في السودان لفك حصار المدينة ووقف تجويعه ...
- نواب أميركيون يصفون الوضع في القطاع بالكارثي ويؤكدون فشل -مؤ ...
- مقترح أوروبي لمعاقبة إسرائيل أكاديميا لانتهاكاتها في غزة


المزيد.....

- قراءة تفكيكية في رواية - ورقات من دفاتر ناظم العربي - لبشير ... / رياض الشرايطي
- نظرية التطور الاجتماعي نحو الفعل والحرية بين الوعي الحضاري و ... / زهير الخويلدي
- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - أوزجان يشار - حين تُبتر الساق وتُبتر الذكرى: قراءة فلسفية ونفسية في رسالة فريدا كاهلو إلى دييغو ريفيرا