أوزجان يشار
الحوار المتمدن-العدد: 8414 - 2025 / 7 / 25 - 09:45
المحور:
الادب والفن
كنتُ أرفرف داخل أسلاك ذلك الصندوق اللامع الذي سمّاه البشر قفصًا.
كانوا يعلقونه عند نافذة، يرشّون حوله شيئًا من ماء الورد أو العطر الفرنسي، ويضعون لي مرآةً صغيرةً لأتوهّم أنني لست وحيدًا.
كانوا يهزّون رؤوسهم بفخرٍ كأنهم وهبوني الفردوس. لكنني كنت أرى، من بين القضبان، عالمًا آخر. عالمًا ينساب فيه الضوء كسائلٍ ذهبي بين أغصان السنديان، ويحمل الهواء عبيرَ ياسمين برّيٍ لم تُدنّسه عطورُ باريس المعبّأة في زجاجاتٍ لامعة. ذلك العبير كان همسَ الأرض الخالد:
“الأصالة هنا، والرشاقة في حرية الريح، لا في زينة السجون.”
كنت أعرف أن المرآة كاذبة… وأن الوحدة في القفص ليست انعزالًا عن الآخر، بل انغلاقٌ عن سطوة الضوء.
كانوا يقولون لي:
“ها هنا الأمن، والطعام، والدفء، والغناء الجميل.”
لكن صوتي اختنق، لا لأنني لا أُغنّي، بل لأن من يغني داخل القفص لا يسمع نفسه.
الغناء بلا أفقٍ مثل صلاة بلا سماء.
كنت أراقبهم — أولئك الذين صنعوا لي القفص — فوجدت أقفاصهم أكبر، وأشد لمعانًا، وأشد صخبًا.
يبنون ناطحات السحاب، لكن قلوبهم تنام في سرداب الخوف.
يملكون الحدائق الإلكترونية، يراقبون أطعمه شهية من خلال شاشات جولاتهم، لكنهم يحنّون سرًا إلى زهرةٍ نبتت ذات يوم في حضن جدتهم.
يبكون في السينما على مشهد عصفورٍ مكسور الجناح، ثم يعودون ليغلقوا النوافذ كي لا يهرب طيرهم الصغير.
كانوا يلهثون داخل أقفاصهم الكبرى، تلك التي أقاموها بأيديهم من افتراضاتٍ هشة كخيوط العنكبوت، ومن نظريات مؤامرةٍ تنسج الظلام، ومن شكوكٍ تثقل الأرواح كالحجارة. يتباهون بأبراجهم العالية، وأضواء مدنهم الاصطناعية، غافلين عن سطوة الشمس الحقيقية هناك، في أعماق الغابة. الشمس التي لا تُحاكى، تلك التي تحاورها الأشجار العتيقة بظلالٍ راقصة، وخيوطٍ من الضوء تسرقها من بين الأغصان المتشابكة. هي ذاتها الشمس التي عبدها أسلافهم، ثم نسي أحفادُهم سرَّ عبادتها:
إنه سرُّ الحرية.
تأملتُ أقفاصهم، فوجدت أن بعضها يُسمّى: “العُرف”، “التقاليد”، “الصواب السياسي”،
وبعضها الآخر سُمّي بأسماء أكثر مكرًا: “النجاح”، “المكانة الاجتماعية”، “الهوية”، “الأمان”،
لكنها جميعًا… قضبان.
قالوا لي:
“الحرية وهم.”
قلت:
“لا، الوهم هو أن تنسى أنك دوما تملك جناحين.”
حلمتُ، كما تحلم كل طيور الأقفاص، بتجاوز عتبة الظلام. كنتُ أعرف أن الضوء الحارق قد يخطف بصري بعد سنوات الظلمة. لكن ماذا يُغني البصر إن كان محكومًا بقضبان؟! الأهم أن تتنفّس رئتاك عبير الحرية، أن تشعر بدفء الشمس الحقيقي على ريشك، أن تسمع حفيف الأوراق لا همس السجّانين.
ربما كانت عيوننا، في ظلمة الأقفاص، تُدرّب نفسها على معانقة الضوء في الأحلام، مستعدّة لدفع الثمن لحظة اللقاء.
رأيتهم، هؤلاء البشر، يبنون الأقفاص لي ولأنفسهم أيضًا. رأيتُ المبدعين منهم يحاولون فرد أجنحة الخيال، فتسقط عليهم هراواتُ الخوف والجهل. سلطاتهم، عبر العصور، توهّمت أن الإبداع زهرةٌ تنمو بالعصا.
في المساء، كنت أرى الغابة من بعيد… أشجار السنديان القديمة وهي تهمس للشمس عن أسرار الضوء.
تسقط الأشعة كما لو أنها موسيقى ذهبية تتسلل بين الأوراق.
كانت الظلال هناك حقيقية، ليست كظل قضيب القفص، بل كظلّ أمٍ تغطي ابنها بالنور والحنان.
ذلك الضوء لم يكن مجرد خارطة طريق فحسب… كان كينونة، وكان دعوة.
وحين تبالغ في رؤية طائرًا كثيرًا… يبدأ قلبك في التحليق معه.
لكن حين تكون أنت الطائر، يكون قلبك قد كُسر مرات كثيرة، ولا يزال يرفرف.
عرفتُ آنذاك أن الطيران ليس رفاهية، بل فريضة الروح.
سأحدّثكم عن فريدا كالو، تلك التي أحبّت الألم، ورفضت مسكّناته.
كانت جراحها ملوّنة، ووجهها مرايا، ومشيتها شقوقًا على أرضٍ لم تعد تحتملها.
فريدا لم تكن رسامة فحسب… كانت قفصًا مشقوقًا يتدلّى منه جناح، والآخر مغروزٌ في قلبها.
قالت فريدا ذات مرة:
“قدميّ، لماذا أحتاجكما إذا كان لي جناحان لأطير؟”
لكنها نسيت أن الجناح في القفص لا يطير… بل يُجرح وهو يحاول.
مثلها، كان إدريس جماع يرى العالم بعيونه، حتى فاضت عيونه بالعالم.
قالوا عنه مجنون.
لكن أيهما المجنون؟ من يرى الجمال في عبلة، أم من يراه في أوراق البورصة؟
من يحاور الليل بشعره، أم من يحاصر الليل في عتمة عزلته؟
كتب إدريس:
“إن حظي كدقيقٍ فوق شوكٍ نثروه… ثم قالوا لحفاةٍ يوم ريحٍ اجمعوه…”
ما أشبه حظه بجناحي حين يحاولان الطيران في زنزانة قضبانها من ذهب.
وعنترة ابن شداد؟
كان فارسًا لا يُشق له غبار،
لكنّه حين التفت إلى قلبه، وجده مربوطًا عند باب القبيلة.
قيل له:
“قاتل من أجلهم، متْ لأجلهم… لكن لا تحبّ منهم!”
وحين أحبّ، اختار أجمل من فيهم: عبلة.
ولم يكن ذنبه أنه رأى في وجهها شمسًا تشرق داخل القفص.
قال لها ذات ليلٍ:
“يا عبلة… حبُّكِ جعلني ألينُ في موضعٍ لا يليق فيه اللين، وأشهر سيفي حيث لا عدو!”
لكنها لم تفهم ذلك… أو ربما فهمته وخافت.
فما أخطر الحبّ حين يكون في يد رجلٍ عرف أن قلبه أقوى من سيفه.
أشفقت عليه لا لأنه انكسر، بل لأنه سلّم سيفه طوعًا لمن لن تُخرجه من قفص العبودية ولا من قيد الاسم.
عنترة كان أول من قال:
“أنا عبدٌ أُحبّ، وأُحبّ مثل أسيادكم… فهل للحب أن يتحرّر قبل الأجساد؟”
لكنّهم خافوا من الحب أكثر من السيف.
فكان القفص مزدوجًا: قفصًا للجسد، وآخر للحب.
كان نابليون رجلاً صعد من رماد الثورة كطائرٍ يكتشف جناحيه في وسط الحريق. ظنّته أوروبا قد انحنى حين صافح ملوكها، لكنه كان كالماء، ينحني ليتسلل، لا ليركع. أوهمهم بالخضوع… ثم نهض، لا كقائد عسكري فحسب، بل كإمبراطورٍ يحمل التاج بيده، ويضعه على رأسه دون أن ينتظر يد البابا. كانت تلك اللحظة أعظم خيانة معلنة للقفص البابويّ، وللشرعية التي يوزّعها الكهنةُ كتذاكر دخولٍ للفردوس الدنيوي.
لكنّ الرجل الذي لم يخضع للكنيسة، ولم ينحنِ لعرش، خضع لامرأة. دخل قفص الحبّ بقدميه، لا مساقًا بل عاشقًا. كانت جوزفين قفصه الذي اختاره، وظلّ داخله يراقبها كما راقبته أوروبا ذات يوم: تبتسم وتبتعد. تذوب وتتمنّع. أحبّها، رغم خيانتها الأولى، ورفضها له حين لم يكن شيئًا. أحبّها عندما أصبحت زوجته، ثم استمرّ يحبّها بعد أن أصبحت ماضيه. وحتى بعدما طلّقها مضطرًا، ليضمن وريثًا لعرشه، لم ينزع حبها من قلبه. في منفاه كتب لها، وفي احتضاره نطق باسمها، لا كإمبراطورٍ يسترجع مجده، بل كرجلٍ حُكم عليه أن يظل عاشقًا حتى في موته.
بوب مارلي… ذلك الطائر الأسود الذي غنّى للحرية من داخل قفصٍ إسمنتي، ولم يتوقّف صوته عن التحليق.
لم يكن يغنّي كمن يطلب الشهرة، بل كمن يُصارع الصمت. حمل غيتاره كأنّه عصا نبيّ، ووقف في وجه الطغاة، لا بجيوش ولا أعلام، بل بنبضٍ راقصٍ من قلب حيٍّ يئنّ. كانت موسيقاه ثورة… لكنها لم تكن تكفي لتكسر الجدران.
الأدغال الإسمنتية، كما أسماها، لم تكن جدران السجن وحدها، بل المدن، والأسواق، والنظم، والعناوين التي تأكل الإنسان حيًّا وتترك فيه ظلًّا لا صوت له.
كان يرى الناس يسيرون كما لو أن في أعناقهم سلاسل خفية، لم تصدر من سجون الاستعمار فقط، بل من داخل العقول التي استبدلت القيود بالراحة، والاستسلام بالرضا.
وحين جاء المرض، لم يكن سرطان الجسد أقسى ما مرّ به، بل سرطان التخلّي. رأى كيف يتحوّل الجسد إلى سجنٍ آخر، يحبس الصوت والروح، ويجعل القفص الأول – الإسمنتي – يبدو لعبة أطفال أمام قفصٍ لا مرئي، يُغلق عليك من الداخل.
في أيامه الأخيرة، كان يتحدث عن “الوحدة”، لا كوحدة فنية بل كصرخة:
“بعض الناس فقراء إلى درجة أن كل ما يملكونه هو المال.”
قالها وهو ينهار، لا سياسيًا، بل إنسانيًا، متأملًا في معنى أن تكون غنيًا بالحبّ، بالحقيقة، بالحرية، وتعيش في عراءٍ كامل داخل هذا العالم المتخم بالمادة والفقر الروحي.
حتى موته، لم يكن موتًا عادياً، بل طقس انسحاب هادئ لطائرٍ لم يستطع جسده أن يواكب جناحيه. بقي صوت مارلي طليقًا، يتردد على حواف أقفاص العالم، وكأنّ الريح ذاتها تعيد ترديده وهكذا يفعل القفص حين لا تصنعه القضبان بل الذكرى، ولا يُقفل بالمفتاح بل بالحنين.
قلت لكم، أيها الواقفون في الأقفاص، إن الجناح لا ينسى لأنه خُلِق للطيران.
وإن الأحلام ليست ترفًا، بل تمرينًا على سطوة الضوء.
ها أنا الآن، في القارب، لا أنظر خلفي.
لم أعد أبحث عن المرآة، ولا عن المرآة التي كانت تُخبرني بأنني طير جميل.
أنا أعرف الآن أن الجمال هو القدرة على مغادرة القفص، حتى لو نزفت، حتى لو تهت، حتى لو احترق ريشك بنار الشمس.
رأيتهم، هؤلاء البشر، يبنون الأقفاص لي ولأنفسهم أيضًا. رأيتُ المبدعين منهم يحاولون فرد أجنحة الخيال، فتسقط عليهم هراواتُ الخوف والجهل. سلطاتهم، عبر العصور، توهّمت أن الإبداع زهرةٌ تنمو بالعصا.
لكنني رأيت فان جوخ، يقطع أذنه ليُرسل معها رسالة عشقٍ صادقٍ لم تفهمها قسوة حبيبته، ولا فهمها غرور العالم… إلا بعد أن أُغلق باب قفص حياته.
ورأيت تولوز لوتريك، ذاك الصعلوك الذي عاش مع البائسين في مونمارتر، يرسم وجوهًا خالدةً من ظلام الحارات، ثم يموت منتحرًا بعد أن طعنته كلماتُ امرأةٍ ذكّرته بقفص قبحه في مجتمعٍ يعبد القفص الذهبي للشكل.
كلاهما لم يكن مجنونًا ولا بوهيميًا تافهًا.
كانا فقط يحاولان الخروج عن إطار المألوف، عن القفص الكبير الذي يُسمّى “القبول الاجتماعي”.
وكل خروجٍ عن السائد، في عالمهم، يُعدُّ تمردًا… يستوجب العقاب.
لكن الأجنحة، مهما قُصّ ريشها، تحتفظ بذاكرة الطيران.
حين بدأتَ رحلتك – أيها الإنسان الذي أدرك حقيقة القفص – لم تستطع كل تدابيرهم “المحكمة” أن تمنع خطوتك خارج الحلقة.
جذبك النهر بما فيه، والبحر بما فيه.
واليوم، ها نحن في القارب، ننزلق على صفحة الماء كأننا نلامس الزمن.
لم نعد نسأل: متى بدأنا؟ هل عشنا حقًّا طويلاً داخل أسوار تلك المدينة؟
هل حلمنا، أم كنا أيقاظًا؟
هل أنصفنا أم ظلمنا؟
هل كان حلم التحليق فوق الأقفاص حلمنا وحدنا؟
كل ما يهمّ الآن، ونحن نرفرف فوق الماء، هو هذا الضوء الذي نعانقه بكل ريشنا، بكل أرواحنا.
نمدّ أجنحتنا وأيدينا نحو من بقي على الضفة الأخرى، أو من لا يزال يسبح في النهر مثقلاً بأغلاله:
“أصعدوا… أصعدوا إلى القارب! القفص وهمٌ… والضوء هنا ينتظرنا جميعًا!”
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟