أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أوزجان يشار - لوران ديكريك… عندما تصبح الأسئلة التاريخية جريمة أخلاقية














المزيد.....

لوران ديكريك… عندما تصبح الأسئلة التاريخية جريمة أخلاقية


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8405 - 2025 / 7 / 16 - 08:19
المحور: قضايا ثقافية
    


هل يمكن أن تكون المعرفة لعنة؟ وهل يُحاكم الإنسان على أسئلته أكثر من أجوبته؟
لوران ديكريك، المؤرخ الفرنسي الذي لم يكن نبيًا ولا منكرًا ولا بطلاً، دفع ثمنًا باهظًا لأنه لم يكتفِ بتكرار الرواية، بل سأل عنها.

في عام 1987، لم يكن ديكريك يسعى خلف الأضواء أو صراع الأيديولوجيات، بل كان أستاذًا متخصصًا في التاريخ الحديث، ينقّب في وثائق الحرب العالمية الثانية ويستخرج من رماد الأرشيف ما اعتقد أنه يستحق المراجعة. لكنه لم يكن يدري أن ما بدأه كبحث تاريخي سينتهي كاتهام أخلاقي، وأن أرشيف الذاكرة الغربية لا يفتح أبوابه لمن يطرقها بأسئلة.

الخطيئة الأولى: التشكيك في رواية الهولوكوست

لم ينكر ديكريك وقوع الهولوكوست، لكنه شكك في تفاصيلها، وانتقد ما اعتبره “تقديسًا للرواية الرسمية” المستندة لمحاكمات نورمبرغ.
في قلب مراجعته، طرح ثلاث تساؤلات زلزلت مكانته:
• عدد الضحايا: هل ستة ملايين يهودي هو رقم دقيق؟ تساءل ديكريك عن دقة هذه الإحصاءات، واعتبرها تقديرات لا تستند إلى أدلة أرشيفية مباشرة كافية.
• غرف الغاز: شكك في التقنية والكفاءة التي وُصفت بها غرف الغاز، مشيرًا إلى وجود ثغرات فنية في السرد.
• النية النازية الممنهجة: رأى أن فوضى الحرب وصراعات السلطة قد تدفع لإعادة قراءة الأحداث بعيدًا عن تصور “السياسة المركزية المنظمة للإبادة.”

في العالم الأكاديمي، قد تُفتح مثل هذه الأسئلة فقط حين يكون السائل “ضمن الإجماع” لا خارجه. لكن ديكريك لم يتبع القطيع، بل سلك طريقًا محفوفًا بالتحذيرات: الطريق الذي يفصل بين الشك العلمي والتوظيف السياسي.

المنهج المشكوك فيه: بين النقد والإنكار

أُخذ على ديكريك الكثير، ليس فقط لأنه شكك، بل لأنه:
• استشهد بمصادر تُعرف بإنكار الهولوكوست أو بمعاداة السامية، مثل بول راسينيه وروبرت فوريسون، مما لطّخ حياده الأكاديمي.
• أغفل أدلة دامغة، كوثائق مؤتمر فانزيه، تقارير أيزنتسغروبن، شهادات الناجين، والصور، وركّز على ثغرات وتناقضات جزئية.
• ابتعد عن المنهج التاريخي العلمي، وتحول إلى منطق جدلي يعتمد على تفكيك الرواية لا على بناء قراءة جديدة موثقة.

لم يكن الجدل فقط في النتائج التي توصل إليها، بل في الكيفية التي وصل بها إليها. كانت طريقته كمن يحاكم الجريمة بسؤال عن الأداة لا عن الفعل، ويبحث عن الصدفة داخل الجريمة المنظمة.

السقوط من النعمة: العقوبة الأكاديمية والاجتماعية

دفع ديكريك ثمن أسئلته باهظًا:
• فُصل من جامعة ليون 3، بعد ضغوط قوية من زملائه والرأي العام.
• مُنع من حضور المؤتمرات، وأُغلقت أبواب المجلات المحكّمة في وجهه.
• سُحبت كتبه من بعض المكتبات، ورفض ناشره إعادة طباعة مؤلفه “الإبادة: أسئلة حول التاريخ”.
• رُفضت أطروحته للدكتوراه، رغم أنه أكاديمي له تاريخ تدريسي محترم.

وفي عام 1989، تعرض في وضح النهار لاعتداء وحشي من مجهولين في حديقة عامة، كُسر فكه، وسُجن في صمت “السجن المفتوح”: حياة دون منصب، دون صوت، دون دعوة واحدة.

وصمة العار: بين النقد المشروع ومعاداة السامية

لم يُحاكم ديكريك رسميًا، لكن اسمه أُلحق باتهام خطير: معاداة السامية.
وقد استند هذا الاتهام إلى:
• تشابه أطروحاته مع منكري الهولوكوست.
• تأثير أبحاثه على الخطاب السياسي لليمين المتطرف.
• توظيف أفكاره في الخطاب المعادي لليهود، وهو أمر حساس قانونيًا في فرنسا (بموجب “قانون غيسو” الذي يجرم إنكار الهولوكوست).

ورغم دفاعه المستمر بأنه مجرد مؤرخ يطرح أسئلة مشروعة، إلا أن “تكرار التشكيك في الثوابت” اعتُبر في عرف القانون الفرنسي تجاوزًا للخطوط الحمراء الأخلاقية، بل خطرًا على الذاكرة الجمعية.

المنفى الداخلي والموت الصامت

في سنواته الأخيرة، عاش ديكريك في عزلة قاسية:
• منبوذ أكاديميًا، لا يُدعى ولا يُنشر له.
• محاصر ماليًا، بلا وظيفة ولا دعم مؤسسي.
• مرفوض اجتماعيًا، لا تُذكر أبحاثه إلا في الهامش، ولا يُناقش موته إلا همسًا.

توفي في باريس عام 2018. لم يُقم له مجلس تأبيني، لم تكتب عنه المجلات الكبرى، ولم يُلقِ أحد خطاب وداع.
كأن موته كان امتدادًا لصمته: باردًا، مقصودًا، لا عزاء فيه.



خاتمة: هل التاريخ مقدّس؟

لم يكن ديكريك منكرًا للهولوكوست، لكنه أيضًا لم يكن ضمن “جوقة المؤرخين الموثوقين.”
وهنا يكمن جوهر المأساة: ليس فيما قاله فقط، بل في السياق الذي قيل فيه، والزمن الذي لا يغفر لك حين تمس ذاكرته.
في عصر أصبحت فيه بعض الجرائم “مقدسة”، وأي تشكيك فيها يُعد جريمة، تصبح الحقيقة عبئًا، ويصبح التاريخ ساحة محاكم، لا مختبر تساؤلات.

لم يكن ديكريك بطلًا، بل كان أكاديميا مشاكسًا في زمن الإجماع.ولذلك، دفع الثمن كاملاً.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسماك القرش: ضحايا وهم التوحش
- صرير العجلات ومعنى أن نُقاد بدل أن نقود
- من نباح الامان الى عواء الحرية
- من فولتير إلى بيل غيتس: رحلةُ الوعي بين التنوير والكلاشينكوف
- المتقاعدون: ثروة وخبرة تُستثمر لا تُهمَّش – نحو سياسات مستني ...
- رؤية خضراء لإحياء الصحراء: مقترح بيئي شامل لإعادة تأهيل الصح ...
- الصهيونية والعقيدة اليهودية: تفكيك خرافة دينية وخيانة أخلاقي ...
- معاهدة الماء: حين يصبح الصمت ديانة
- فلسفة وابي سابي: حين تصبح الشقوق ذهبًا — دع النور يتسرّب من ...
- العالم على مائدة واحدة: حين تتحوّل الشهية إلى مرآة للهوية
- أحبّهم… لكنهم يُطفئونني: الشخصيات السامّة بعيون الوعي
- الثقة الحذرة: فن بناء الجسور مع الآخر دون الوقوع في فخ المظا ...
- حين يُصاب الضمير العام بالشلل: الفساد الأخلاقي والإعلام بوصف ...
- الديمقراطية المعلّبة: أمريكا تُصدّر الحروب… وترامب يدخل المع ...
- الفوضى: هندسة الوجود بين العلم والسياسة والفن
- ومضات في حياة البروفيسور شريف الصفتي: ما بين الحقيقة والتهوي ...
- “الحمار الذهبي”: رحلة التحول بين الجسد والمعرفة
- السلاح النووي: قنبلة معلقة فوق رقبة البشرية
- هل حان الوقت لبناء ملاجئ بدلًا من أوهام السلام؟
- “رحيل”.. حين تهمس الروح بالحياة وتختبر الحب كفناء


المزيد.....




- إسرائيل تستهدف مقر رئاسة الأركان في دمشق وتحذر من مغبة مواصل ...
- إسرائيل تستهدف محيط مقر الأركان العامة في دمشق وتحذر من -ضرب ...
- هل ينبغي لزيلينسكي أن يستهدف موسكو.. بماذا أجاب ترامب؟
- مصور بلغاري يُطلق مشروعًا بصريًّا مبتكرًا: صالون تجميل تحت ا ...
- 20% من الذكور الإسرائيليين تعرضوا لاعتداء جنسي في صغرهم وبيئ ...
- ثوران بركان في آيسلندا يؤدي لإخلاء المناطق القريبة من منتجع ...
- حماية الهوية الشخصية من التزييف: قوانين تتسابق مع الذكاء الا ...
- -لماذا تتدخّل إسرائيل في سوريا؟- - صحيفة بريطانية
- السويداء ـ تجدد الاشتباكات وإسرائيل تطلب من النظام السوري - ...
- فرنسا: هل تستطيع الحكومة تمرير مشروع الموازنة؟


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أوزجان يشار - لوران ديكريك… عندما تصبح الأسئلة التاريخية جريمة أخلاقية