أوزجان يشار
الحوار المتمدن-العدد: 8389 - 2025 / 6 / 30 - 18:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في زمنٍ تصخب فيه الشعارات الدينية وتُستدعى النبوءات لتبرير الحروب، يصبح من واجب كل صاحب ضمير أن يتوقف ويسأل: هل نُقِرُّ الجرائم باسم الإيمان؟ هل نُشرعن القتل والتهجير بآياتٍ أُفرغت من سياقها؟ في قلب هذا المشهد المأساوي، تتداخل الصهيونية مع العقيدة اليهودية في خطابٍ دعائي يراد له أن يطمس الفروق بين الديانة والسلطة، بين الإيمان والاحتلال، بين ما هو مقدّس، وما هو مصلحي نفعي.
إنّ ربط دعم دولة إسرائيل الحديثة بالنصوص الدينية ليس مجرد خطأ لاهوتي، بل تزييف متعمَّد يهدف إلى خلط الدين بالسياسة، والمقدّس بالمال. تمّ تمرير هذه الخرافة عبر عقود، حتى أصبحت “إسرائيل الدولة” مرادفة لـ”إسرائيل النبي يعقوب” في وجدان شعوبٍ غُيّبت عنها الحقائق. وقد تبنّى هذا الخطاب تحالفٌ غير مقدّس بين بعض الأوساط الإنجيلية الأمريكية ودوائر النفوذ الصهيوني، فحوّل الإيمان إلى مشروع جغرافي-عسكري، وجعل من الأرض مسرحًا للدم، بدلاً من أن تكون وعدًا للسلام.
لكن الدين الحق لا يُبنى على أنقاض الضحايا، ولا يُبرّر القهر باسم الرب. وحين يُستدعى المسيح المنتظر ليأتي في مشهد خراب وأشلاء، فإننا لا ننتظره بل نشوّه رسالته. فالله لم يُرسل أنبياءه ليُشيّدوا أممًا على الموت، بل ليُقيموا فيها عدلًا ورحمة.
الصهيونية المسيحية: الجذور البروتستانتية لفكرة “إسرائيل الحديثة”
منذ القرن التاسع عشر، بدأ بعض المسيحيين الإنجيليين في بريطانيا، أمثال اللورد شافتسبري، بالدعوة إلى إعادة اليهود إلى “أرض الميعاد” تمهيدًا لما يعتقدون أنه “العودة الثانية للمسيح”. تأسست لهذا الهدف جمعيات مثل صندوق استكشاف فلسطين عام 1865، وارتبطت هذه التحركات بمشاعر نبوءاتية أكثر منها حبًا لليهود أنفسهم.
ولم يكن ذلك حبًا لليهود بقدر ما كان مشروعًا لاستعجال نهاية العالم، إذ اعتقد هؤلاء أن عودة اليهود إلى فلسطين ستقود إلى حرب شاملة في سهل مجدّو (هرمجدون)، ثم تتحقق نبوءة صعود “الذين خلصوا” إلى السماء بعد معركة كونية يباد فيها الآخرون، بمن فيهم اليهود غير المتنصرين. وتبعًا لهذه العقيدة، لا ينجو من اليهود سوى 144,000 فقط سيؤمنون بالمسيح في اللحظة الأخيرة، بحسب تفسيرهم لسفر الرؤيا. فهل يمكن اعتبار هذا دعمًا أم تهديدًا وجوديًا مغلّفًا بالدين؟
الدعم الجمهوري لإسرائيل: تحالف إنجيلي-صهيوني أم تقاطع مصالح؟
في الولايات المتحدة، تصاعد هذا الاتجاه منذ خمسينيات القرن الماضي ليصبح تيارًا شعبيًا هائلًا داخل القاعدة الإنجيلية للحزب الجمهوري. فشخصيات كالرئيسين وودرو ويلسون وهاري ترومان، كانا من قراء الكتاب المقدس يوميًا، ويتبنيان قناعة أن أرض فلسطين هي وعد إلهي لبني إسرائيل. لكن تأويل هؤلاء للكتاب المقدس قائم على اقتباسات محرّفة، وأشهرها: “من يبارك إسرائيل يُبارَك، ومن يلعنها يُلعَن”، وهي ليست آية حرفية في أي نسخة أصلية من الكتاب المقدس، بل تحوير مسيّس لآية في سفر التكوين 12:3، حيث يتحدث الله إلى إبراهيم لا عن دولة، بل عن نسل بالإيمان، كما فسّره لاحقًا بولس الرسول في رسائل غلاطية ورومية.
فبولس نفسه قال بوضوح:
“لَيْسَ اليَهُودِيُّ يَهُودِيًّا فِي الظَّاهِرِ، وَلَا الختانُ ختانًا فِي الظَّاهِرِ فِي اللَّحْمِ، بَلِ اليَهُودِيُّ فِي الْخَفَاءِ، وَالْخِتَانُ خِتَانُ الْقَلْبِ، بِالرُّوحِ…” (رومية 2:28-29)
“ليس الجميع من إسرائيل هم إسرائيل” (رومية 9:6)
وهذا يعني أن “إسرائيل” في اللاهوت المسيحي الحقيقي ليست دولة، بل جماعة المؤمنين بالمسيح، أي “إسرائيل الروحية”، لا السياسية.
اليهودية والصهيونية: العقيدة في وادٍ والسياسة في وادٍ آخر
خلافًا لما يُروج له، فاليهودية لا تتماهى مع الصهيونية. بل إن عددًا كبيرًا من الحاخامات والفقهاء اليهود يرون في الصهيونية خروجًا على الإيمان، وانقلابًا على الوعد الإلهي. فحسب جماعة ناطوري كارتا (Neturei Karta)، وهي حركة يهودية دينية مناهضة للصهيونية، فإن:
“إقامة دولة يهودية قبل مجيء المسيح تمرد على إرادة الله، ومصدر كل المعاناة الحالية.”
وحاخامات مثل الحاخام موشيه هيرش والحاخام دوفيد فايس وغيرهم، صرّحوا مرارًا بأن ما يجري في فلسطين ليس فقط جريمة سياسية، بل خيانة للعقيدة اليهودية التي ترفض إراقة الدماء باسم التوراة. كما قال الحاخام دوفيد فايس في أحد تصريحاته:
“من يبرر الإبادة، من يقتل باسم الدين، لا يمكن اعتباره يهوديًا. من يشرعن المجازر هو أقرب إلى النازي من أن يكون قريبًا من التوراة.”
أين يعيش اليهود حقًا؟ وأين يشعرون بالأمان؟
المفارقة الموجعة أن دولة إسرائيل، التي تدّعي أنها ملاذ اليهود الآمن، هي في الواقع أكثر أماكن العالم خطرًا على حياتهم. ففي حين يعيش اليهود في إنجلترا والمغرب والولايات المتحدة في سلام واستقرار، يعيش يهود إسرائيل في خوف دائم، بين الدبابات وصفارات الإنذار وثقافة العسكرة منذ الطفولة.
يقول أحد الحاخامات المقيمين في لندن:
“لم أرَ جنديًا طيلة 36 عامًا من حياتي هنا. في إسرائيل، كل طفل يعرف أنواع الأسلحة. فهل هذه حياة؟”
وهنا تبرز مفارقة أخرى: كثير من اليهود، رغم حقهم في “العودة” إلى إسرائيل حسب القانون الصهيوني، يختارون البقاء خارجها، لا لأنهم معادون لإسرائيل، بل لأنهم ضد الفكرة الصهيونية من الأساس. فاليهودي المتدين لا يرى في إقامة دولة قائمة على التهجير والدم ضمانًا للهوية أو الأمان.
فلسطين واليهودية: الدم المسفوك لا يُبني عليه سلام
إن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني اليوم في غزة والضفة لا يمكن تبريره دينيًا. فلا الشريعة اليهودية، ولا المسيحية، ولا حتى المبادئ الإنسانية، تقبل بإقامة وطن على أنقاض شعب آخر. فالحاخامات اليهود الرافضون للصهيونية لا يحتجون في صمت، بل يخرجون في مظاهرات رافضة للحصار، للحرب، وللقصف، ويهتفون بأن ما يجري لا يُمثّلهم. لأنهم، ببساطة، يؤمنون بأن الدين ليس جرافة تُهدم البيوت ولا سيفًا يُسفك به الدم.
⸻
التفريق بين العقيدة والسياسة واجب أخلاقي وديني
إنّ اختزال اليهودية في الصهيونية خيانة للحقيقة الدينية ولليهود أنفسهم. الصهيونية ليست امتدادًا للديانة اليهودية، بل مشروع سياسي وُلد في حضن المسيحية البروتستانتية، وتحوّل لاحقًا إلى آلة استعمارية تُرتكب باسمها الجرائم. اليهودية دينُ ثقة بالله، لا احتلال بالقوة. والمسيحية الحقيقية لا تنحاز لدولة تأسست عام 1948 بدعوى وعود أُعطيت لرجل عاش قبل آلاف السنين.
إن انتظار عودة المسيح لا يجب أن يتحول إلى تمنٍّ لانفجار العالم أو تشوّق لنهاية مدمّرة. فالله لا يحب من يفسدون في الأرض. والمسيح، إن عاد، لن يعود إلى أرضٍ خربة ولا إلى شعوبٍ ملطخة بالدم، بل سيعود ليقيّم الضمير، ويجدد الرحمة، ويكشف من زوّر اسمه وشوّه دعوته.
إنّ الذين يروّجون أن السلام لا يمكن أن يتحقق إلا بعد حروب كبرى إنما يُسقطون عن أنفسهم رسالة الإنجيل. فالمسيح لم يقل: *“خربوا الأرض حتى أعود”، بل قال: “طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون”.
وعليه، فإن تحرير النصوص الدينية من قبضة المصالح السياسية هو جزء من تحرير الإنسانية ذاتها. فالصهيونية ليست عقيدة، بل مشروع سياسي اتخذ من الدين غطاء. والعقيدة اليهودية – كما يؤكد كثير من حاخاماتها – لا تقبل وطنًا يقوم على الجدران والأسلاك والقتل، بل على الرحمة والعدل. كما أن المسيحية، حين تُقرأ بنقاء، لا تفرح بهرمجدون، بل تبتهج بسلام يصنعه أُناسٌ يُؤثرون الحياة، لا انتظار الموت.
فلنعد تعريف الإيمان، لا كانتظار لصدام نهائي، بل كقوة لصناعة عالم أقل ظلماً، وأكثر رحمة. فذلك وحده ما يليق برسالة الأنبياء، وبكرامة الإنسان.
علينا الإدراك بإنّ ما يجري اليوم من إبادة في فلسطين لا يخص الفلسطينيين وحدهم، بل يخص الضمير الإنساني، والوعي الديني، والعدالة التي لا تعرف قومية ولا ديانة. وقد آن الأوان للفصل بوضوح بين الإيمان الحقيقي، وبين التوظيف السياسي للدين.
⸻
المصادر:
• التوراة والعهد الجديد: سفر التكوين، رسائل رومية وغلاطية، سفر
الرؤيا
• وثائق جماعة ناطوري كارتا اليهودية المعارضة للصهيونية
• أقوال الحاخام دوفيد فايس والحاخام موشيه هيرش
• أرشيف صندوق استكشاف فلسطين (1865)
• خطابات للرئيسين وودرو ويلسون وهاري ترومان
• تصريحات القس الإنجيلي جون هيغي وآخرين من الحركة الإنجيلية الأمريكية
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟