أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - معاهدة الماء: حين يصبح الصمت ديانة














المزيد.....

معاهدة الماء: حين يصبح الصمت ديانة


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8388 - 2025 / 6 / 29 - 21:41
المحور: الادب والفن
    


في أقصى الغابة، حيث لا نداء يعلو فوق زئير البقاء، ولا حكمة تُسمع بين أنياب الضرورة، كانت هناك بركة ماء واحدة، بقيت بعد موسم الجفاف الطويل كأنها أثر حياة مترددة، أو كذبة لم تُكشف بعد.

وفي يومٍ ما، دون قرارٍ أو اتفاق، بدأت الحيوانات تأتي إليها، تباعًا، صامتة.
الأسد وقف على طرف البركة، لا يشرب، بل يراقب.
الغزال تباطأ ثم تراجع، قبل أن تجرؤ الزرافة على الانحناء، لتلمس الماء بطرف شفتيها كما تلامس الأم جبين طفلٍ مريض.
حتى الذئب، الكاسر الذي لا يعرف طقوسًا، خبّأ أنيابه خلف صبرٍ مصطنع.

ولدت معاهدة الماء.
لا وثيقة، لا قَسَم، لا توقيع… فقط نظرات مترددة، وهدوءٌ غريب، تشاركته الكائنات، كما يتقاسم الغرباء صحن نجاةٍ أخير في عرض البحر.

قيل إنّ الأسد أعلن الهدنة، وقيل إن الفهد صمت احترامًا، وقيل إن الأرنب – الذي فقد أبناءه الأربعة على الضفاف – هو من اخترع هذه العادة البكماء.
لكن الحقيقة، كما هي دائمًا، كانت أعمق: العطش هو من فرض المعاهدة، لا الفضيلة.



مسرح الماء

مع مرور الأيام، تحوّلت البركة إلى مسرح صامت.
لم يكن أحدٌ يشرب أولًا، فذلك يُفسَّر كجشع.
ولا أحد يطيل الوقوف، فذلك يُفسَّر كنية سوء.
والتمساح… لم يكن يغيب أبدًا. نصف جسده الظاهر كان كافيًا لزرع الخوف في جذور الرقاب.

انعكاسات الماء باتت مرآةً مجنونة:
الغزلان ترى أعناقها كأنها أطباق،
الزرافة ترى قرنيها كسيفين،
الفهد يرى عينيه بلا رمش،
أما التمساح، فكان الوحيد الذي يرى نفسه كما هو… لا حاجة له بالقناع، فهو الصمت ذاته.

كلّ مساء، قبل الشرب، كان الأرنب يلمس سطح الماء ثلاث مرات بكفّه الأمامي.
قالوا إنها طقوس الوفاء، لكنه كان يتمتم سرًا:
“لستُ أطلب ماءً… أطلب نجاةً مؤقتة.”

الأسد، سيد العرش، صار يُطلق زئيرًا خفيفًا عند الوصول، ليس تهديدًا، بل كأنه يعلن عن التزامه بقواعد المسرحية.
حتى الفهد بات يتنحّى جانبًا كي لا يُخيف ظلّه الغزلان.
كلٌّ منهم صار أكثر “تهذيبًا”، لكنّ أعينهم كانت أكثر ذعرًا.

وكان التمساح يبتسم… دائمًا.
ابتسامته لم تكن للسخرية، بل للعلم:
“أنا الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن طمسها،
أنا ما تحت الماء.”



طقوس الغروب (المشهد الفاصل)

في الغروب، كانت الشمس تذوب في البركة كحلقة دم متناثرة.
تجتمع الحيوانات، كما يفعل المذنبون في آخر صلواتهم.
ولا أحد يشرب أولًا.

الماء في ذلك الوقت لم يكن شفافًا، بل كان شاشةً يعرض فيها الجميع صورهم الحقيقية.
الأشباح تطفو، وانعكاسات الوجوه تتلوّى.
أعين الأرامل، أفواه القتلة، أكتاف المتواطئين… جميعهم حاضرون.

السلحفاة حاولت أن تبدأ، اقتربت، همّت بأن تلمس الماء، فإذا بتموّجات خفيفة تظهر أمامها.
لم يكن أحد يتحرّك، لكن شيئًا من الأعماق نبض.
تراجعت السلحفاة، فهم الفيل الرسالة، فتقدّم بدله، ملأ خرطومه ببطء، لكن عينيه لم تبارحا ظلّ التمساح.

من تحت الماء، كانت فقاعات دموية ترتفع، ببطء.
ليست فريسة اليوم، بل بقايا الأمس.
ولم يسأل أحد عن الغائبين.

وفجأة…
صفّر عصفور صغير من أعلى الشجرة:

“أيها العطشان… الماء ينظّف فمك،
لكنّ القاع… لا يغسل الضمير.”

ثم طار بعيدا ثم سقط ميتًا.
لا أحد رآه يُقتل. لا أحد اعترف بسماعه وهو يغرد ولا أحد يذكر آخر ما قال.

قالت الغزالة للأسد بصوت شبه هامس:
“لماذا نأتي كل مساء إن كنّا نعلم أن القاع جائع؟”
فردّ دون أن ينظر إليها، وهو ينظف كفّيه في الماء كقاضٍ متقاعد:
“لأنّ قدومنا… هو ما يجعل القاع قاعًا، لا فمًا مفتوحًا.”



الاختفاء البطيء

ليالٍ متتابعة، اختفى البعض:
البومة، التي كانت توثّق المشاهد، رحلت.
القرد، الذي كان يسخر من كل شيء، لم يُرَ ثانية.
حتى الذئب، صاحب الابتسامة الرمادية، اختفى كأنّه لم يولد.

البركة لم تتغير، لكن المرايا صارت أكثر كذبًا.
والماء صار مالحًا…
لم يكن ذلك بفعل الشمس، بل من الدموع.
حتى الهواء أصبح أكثر لزوجة… كأنه يخنق الحناجر التي تريد أن تصرخ ولا تجد اللغة.

السلحفاة توقفت عن القدوم.
الغزلان بدأت ترسل صغارها في مجموعات حراسة.
الأسد أصبح صامتًا حدّ الرعب.



الماء الأخير

في يومٍ ما، تجرّأ الفهد على أن يشرب أوّلًا.
لم ينظر لأحد.
لكن الدم بدأ ينزف من جانب فمه بعد أول جرعة.
فر بعيدا عن الماء لكنه مات بعد ساعتين.

لم يُدفنه أحد ولم يقترب منه جسده أي حيوان.

التمساح صعد في تلك الليلة، للمرّة الأولى.
سحب نفسه من الماء، ومشى على اليابسة بين الجميع.
شرب بصوتٍ واضح.
ثم نظر إلى الجميع وقال:
“المعاهدة انتهت… أنتم الآن لي.”

لكن أحدًا لم يرد.
لأن الجميع، حينها، كانوا قد فهموا:
المعاهدة لم تكن يومًا للسلام… بل لتأجيل الذبح.



رسالة من القاع

في الصباح التالي، وُجد حجر صغير عند ضفة الماء، عليه نقوش لا تشبه لغة الحيوانات، ولا تشبه العواء أو الزئير.
كانت أقرب لما كان يقوله العصفور قبل موته، أو ما كانت تراه الزرافة من مشد يعلو رؤيتهم.

كانت الرسالة تقول:

“هذا الماء لم يكن طَهورًا،
ولم يكن آمنًا،
بل كان مرآة مقلوبة،
رأيتم فيها ضعفكم، فسمّيتموه سلماً.”



في نهاية المشهد:

رحلت الغابة عن البركة.
لم تعد الطيور، لم تعد الأرجل تطبع آثارها حول الماء.
التمساح عاد يسبح وحده، لكن ماؤه صار راكدًا.
لا صيد.
لا دماء.
لا صمتٌ يُؤكل.

ومرّت سنوات…
وجاء بشرٌ ذات يوم، يشربون من البركة.
ضحك التمساح لأول مرة منذ قرن.

❝ لقد عاد المسرح مرة أخرى… لكن الممثلين قد تغيروا. ❞



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلسفة وابي سابي: حين تصبح الشقوق ذهبًا — دع النور يتسرّب من ...
- العالم على مائدة واحدة: حين تتحوّل الشهية إلى مرآة للهوية
- أحبّهم… لكنهم يُطفئونني: الشخصيات السامّة بعيون الوعي
- الثقة الحذرة: فن بناء الجسور مع الآخر دون الوقوع في فخ المظا ...
- حين يُصاب الضمير العام بالشلل: الفساد الأخلاقي والإعلام بوصف ...
- الديمقراطية المعلّبة: أمريكا تُصدّر الحروب… وترامب يدخل المع ...
- الفوضى: هندسة الوجود بين العلم والسياسة والفن
- ومضات في حياة البروفيسور شريف الصفتي: ما بين الحقيقة والتهوي ...
- “الحمار الذهبي”: رحلة التحول بين الجسد والمعرفة
- السلاح النووي: قنبلة معلقة فوق رقبة البشرية
- هل حان الوقت لبناء ملاجئ بدلًا من أوهام السلام؟
- “رحيل”.. حين تهمس الروح بالحياة وتختبر الحب كفناء
- الجسر لا السيف: في مدارات الجدل الإنساني الراقي
- فيليس ويتلي: حين كتبت العبدة قصائد الحرية
- درهمٌ في مؤخرة الحافلة: حين يصطدم جنون الثروة بجنون السلطة
- المتعة لحظة… والسعادة قرار: من فخ اللذة إلى جسر الحكمة
- تغيير التفكير… بوابة لتغيير المصير
- قوة التفكير الإيجابي: قراءة في كتاب جيسون وولبرز
- فلسطين أولاً: تفكيك أسطورة “إسرائيل” في النصوص الدينية والتا ...
- قراءة نقدية في رواية الإسكافي: حين يُخاط الجلدُ الروح


المزيد.....




- اختفاء يوزف مِنْغِله: فيلم يكشف الجانب النفسي لطبيب أوشفيتس ...
- قصة القلعة الحمراء التي يجري فيها نهر -الجنة-
- زيتون فلسطين.. دليل مرئي للأشجار وزيتها وسكانها
- توم كروز يلقي خطابا مؤثرا بعد تسلّمه جائزة الأوسكار الفخرية ...
- جائزة -الكتاب العربي- تبحث تعزيز التعاون مع مؤسسات ثقافية وأ ...
- تايلور سويفت تتألق بفستان ذهبي من نيكولا جبران في إطلاق ألبو ...
- اكتشاف طريق روماني قديم بين برقة وطلميثة يكشف ألغازا أثرية ج ...
- حوارية مع سقراط
- موسيقى الـ-راب- العربية.. هل يحافظ -فن الشارع- على وفائه لجذ ...
- الإعلان عن الفائزين بجائزة فلسطين للكتاب 2025 في دورتها الـ1 ...


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - معاهدة الماء: حين يصبح الصمت ديانة