أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أوزجان يشار - العالم على مائدة واحدة: حين تتحوّل الشهية إلى مرآة للهوية















المزيد.....



العالم على مائدة واحدة: حين تتحوّل الشهية إلى مرآة للهوية


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8385 - 2025 / 6 / 26 - 14:06
المحور: قضايا ثقافية
    


عندما يصبح الأكل فلسفة

في قصر “فونتانبلو” الفرنسي، كان الملك هنري الرابع يرفض تناول طعامه إلا إذا قدمه له 12 خادماً على أطباق من الذهب. وفي الجانب الآخر من العالم، في جبال التبت، كان الرهبان البوذيون يكتفون بوعاء واحد من شاي الزبدة المملح طوال اليوم.
في أوائل القرن السابع عشر، عاش رجل اسمه نيكولاس وود في مقاطعة كِنت الإنجليزية، وكان بمقدوره أن يلتهم خروفًا كاملًا وحده في جلسة واحدة. قصة حقيقية جعلت منه مادة للكتب، و”أعجوبة بشرية” تستعرضها المهرجانات. لكن ما يثير التأمل في سيرة “الآكل العظيم من كِنت” ليس فقط حجم معدته، بل ما تكشفه هذه الشهية المفرطة عن علاقتنا بالطعام…
فالإنسان، منذ أن أضرم النار الأولى، لم يأكل فقط ليعيش، بل ليعبّر، ويحتفل، ويُظهر انتماءه.
الطعام، منذ الأزل، لم يكن مسألة بقاء، بل مشهدًا ثقافيًا، وقصة جماعية، ومسرحًا للهوية.
بين هذه المشاهد المتناقضة، تكمن حقيقة عميقة:
الطعام ليس مجرد حاجة جسدية، بل هو مرآة تعكس روح الأمم، وقصة ترويها الألسنة قبل أن تذوقها الشفاه.

ــــــــ

المشرق العربي – مائدة تصنعها الأرض والذاكرة
من النيل إلى الشام إلى الخليج: الطعام كامتداد للهوية لا للوصفة

في المشرق العربي، لا تُقاس ثقافة الطعام بما يُؤكل فقط، بل بكيفية تقديمه، وتوقيته، والكلمات التي تُقال قبل وأثناء وبعد الوجبة.
الطعام هنا لا يُطهى فحسب، بل يُروى، ويُغنّى له، ويُؤنسن.
إنه امتداد حيّ للتراث الفرعوني، البابلي، الآرامي، الإسلامي، العثماني… حتى يكاد كل طبق أن يكون وثيقة، لا وصفة.



مصر: المائدة التي تُطبَخ بالضحك والذكريات

إرث النيل… والمواسم

في مصر القديمة، سجّل الفراعنة تفاصيل الزراعة والحصاد على جدران المعابد، ولم تكن موائدهم تخلو من الأسماك المقددة، البصل، والقمح المخمر.
ومن هذا الإرث ولد طبق “الفسيخ”، رمز النهر والموسم، يُؤكل في الربيع مع الخبز والليمون، كطقس أكثر من كونه وجبة.

أما “الملوخية”، فشجرة تحولت إلى حساء، وأسطورة تقول إن المعز لدين الله الفاطمي منعها يومًا لأنها تُذهب العقل. ثم أعادها الناس في صمت، وكأنهم بذلك أعادوا العقل للطبق نفسه.

فن التوليف والتبذير الجميل

المطبخ المصري لم يكن يومًا مطبخ مكونات فاخرة، بل مطبخ تدبير وتوليف:
حمام يُحشى بالفريك، أمعاء تُحشى بالأرز (الممبار)، لحم يُسلق ثم يُقلى (فتة)، أرز يُلوّن بعدة طرق (كشري، محشي، رز معمر).
والفكرة ليست في الوفرة، بل في اختراعها:
كيف تُشبع البيت برغيف، وتُقيم الوليمة من بقايا طنجرة.

مائدة تُضحك وتُحاور

يجلس المصري على مائدته كما يجلس في مقهى: يروي نكتة، يسخر من السلطة، يُناور عن صحن الجار، ويخوض جدالًا في السياسة بين لقمتين.
الطعام هنا أداة تعبير شعبي، ومتنفسٌ جماعي، وشكل من أشكال الفُكاهة اليومية.



بلاد الشام: الزعتر كهوية… والمائدة كمقام

الذاكرة الفلسطينية والنكبة على المائدة

الطعام في فلسطين لم ينجُ من التهجير، لكنه قاومه.
من “المقلوبة” التي تُقلب فوق الطنجرة كإعلان تحدٍ، إلى “المسخن” الذي يُفرش بالبصل والزيت والخبز، وكأنه خريطة تُؤكل، لا تُقرأ.
المائدة الفلسطينية لا تُقدَّم، بل تُستعاد، كما تُستعاد البلاد: ببطء، بحنين، وبخبز يُخبز في طابون الجدات.

الشام والطقس الاجتماعي

في دمشق، لا يُقدَّم الحمص دون مناقشة أصوله.
وفي بيروت، تتنافس المناقيش والزيتون على المائدة الصباحية، كما يتنافس الشعراء على الميكروفون.
الولائم هنا عرض ثقافي: الكبّة النية، المحاشي، التبولة، والمتبل، تُقدَّم كأنها فرق موسيقية، لا مجرد أطباق.



الخليج: مائدة البحر والتوابل… من اللؤلؤ إلى الوليمة

مدن بنت مطبخها على البحر وتجارة لا على النفط

في الخليج العربي، لم يكن الطعام يومًا ابنًا للصحراء وحدها، بل نتاج بحر مفتوح، وموانئ تستقبل البهارات والعطور والنكهات منذ قرون.
من البصرة إلى مسقط، ومن جدة إلى المنامة، كانت السفن الشراعية تعود محملة بالبخور الهندي، والزنجبيل، والفلفل الأسود، وجوزة الطيب.
وتلك البهارات لم تكن تُباع فقط، بل دخلت إلى “قلب القدر”، وأعادت تشكيل المائدة الخليجية التي لم تكن يومًا معزولة، بل كانت مائدة كوزموبوليتانية بامتياز.

صيد اللؤلؤ… ومائدة اسماك الصافي والهامور

قبل النفط، كان أهل الخليج يغامرون في عمق البحر بحثًا عن اللؤلؤ. كانت رحلة الغوص تستمر شهورًا، يعقبها استقبالٌ بطقوس الأكل الجماعي.
السمك المجفف، والأرز، والتمر، كانت هي أساسيات “وجبة الغوّاص”، لا لأنها بسيطة، بل لأنها تحفظك حيًّا في وجه الملح والتعب.

وكان من الشائع إعداد “المالح” – وهو السمك المجفف بالملح – وطبخه في ماء الأرز مع الليمون الأسود، ليكون طعامًا صلبًا ومقاومًا للفساد.

الهريس والمجبوس… من الحقول إلى الموانئ

في قلب المائدة الخليجية التقليدية يلمع طبق “الهريس”، قمح مطهو مع اللحم لساعات حتى يتحول إلى مزيج كريمي غني.
أما “المجبوس” فهو وليمة تُطهى بالأرز والبهارات المستوردة من الهند، مخلوطة بلحم الغنم أو الدجاج أو السمك.
هذه الأطباق لم تكن مجرد وصفات، بل هي دليل على التقاء المحلّي بالعالمي، وعلى أن الخليج منذ زمن طويل يعرف كيف يطهّي نفسه بذوقه الخاص، دون أن يفقد جوهره.

الضيافة الخليجية… شيفرة من الرموز الاجتماعية

التمر ليس فقط طعامًا، بل تحية.
والقهوة تُغلى على نار من الذاكرة، وتُسكب في فنجان صغير لا يُملأ إلا للنادرين.
هزّ الفنجان بعد الشرب ليس رفاهية، بل لغة تقول: “شكرًا، يكفيني.”
وفي الأعراس والمناسبات، تتحوّل المائدة الخليجية إلى بيان من الكرم والاعتزاز: ذبائح كاملة، أطباق أرز تفوح منها بهارات جلبها الأجداد من البحر، ووجوه تضيء بالبخور والعنبر.



وفي المشرق مائدة تُروى لا تُوصف

من حمّام القاهرة المحشي بالفريك، إلى خبز الطابون الفلسطيني، إلى قهوة الضيافة الخليجية… لا تُختصر مائدة المشرق العربي في الوصفات، بل في تاريخٍ يؤكل، ويُضحك، ويُصلّى عليه أحيانًا.
هي مائدة لا تنسى من أين جاءت، حتى وإن غيّرت أطباقها، لأنها تعرف أن الطعام في هذا الجزء من العالم، ليس طقسًا منزليًا فقط، بل خطاب ثقافي طويل النَفَس.

———
من فاس إلى الجزائر وتونس: كيف صاغت الأندلس والصحراء والهوية الخاصة نكهة المغرب الكبير؟

حين تصبح المائدة مساحة للخيال لا للمقادير

في المغرب الكبير، لا تُقاس الأطباق بكمّ التوابل فقط، بل بثراء الخيال الذي صنعها.
هنا، تطهى اللحوم بالفاكهة، وتُعطّر الأرزات بالقرفة والقرنفل، وتُخفي الصلصات أسرارًا من قصور الأندلس وأسواق تومبكتو.
الطعام هنا تأريخ شفهي للذاكرة العربية، والأمازيغية، والأندلسية، والإفريقية، يُكتب في الطواجن، ويُروى بالنعناع، ويُختم بالشاي.



المغرب: حيث تتكلم الطواجن لغة الشعر

الكسكس… طبق تتلوه الأيدي لا الملاعق

في كل بيت مغربي، هناك يوم للكسكس. غالبًا يوم الجمعة، لا لأنه وجبة فقط، بل لأنه تجمّع شعائري للبيت، للذاكرة، وللحنين.
يُطهى الكسكس على البخار فوق مرق من اللحم والخضر، ويُقدّم على طبق ضخم يتشاركه الجميع، كأنهم يتشاركون القصعة كرمز لحياة مشتركة.
اليد اليمنى تلملم الكسكس، واليد اليسرى تبقى بعيدة: لأن الأكل هنا تربية قبل أن يكون شبعًا.

الطاجين: الغطاء الذي يُخفي سرديات التاريخ

“الطاجين” ليس طبقًا فقط، بل هو وعاء من فخار يُطهى فيه الطعام على نار هادئة لساعات.
يُطهى فيه اللحم بالخوخ، أو الدجاج بالزيتون، أو السمك بالليمون المخلل، ويغدو الطهي فعل صبر، وشكلًا من أشكال التأمل.

الشاي المغربي: العطر الذي يُسكب ببطء

لا يُشرب الشاي في المغرب… بل يُحتفى به.
تُضاف إليه أوراق النعناع الطازجة، ويُصب من علوٍ ليُكثّف الرغوة. هذه الرغوة ليست شكلاً جماليًا فقط، بل علامة على كرم الصانع.
ولأن الشاي يُصب ثلاث مرات – “الأول مرّ كالحياة، الثاني قويّ كالحب، الثالث حلو كالموت” – فإن كل جلسة شاي هنا قصيدة كاملة تُقال بالصمت.



الجزائر: المائدة بين الجبال والأعراس

البرقوق واللحم: الحلو والمالح في زفاف دائم

في الجزائر، يجتمع اللحم المجفف مع البرقوق المعسل، وتُطهى الدجاجة مع الزبيب والقرنفل، وتُقدم الحلوى قبل المقبلات أحيانًا.
هذه ليست فوضى نكهة، بل فلسفة نكهة، نابعة من تقاطع التأثير التركي، والفرنسي، والأمازيغي، والصوفي، والبدوي.

طاجن التفاح باللوز… طبق يُطبخ في الشعر

تشتهر الجزائر بأطباق لا يوجد لها مثيل في مطابخ العالم: طاجن التفاح باللوز، وطاجن الدجاج بالكمثرى والقرفة.
هذه الأطباق لم تأتِ من ندرة المكونات، بل من ثراء المخيلة، وكأن المائدة الجزائرية قررت أن تكون متحفًا لتصادم الحواس.

الكسكسي عند الأعراس… والعيش الجماعي

في الأعراس، يُطهى الكسكسي بمرق “الشخشوخة”، أو يُقدّم مع قطع اللحم والعصبان (كرش محشوة).
ويُصطف الرجال في طوابير، والنساء في مطابخ عملاقة، وكل حيّ يعرف أن العرس بدأ حين تفوح رائحة الكسكس من كل بيت.



تونس: البهارات تتكلم بلكنة متوسطية

الحريرة والبريك… توقيعات العائلة على المائدة

“البريك” التونسي – وهو مثلث من العجين الرقيق يحوي بيضًا وسمكًا ومعدنوسًا – لا يُقلى عبثًا، بل يُقدَّم في رمضان كفاتح شهية وقصيدة سريعة.
أما “الحريرة”، فهي حساء عابق بالعدس والحمص والكرفس والطماطم، تتجاوز كونها وجبة لتصبح طقسًا تربويًا عند الفطور.

الهريسة… الشِعر الأحمر

في كل بيت تونسي، هناك وعاء من الهريسة: معجون الفلفل الأحمر والثوم وزيت الزيتون.
تُستخدم مع كل شيء: في الشطائر، والصلصات، وحتى مع البيض.
الهريسة ليست طعامًا فقط، بل علامة عاطفية، ومؤشر قوة، ونقطة فخر وطني.



تتحول المائدة إلى فن شعبي في المغرب الكبير، لا يُؤكل الطعام ليُؤكل، بل ليُحكى، ويُقدّم، ويُعاش.
من الطاجن المغربي الذي لا يُرفع غطاؤه إلا بحذر، إلى الكسكس الجزائري الذي يُطهى جماعيًا، إلى الشاي المغربي الذي يُصب كشلال من الزمن…
إننا أمام مائدة تُشبه الفن الإسلامي: مليئة بالتفاصيل، متقشفة أحيانًا، مترفة أحيانًا، لكنها دائمًا ذات معنى عميق.
ـــــــ

المشرق الآسيوي – مائدة الحكمة، الطقوس، والتحدي

من اليابان إلى التبت، ومن كوريا إلى ماليزيا: كيف تصنع الفلسفة والدين والمناخ نكهة شرق آسيا حيث تتحول الوجبة إلى طقس والتذوق إلى فن. في المشرق الآسيوي، لا يُعد الطعام مجرّد وقود للجسد، بل تأملٌ في الكون.
الطبق ليس مجرد شيء يُؤكل، بل فعلٌ أخلاقي، وفلسفي، وديني، يُنظَّم بحسب الطاقة (الين واليانغ)، ودرجة الحرارة، وموقع القمر أحيانًا.
إنه عالم حيث تذوق النودلز يصدر صوتًا، وشرب الشاي يتطلب تدريبًا، وتقديم الطعام يُدار كما تُدار الحروب… ببطء، وصبر، وحكمة.



اليابان: عندما يصبح الطهي شعرًا صامتًا

الكايْسِكي – وجبة الملوك والزاهدين

“كايْسِكي” ليست وجبة عادية، بل تجربة متعددة الأطباق تُقدَّم في تسلسل مدروس، مع اعتمادٍ صارم على التوازن الموسمي واللوني.
الطبق الواحد يُقدَّم وكأنه لوحة من المتحف، والمكونات يُعامل كل منها ككائن مقدّس لا يُهدر.
لا عجب أن اليابانيين يقولون “إيتاداكيماس” (أتلقى الطعام) قبل الأكل، لا تعني “بالهناء” بل اعترافًا بالحياة التي تم التضحية بها لأجل هذه الوجبة.

صوت الأكل… علامة احترام

في اليابان، إصدار صوت عند تناول الرامن أو السوبا ليس عيبًا، بل دلالة على الاستمتاع، وعلى أن الطاهي قد نجح.
هذه الأصوات التي قد يعتبرها الأوروبيون “سلوكًا غير مؤدب” هي هنا لغة ضمنية من الشكر والتقدير.



كوريا الجنوبية: فن التخزين والتخمير… والحرب ضد الزمن

الكيمتشي: ذاكرة الأمة في جرة

الكيمتشي – ملفوف مخمّر حار – ليس فقط “طبق جانبي”، بل ركيزة الهوية الكورية.
يُخزن في جِرار تحت الأرض لعدة أشهر، ويؤكل مع كل شيء تقريبًا.
وقد تحوّل تحضيره إلى مهرجان سنوي جماعي يسمى “كيمجانغ”، تشارك فيه العائلات والجيران، مما جعله حدثًا ثقافيًا أكثر من كونه وصفة.

الشوربة بعد الشواء: ترتيبٌ أخلاقي

في كوريا، لا يمكن إنهاء الوجبة دون “كَمجيتانغ” (حساء العظام)، لأن احترام الحيوان الذي تم أكله يعني استخدام كل أجزائه.
الطعام هنا يدور حول القيمة الأخلاقية مثلما يدور حول الطعم.



الصين: التوازن أولًا، والكمية بلا خجل

التجشؤ… تصفيق للطبق

لا يزال البعض في أقاليم الصين يعتبر التجشؤ بعد الطعام علامة على الرضا.
والعشاء الصيني لا يُبنى حول طبق رئيسي، بل مجموعة أطباق صغيرة تُشارك جماعيًا، في إشارة إلى روح التعاون والجماعة.

الطعام كطبّ شرقي

في الصين القديمة، كان الطبيب هو من يعد قائمة الطعام، لا الطاهي.
فالطعام يُقسم بحسب “الين واليانغ” – البارد والساخن، الرطب والجاف – ويُستخدم لشفاء الجسد لا فقط لإشباعه.
ولهذا يُنظر إلى الثوم، والزنجبيل، والحساء الساخن، كأدوية يومية بقدر ما هي أطعمة.



التبت: طعام المرتفعات… وروح الزهد

شاي الزبدة… الطاقة في وجه الصقيع

في المرتفعات الشاهقة للتبت، لا يجد الماء حرارة كافية ليغلي، لذلك يُعدّ شاي الزبدة من أوراق الشاي الأسود القوي، ممزوجًا بزبدة الياك والملح.
هذا الخليط الغريب بالنسبة للغرباء هو في الحقيقة قوة روحية وجسدية تُمنح للرهبان والرعاة، وتُقابل بابتسامة لا بكلمة.

تقديس البساطة

الطبق التبتي قليل، متقشف، لكنه مليء بالنية. فكل وجبة تؤكل ببطء، في صمت، كما لو كانت صلاة.
ولا يؤكل أي شيء دون تأمل… لأن في التقاليد البوذية، ما تأكله، هو ما تُصبح عليه.



ماليزيا: المائدة التي اجتمعت فيها الحضارات الثلاث

الإسلام، الهندوسية، والبوذية… في طبق واحد

تحتضن ماليزيا مزيجًا فريدًا من المسلمين، والبوذيين، والهندوس، مما يجعل طعامها ساحة حوار نكهي وتاريخي.
“الساتيه” (أسياخ مشوية تقدم مع صلصة الفول السوداني) هو طبق يلامس القلوب الماليزية مثلما يلامس المعدة.
أما “ناسي ليماك”، وهو أرز مطبوخ بحليب جوز الهند مع سمك، فهو طبق الإفطار القومي الذي تجد له 100 نسخة في شارع واحد.

الطعام الحلال… والرقابة الروحية

في ماليزيا، لا يُقدّم الطعام فقط بحسب الذوق، بل بحسب العقيدة.
المسلمون يُراعون بدقة شروط الذبح، والنظافة، ومنع الكحول.
ولهذا نشأت مطاعم “حلال فقط” لا تستقطب المسلمين وحدهم، بل أصبحت رمزًا للجودة والانضباط الصحي في نظر كثيرين.



على مائدة آسيا، كل طبق يعتب فن وكل نكهة فلسفة

في المشرق الآسيوي، الطعام ليس للاستهلاك بل للتأمل، والتقدير، والاستبطان.
من نودلز اليابان إلى كيمتشي كوريا، من طاوية الصين إلى زهد التبت، ومن مشاوي ماليزيا إلى معابد بورما…
نكتشف أن المائدة هناك لا تقدم وصفات، بل رؤى للعالم.
كل قضمة، كل رشّة ملح، كل حبة أرز… تحمل رسالة من حضارة.

ــــــــ

أوروبا – من مطبخ الملوك إلى طاولة الشعب

كيف تحولت المائدة الأوروبية من مظاهر الطبقية الأرستقراطية إلى نكهات في مطابخ عامة الشعب؟

عندما كانت المائدة ساحة حرب ناعمة في أوروبا، لم تكن المائدة مجرد مكان للطعام، بل كانت ساحة تفاخر طبقي، ومجال استعراض سياسي، وأحيانًا جبهة حقيقية تُحسم فيها النزاعات بالسكين والشوكة.
من أطباق الملوك الغارقة في الذهب والزبدة، إلى طاولات الشعب المزدحمة بالخبز والجبن، كانت كل وجبة تمثل طبقة، وكل نكهة تحمل هوية.
لكن مع الثورات، والتغيرات الاجتماعية، والحروب… تغيّرت المائدة كما تغيّرت أوروبا.



فرنسا: الطهي كفن راقٍ… والسياسة بالجبن

المطبخ الفرنسي… عندما تكتب الوجبة بالأكسان غراف

في فرنسا، لا يُعد الطعام طقسًا بيولوجيًا، بل فنًا له قواعده، ومصطلحاته، وترتيب طبقياته:
مدخلات (Entrées)، طبق رئيسي (Plat)، تحلية (Dessert)، وكل شيء يُكتب ويُنطق بنغمة أدبية.
وحتى مكونات المائدة – الجبن مثلًا – هي خريطة جغرافية بحد ذاتها. هناك أكثر من 400 نوع جبن، ولكل منطقة جبنها الذي يُعتز به أكثر من لغتها.

الخبز… أكثر من عيش

الفرنسي لا يأكل الخبز… بل يحمله كوثيقة وطنية.
الباغيت يُؤخذ صباحًا من المخبز، ساخنًا، مكسور الطرف، وغالبًا ما يُؤكل نصفه قبل الوصول للبيت.
الخبز هنا ليس مكمّلًا، بل جزء لا يتجزأ من الفلسفة الغذائية الفرنسية: الطازج، الحرفي، اليومي.



إيطاليا: الطاولة كعائلة والنكهة كدستور

المكرونة لا تُكسر… ولا تُخون

في إيطاليا، يُعد كسر السباغيتي قبل طهوها خيانة وطنية صغيرة.
المكرونة هنا ليست “معكرونة”، بل ذاكرة عائلية، ووصفة تنتقل من الجدات، وتُطهى ببطء، وتُقدَّم كجزء من الكرامة الذاتية.

البيتزا: من طعام الفقراء إلى جواز سفر عالمي

بدأت كوجبة شعبية في أزقة نابولي، مكونة من العجين، الطماطم، الجبن… فقط.
لكنها تحوّلت إلى أيقونة عالمية تحمل اسم إيطاليا حيثما ذُكرت.
هي قصة نهوض الفقراء بنكهاتهم حتى على موائد الأغنياء.



إسبانيا: التاباس… فلسفة التشارك والمجالس

طعام الحكايات… لا الامتلاء

في إسبانيا، لا يُؤكل الطعام كي يُشبع الجوع، بل كي تُفتح الأحاديث.
“التاباس” هي أطباق صغيرة – زيتون متبل، شرائح جامون، بيض مقلي فوق بطاطا – تُقدَّم في البارات مع كل مشروب، وكأن كل قضمة تفتح جملةً في رواية اجتماعية.

الباييلا: طبق الفلاحين… الذي غزا القصور

“الباييلا” طبق أرز مطهو مع الزعفران، واللحم، أو المأكولات البحرية، نشأ في الحقول، لكنّه تسلل إلى القصور، وحمل لون إسبانيا الذهبي في طعمه ورائحته.
وهو طبق يُطهى ليُؤكل جماعيًا، ما يعكس فلسفة التشارك التي لا تزال تُميّز المائدة الإسبانية.



اليونان: الطهي كامتداد للفلسفة

الزيتون… شجرة الحكمة والسلطة

في الأساطير الإغريقية، منحت أثينا شجرة الزيتون للبشر، ومنذ ذلك الحين، صار الزيتون محورًا ثقافيًا ونكهويًا في حياة اليونانيين.
الجبنة الفيتا، السلطات المحمّضة، اللحم المشوي المتبل بالليمون والأوريغانو… كلها طقوس تحمل روح الطبيعة، وروح زيوس وأثينا.

المائدة كنقاش أفلاطوني

حتى اليوم، يجتمع اليونانيون على موائد طويلة، يتحدثون أكثر مما يأكلون.
يُقدَّم الطعام كمقدمة، وليس كغاية، لأن الهدف ليس الامتلاء، بل المشاركة والجدل، والانتماء إلى الدفء.



حين تحولت ثقافة المائدة الأوروبية مرآة من الملاعق الفضية في قصر لويس الرابع عشر، إلى المائدة الجماعية في حانة يونانية على شاطئ صغير…
من الشوربات الفرنسية التي تُطهى بالساعات، إلى التاباس الإسباني السريع…
تُظهر لنا أوروبا أن المائدة تحوّلت مع الزمن، من مساحة للتفاخر الطبقي إلى مساحة للحوار الليبرالى الديمقراطي.

المطبخ هنا لا يُعبّر عن الماضي فقط، بل عن التطور، والتحول، والصراع، والاعتراف بالآخر.
ولهذا، تبقى المائدة الأوروبية خريطة لا تُقرأ بالعين، بل تُتذوق بالحنين والفهم.

—————

أفريقيا – الطعام كلغة القبيلة والروح والأسطورة

كيف تُطهى الهوية من الذرة واليام والبهارات؟ من نيجيريا إلى إثيوبيا وجنوب أفريقيا

حين يكون الطعام من أجل الانتماء، لا فقط لتشبع،
في جنوب الصحراء أفريقيا، لا يُؤكل الطعام منفصلًا عن الإيقاع، والغناء، والهوية.
المائدة ليست مجرد طعام على طبق، بل جماعة، قبيلة، أغنية تُقرَع على الطبل، وذاكرة تُحفظ في القِدر.
في كل حساء، قصةُ هجرة؛ في كل خبزة ذرة، جذور شجرة عائلة.
فهنا، يُطهى الطعام باليد، ويُؤكل باليد، ويُمنح باليد، ليُؤكد أنك لست وحدك على هذه الأرض.



نيجيريا: حيث يُغلى الفلفل على نيران الهوية

“جولوف رايس”… المعركة التي لا تنتهي

“جولوف رايس” – أرز مُعدّ بالطماطم، الفلفل، البهارات، والدجاج – ليس مجرد وجبة، بل ساحة صراع حضاري بين نيجيريا، السنغال، وغانا: من صنعه أولًا؟ من يتقنه أكثر؟ من يملك الوصفة الأصلية؟
هي حرب نكهة، لكنها أيضًا حرب انتماء، تشعلها كل مناسبة، وتُنهيها كل معدة مشبعة.

الـ”إيبا” و”الفوفو”… الطحين الذي يجمع العائلة

في نيجيريا، لا يُقطع الخبز، بل يُعجن الطحين (من الكسافا أو اليام) ليصنع “إيبا” أو “فوفو”، يُؤكل بالأصابع مع اليخنات الساخنة.
ويُغمس في الحساء بحركات لولبية، كأنك ترسم على طبقك قصة.
هنا، اليد لا تُلوّث الطعام… بل تباركه.



إثيوبيا: المائدة التي تُمدّ كما تُمدّ الصلاة

الإنجيرا… الخبز الذي يَنفَس ويتنفّس

“إنجيرا” ليست مجرد خبز مسطح مصنوع من دقيق “التيف”، بل طبق وفراش وأداة تقديم في آنٍ واحد.
عليها تُسكب الصلصات، وتُقسم بالأيدي، ويتشاركها الجميع، كما يتشاركون أغنية صباحية أو صلاة مسائية.
هي الرمز الأوضح لفكرة “الجماعة أولًا” في الثقافة الإثيوبية.

الصوم الديني والطعام النباتي

بفضل التقاليد المسيحية الأرثوذكسية، يصوم الإثيوبيون نصف أيام السنة تقريبًا، مما جعل المطبخ الإثيوبي نباتيًا بامتياز.
العدس، والحمص، والملفوف، والبطاطا، تُطهى بأنواع لا تُحصى من الصلصات، وتُقدَّم بذات الغنى الذي يُقدّم به اللحم… إن وُجد.



جنوب أفريقيا: الهجين الذي ذاق كل نكهات العالم

بوينغتونغو – مزيج القبائل والمستعمرات

المطبخ الجنوب أفريقي هو كوكتيل فريد من الزولو، والكوسا، والهولنديين، والهنود، والمالاي.
ففيه تجد الساموسا بجوار “البوبوتي” (لحم مفروم بالبيض والزبيب)، وتشرب “رويبوس” مع الكاري.
إنه طبق عالمي بالمحلي، ومحلّي بالعالمي.

البراي… الشواء كطريق للحوار

“البراي” – حفلات الشواء الجماعية – ليست مناسبة للطعام فقط، بل مؤسسة اجتماعية تُؤسس فيها علاقات، تُحل نزاعات، وتُولد صداقات.
النار تُشعل ليس للطهو فقط، بل لجمع الشتات، وتذويب الطبقات.



الغرب الإفريقي:حيث تروي الجدات القصص على نار الحساء

في ساحل العاج، توغو، غينيا، والسنغال، تُعد الصلصات بحكمة عمرها آلاف السنين.
النساء يطهوّن، ويغنين، ويشربن من نفس القِدر، ويُطعمن أطفالهن القصص مع اللقمة.
النكهة ليست فقط ما يُضاف من التوابل، بل ما يُقال من كلام بين تقليبة وأخرى.



المائدة التي لا تكتمل إلا بموسيقى الطبول في جنوب الصحراء القارة الأفريقية، الطعام لا يؤكل وحده، ولا يُطبخ بلا حضور بشري حيّ.
هو أغنية قبل أن يكون وجبة، وهوية تسبق الشوكة والسكين.
تُؤكل الوجبة كاملة بلا فضلات، لأن النعمة تُحترم.
ويُترك دائمًا جزء صغير، يُقال إنه للأرواح التي تحرس المكان.

لذلك، لا عجب أن القارة التي أنجبت أول إنسان…
ما زالت تطهو كما لو أن أول وجبة في التاريخ تُطهى كل يوم.

ــــــــــــ
أمريكا اللاتينية – المائدة التي طهتها الحضارات، والدماء، والحنين

من حضارات الأزتك والمايا إلى مزيج إسباني-أفريقي: كيف تشكّل الذوق اللاتيني؟

المطبخ اللاتيني أعتبر الطهو كعملية شفاء جماعي وتحرر من الاستعمار، أمريكا اللاتينية ليست فقط أرضًا للشمس والفوضى والجيتارات… بل هي أرض طُبِخَت فيها الهويّة على نار من الانقراض والمقاومة، والتهجين، والنجاة.
المطبخ هنا لا يحكي فقط عن الذوق، بل عن الدم الذي سال، واللغات التي اندثرت، والتوابل التي غيّرت خرائط العالم.
كل قضمة من التورتيلا، كل رشّة من الفلفل، كل ذرة على الفحم… هي سجلّ من التاريخ، لا يُقرأ إلا بالحنك.



المكسيك: شعب يزرع الذرة… ويعبدها

التورتيلا: الخبز الذي تصنعه الإلهة

في الأساطير الأزتكية، خُلِق البشر من عجينة الذرة. لذا فالـ”تورتيلا” ليست فقط خبزًا، بل جسد الأمة المكسيكية.
تُصنع يوميًا في المنازل، وتُشوى على “الكومال” الحار، وترافق كل وجبة.
وفي كل لفّة تورتيلا حول فاصولياء أو لحم، نُعيد فعل الخلق الأول.

التاكو… فلسفة الطبق المحمول

“التاكو” ليس سندويشًا، بل قصيدة محمولة تأكلها أصابعك.
لحم مشوي، جبن، صلصة “بيكو دي جالو”، بصل وكزبرة…
لكن الأهم: أنه يُؤكل واقفًا، في الشارع، بصحبة العابرين، لأنه في المكسيك:
إذا لم تأكل في الشارع… فأنت لم تأكل حقًا.



بيرو: حيث التقى المحيط مع الأنديز في طبق واحد

السيفيتشي… ماء البحر كمقبلات

“سيفيتشي” هو سمك نيء يُنقع في عصير الليمون الحامض، مع الفلفل الأحمر والبصل.
لكن ما يبدو بسيطًا هو في الواقع ذروة عبقرية حضارة قبل الكولومبوسية، كانت تعرف أن “الليمون يُطهّي”.
يُقدم الآن في مطاعم ميشلان، لكن روحه تبقى في الأكشاك، حيث يُقطَّع الطازج أمام عينيك.



البرازيل: طعم أفريقيا في غابة الأمازون

الفيجوادا… الحساء الذي وُلد من العبودية

طبق “الفيجوادا” – مزيج من الفاصولياء السوداء، وقطع اللحم، والأرز – بدأ في قدور العبيد الأفارقة الذين كانوا يُعطَون أسوأ أجزاء الذبيحة.
لكنهم خلقوا منه طبقًا دسمًا، دافئًا، مُغنيًا… أصبح اليوم الطبق الوطني للبرازيل.
فيه تذوب الفروق الطبقية، كما تذوب الدهون في المرق.

الموكويكا… حين يُطبَخ المحيط على نار جوز الهند

السمك، الجمبري، الفلفل، زيت النخيل الأحمر، وحليب جوز الهند…
تُطهى هذه المكونات في طبق “الموكويكا”، وتُنطق كأنها أغنية سامبا…
هو طبق يحكي عن زنجية الطعم، وملوكية الروح، وبحرية البهار.



كولومبيا وفنزويلا: بين القهوة والأريبا

الأريبا… الخبز الذي لا يُصنع بالماء فقط

“الأريبا” – خبز الذرة المحشو بالجبن أو اللحم أو البيض – هو طبق صباحي، لكنه رسالة وطنية.
يتنازع عليه الكولومبيون والفنزويليون كما يتنازع الطباخون على أصل الباييلا.
لكنه في النهاية، خبز يجمع الشعب على نار هادئة بعد حروب لا تنتهي.

القهوة… عطر الجبل

القهوة الكولومبية لا تُشرب فقط، بل يُشمّ عبيرها من الشرفة، ويُحتفى بها في المهرجانات، وتُروى بها القصص.
إنها أكثر من مشروب، إنها صلة وصل بين الجبل والعاصمة، بين الحقل والمقهى، بين الذاكرة والنهار.



الأرجنتين: حين تصنع السهوب طبقًا بوزن قارة

الأسادو… الشواء كدين وطني

في الأرجنتين، لا يُشوى اللحم على عجل.
تبدأ طقوس “الأسادو” من الصباح، ويتطلب إتقانًا في إشعال الفحم، اختيار القطع، توقيت التقليب…
وحين يجتمع الأصدقاء، تُصبح الوجبة حكايةً تُروى على دخان النار، ومناسبةً لإعادة ترتيب صداقات الحياة.



أمريكا اللاتينية تطبخ كما تُغني… بحرارة وعاطفة ودم

في أمريكا اللاتينية، الطعام ليس مادة، بل تاريخ حيّ يُؤكل، ويتنفس، ويُحكى.
النكهة هنا تأتي من الألم والفرح، من الرقصة والدمعة، من الإسباني والأفريقي، من القمح والكاكاو، من الذرة والفلفل.
كل طبق يُذكرنا بأن هذه القارة – رغم الجراح – لا تزال تُدهشنا بطبق جديد… وبقصة لم تُروَ بعد.

ــــــ

الطعام… سؤال الإنسان الأول والأخير

من لذة النكهة إلى مأساة الجوع… حين تكشف المائدة مَن نحن حقاً وحين تكون لقمة الخبز مرآة العدالة الاجتماعية.

كان يوسف عليه السلام يرى في حبة القمح رؤيا، ومصيرًا، وأداة إنقاذ.
في حين رآها الفراعنة خزينةً استراتيجية.
أما الولايات المتحدة، فذات يوم رأت فيها سلاحًا سياسيًا، فألقت بأطنان من القمح الزائد في البحر، لا لإنقاذ الجوعى، بل لإبقاء حكومات دكتاتورية في حالة تبعية غذائية.
هكذا تكشف المائدة في نهاية المطاف جوهر الحضارات لا نكهاتها فقط:
هل نأكل لنحيا… أم نأكل لنتسلّط؟
هل نطهو الطعام… أم نطهو مصير الإنسان معه؟

بين الشراهة والمجاعة: حين تتحوّل المائدة إلى مرآة قاسية للضمير

في زاوية من العالم، تكدّست الموائد بما لا تُطيقه المعدة، حتى بدا وكأن بعض الناس يأكلون كمن يخشى ألا يأتي الغد، فيملأ صحنه كما لو أن له ثلاث بطون.
شراهة صامتة، تُمارس باسم الترف، ونهمٌ يعكس خواءً روحيًا أكثر مما يعكس جوعًا جسديًا.
بينما، في زاوية أخرى من نفس الكوكب، يموت بشرٌ بصمت، ليس لقلّة الغذاء، بل لقلّة العدالة.

في غزة، تُحاصَر المساعدات، ويُقنَّن الدقيق، وتُطهى الوجبات تحت القصف من بقايا خبز يابس وماء مالح.
وفي السودان واليمن والصومال، يموت الأطفال جوعًا في صمت عالمي خانق، بينما العالم يحتفل بيوم “الهوت دوغ العالمي” و”أسبوع البيتزا”.
إنها مفارقة العصر: الطعام موجود، لكن يُهدر؛ والجوع موجود، لكن يُنسى.



النكهة كهوية… والطعام كقوة ناعمة

تعلمت الشعوب أن تبني ذاتها في وصفاتها.
من “الكسكس المغربي” إلى “الكاري الهندي”، ومن “البقلاوة التركية” إلى “البيتزا الإيطالية”، أصبح الطعام بطاقة هوية وطنية ووسيلة دبلوماسية.
بل حتى الدول التي لم تكن تملك موقعًا جيوسياسيًا مهمًا، أصبحت تحفر اسمها في الوعي العالمي بطبق مميز.

فكما قال المؤرخ تيموثي تشرشل:

“إذا أردت أن تعرف كيف تفكر أمة، فلا تدخل برلمانها… بل مطبخها.”



الطعام والهجرة: نكهات تسافر معنا… لتقول من نحن

في نيوزيلندا، تجد “الدمبلينغ الصيني” و”الفتوش اللبناني” على نفس الطاولة.
في أستراليا، تُقدم “البرياني” بجانب “الباربكيو”.
وفي كل مطبخ في الشتات، تجد الأمهات يطهوْن الأمل، والذاكرة، واللغة، قبل أن يضعن البهارات.

اللاجئ السوري يصنع فلافله في شوارع برلين ليقول: “أنا هنا، ما زلت حيًا.”
والمرأة الفلسطينية في غزة، وسط الحصار، تصنع كعك العيد، ليس من أجل الطعم… بل ليظل الطقس مستمرًا، والكرامة قائمة.



حين يصبح الطعام مفارقة العصر: تخمة في جهة… ومجاعة في الجهة الأخرى

في بوفيهات الفنادق الفاخرة، تُملأ الصحون بكميات هائلة من الطعام، ثم يُلقى نصفها في القمامة.
يأكل بعض الناس كما لو أن لديهم معدتين لا واحدة.
في حين، وفي اللحظة نفسها، هناك من يموت على حافة طبق فارغ في إفريقيا، أو في شوارع غزة التي تُقصف والموائد فيها تأنّ جوعًا.
في الهند، ينام الملايين دون عشاء، رغم أن الأرض تفيض بالرز والعدس…
لكن من يُسيطر على الطعام، يُسيطر على الجسد، ثم على القرار.

وهكذا، أصبح الطعام أخطر مما نظن: نعمة أو نقمة… عدل أو سلطة.



الطعام والسياسة: قمح يُنقذ… وطحين يُحاصر

ما بين يوسف الذي أنقذ مصر من المجاعة بحكمة زراعية نبيلة، وأممٍ تُحتجز فيها الشحنات في الموانئ تحت ذريعة “العقوبات”، يتضح أن السيطرة على الغذاء هي أقوى من الجيوش.
الولايات المتحدة ألقت القمح في المحيط لأنها أرادت أن تضبط السوق وتكبح أسعار الحبوب، لا أن تُطعم الجوعى.
الواقع يقول إن بعض البلدان الجائعة تملك الماء، والأرض، والشمس، والعامل… لكنها لا تملك القرار.



مائدة الإنسان الأخير: بين أن يكون إنسانًا… أو مفترسًا

لم تكن المائدة يومًا بريئة.
هي مرآة: إن جلسنا حولها بالمحبة… أطعمتنا وسَكَنَ الجوع.
وإن جلسنا حولها بالأنانية… تحوّلت إلى ساحة شرهة تنهش القيم قبل الطعام.
في زمن أصبح فيه الأكل “عرضًا على تيك توك”، والطبخ “شهرة لحظية”، والمعدة “ساحة استهلاك”، نحتاج أن نتساءل:

هل نتذكر مَن لا يجدون لقمة؟
هل نُشكر الطعام حقًا… حين نملأ الصحون ونرميها؟
هل ندرك أن أعظم حضارة تبدأ من كيف نأكل… لا فقط ماذا نأكل؟



الخاتمة: الطعام… لغة العالم التي تكشف أعماقه

من المائدة المصرية التي ابتكرت “الحمام المحشي” و”الفسيخ”،
إلى الجزائرية التي تمزج “اللحم بالبرقوق”،
ومن المغربية التي تطهو الطاجن كقصيدة على الفحم،
إلى الهندية التي تزرع التوابل كما تزرع الذاكرة،
ومن الخليج الذي استقبل بهارات الشرق عبر موانئ اللؤلؤ والغوص،
إلى أوروبا التي حوّلت الطعام إلى بروتوكول،
وأفريقيا التي تغني للحساء كما تُغني للأجداد…
يبقى الطعام هو اللغة الوحيدة التي لم تُترجم… لأنها أصلاً لا تحتاج إلى ترجمة.



وأخيرًا…

على كل مائدة… حقّ إنسان آخر في الحياة.
وعلى كل لُقمة تُهدَر، روحٌ ربما كانت تحيا بها.
فلنأكل كما يأكل الواعون: بامتنان… وبمسؤولية.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أحبّهم… لكنهم يُطفئونني: الشخصيات السامّة بعيون الوعي
- الثقة الحذرة: فن بناء الجسور مع الآخر دون الوقوع في فخ المظا ...
- حين يُصاب الضمير العام بالشلل: الفساد الأخلاقي والإعلام بوصف ...
- الديمقراطية المعلّبة: أمريكا تُصدّر الحروب… وترامب يدخل المع ...
- الفوضى: هندسة الوجود بين العلم والسياسة والفن
- ومضات في حياة البروفيسور شريف الصفتي: ما بين الحقيقة والتهوي ...
- “الحمار الذهبي”: رحلة التحول بين الجسد والمعرفة
- السلاح النووي: قنبلة معلقة فوق رقبة البشرية
- هل حان الوقت لبناء ملاجئ بدلًا من أوهام السلام؟
- “رحيل”.. حين تهمس الروح بالحياة وتختبر الحب كفناء
- الجسر لا السيف: في مدارات الجدل الإنساني الراقي
- فيليس ويتلي: حين كتبت العبدة قصائد الحرية
- درهمٌ في مؤخرة الحافلة: حين يصطدم جنون الثروة بجنون السلطة
- المتعة لحظة… والسعادة قرار: من فخ اللذة إلى جسر الحكمة
- تغيير التفكير… بوابة لتغيير المصير
- قوة التفكير الإيجابي: قراءة في كتاب جيسون وولبرز
- فلسطين أولاً: تفكيك أسطورة “إسرائيل” في النصوص الدينية والتا ...
- قراءة نقدية في رواية الإسكافي: حين يُخاط الجلدُ الروح
- الشخصية الجدلية: بين الجاذبية والتنافر
- القيادة بين التحذير والتجاهل: دروسٌ من الكارثة


المزيد.....




- هل يثير اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران زخما لوقف ح ...
- أول اعتراف رسمي.. وزير الخارجية الإيراني: أضرار كبيرة طالت ا ...
- مصادر إسرائيلية تتحدث عن قتال صعب وإجلاء جنود جرحى بخان يونس ...
- هل تجبر عمليات المقاومة نتنياهو على إبرام صفقة شاملة في غزة؟ ...
- تزايد اختطاف الأطفال على يد جماعات مسلحة بموزمبيق
- فتح الحدود بين إريتريا وإثيوبيا دون إعلان رسمي.. ما القصة؟
- دينيس فيلنوف يقود أولى مغامرات جيمس بوند تحت راية أمازون
- لماذا فشلت إسرائيل في كسر إيران؟
- انقسام في الكونغرس بعد أول إفادة بشأن ضرب إيران
- البيت الأبيض لخامنئي: -عليك أن تحفظ ماء وجهك-


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أوزجان يشار - العالم على مائدة واحدة: حين تتحوّل الشهية إلى مرآة للهوية