أوزجان يشار
الحوار المتمدن-العدد: 8424 - 2025 / 8 / 4 - 21:08
المحور:
السياحة والرحلات
الهبوط: ليس مطارًا بل عتبة لزمن مختلف
ما إن لامست الطائرة أرض إثيوبيا، في مايو عام 1991م، بينما كانت إفريقيا تكتب فصلًا جديدًا في تاريخها المضطرب، حتى توقفت رحلتي لست ساعات فقط في مطار أديس أبابا. قالوا: ترانزيت، لا أكثر. مجرد عبور.
لكنني الآن، بعد مرور عقود، أقول: لم تكن ست ساعات، بل ستة قرون اختزلت نفسها في لحظة. لم تكن محطة عابرة، بل جرحًا جميلًا في الذاكرة، ندبة تذكّرني أن بعض الأماكن لا تزورها، بل هي من تزورك.
شعرت أنني لم أهبط في مدينة، بل على حافة قارة تنظر إليّ من عمق القرون. رائحة البن المحمّص تختلط بدخان الأوكالبتوس، كأن الطبيعة هنا تتكلم، تهتف: “مرحبًا بك في حضنها الأول.”
لم أكن أنوي الدخول، كانت مجرد ترانزيت… ست ساعات فقط. لكن أديس أبابا لا تسمح لأحد بالمرور مرور الكرام. تحدّثت مع شاب إثيوبي من رجال شرطة المطار ما إن خرجتُ من صالة الترانزيت، وقلت له: هل المدينة بعيدة؟ وهل من الممكن القيام بجولة لا تتعدى الست ساعات؟ وكانت الإجابة: نعم، بإمكانك الخروج، ولكن لا تبتعد كثيرًا. أقترح عليك زيارة الشارع الكبير الذي تكثر فيه البازارات والتحف، ويُسمّى “شارع تسفاي” بمنطقة “بازار ميركاتو”، وهي واحدة من أكبر الأسواق المفتوحة في إفريقيا، وتبعد حوالي 5–10 دقائق بالسيارة عن المطار، بحسب حركة المرور.
⸻
الخروج من المطار: عبور إلى الزمن الموازي
ما إن خرجت من بوابة المطار، حتى شعرت وكأنني خرجت من الزمن، لا من مبنى.
الهواء الثقيل برائحة البن المحمّص، ممزوجًا بنسيم خفيف بدا وكأنه يتحدث بلغة غير مرئية.
الأرض، المبلّلة من أمطار خفيفة، كانت ترتجف تحت قدميّ كما لو أنها تتذكّر خطى الإمبراطور هيلا سيلاسي…
والأصوات من حولي، مزيج من الأمهرية والعربية والتيغرينية، كانت تشكل أوركسترا همس تُغني: “أنت الآن في بطن القارة… في فم التاريخ العميق.”
في التاكسي بدا الزمن وكأنه انكسر وتسلّل من بين عقارب الساعة، تاركًا المدينة تتنفس خارج تقويمها. أديس ليست عاصمة إثيوبيا فحسب، بل أرشيف حي للروح الإفريقية، تقف شامخة على مفترق تاريخي بين الممالك المسيحية القديمة، والقبائل الوثنية، والتيارات الإسلامية الصامتة، والاحتكاك الكولونيالي الذي لم يفلح في التهامها، رغم محاولاته المتكررة.
⸻
هواء يتكلم لغات متداخلة
رائحة القهوة المحمّصة، والأوكالبتوس المهتز على الطرقات، والوجوه الممهورة بملامح الحبشة العريقة، كلّها جعلتني أشعر أنني خرجت من مطار دولي ودخلت متحفًا يسير على قدميه.
تتداخل في أديس الألسن بلا صراع: الأمهرية، التيغرينية، الأورومية، القليل من العربية، وأحيانًا كلمات من الفرنسية أو الإيطالية القديمة. لكن الصوت الحقيقي هو صوت الأرض، الذي ينطق عبر بشرها أكثر مما تفعل لغاتهم.
هنا لا تسود قومية واحدة، بل تتنفس المدينة من خلال توتر التعدد العرقي نفسه. كل تيار بشري هنا هو نهر مستقل: الأمهرى الأرستقراطي، الأورومي المتصل بالحقول، التغراوي الحامل لذاكرة الحرب، وأبناء الجنوب الذين يتحدثون بلغات لا تُكتب، لكنها تعلّمك كيف تصغي للحجر والمطر.
⸻
الشارع… مكتبة بلا فهرس
“شارع تسفاي” ليس مجرد سوق، بل كتاب مفتوح لا ترصفه الدولة بل ترصفه الأرواح.
محلات صغيرة تبيع تماثيل صخرية، بعضها لصليب أكسومي، وبعضها لتمائم من طقوسٍ أقدم من المسيحية.
على الجدران تتدلّى أوشحة كتلك التي تُلبس في طقوس التعميد الحبشي، ألوانها تُحاكي طبقات التربة: الأحمر لتيغراي، الأخضر لغابات الجنوب، الأصفر لأوروميا.
بائع الكتب يجلس بجوار بائع البخور، وفي الزاوية مقهى صغير كأنه ديرٌ متنكر. جلست فيه لأتذوق القهوة على طريقتهم. لا توضع في كوب بل تُسكب كشعيرة، تمرّ بثلاث مراحل كأنها طقس عبور: التحميص، الطحن، ثم التقديم مع البخور. قالت لي المرأة التي قدّمتها، بنبرة لا تحتمل الشك:
“هنا نشرب القهوة بعد أن نحمصها فوق الفخار لكي نستعيد أرواحنا.”
لم يكن سوق “بازار ميركاتو” مزدهرًا بالثراء، لكنه كان مزدهرًا بالكرامة.
لم يلاحقني أحد بعرضٍ سياحي، لم يلتصق بي طفل صغير يتسوّل، لم يرفع أحد صوته. بل كان كل من مررت بجانبه، يسلّم عليّ بنظرة دافئة وصمت مشبع بالوقار. كأنما المدينة كلها قررت أن تهمس لا أن تصرخ، وأن تقدّم نفسها كما هي، دون تكلف أو تجمّل.
⸻
الكرامة تسير على قدمين
كانت المحالّ مفتوحة على اتساعها، تحوي مصنوعات يدوية تعبق بحكايات منسية: تمائم نحاسية وفضية تنقش على سطحها رموزًا من كل الديانات: الهلال الإسلامي، الصليب الأرثوذكسي، ووشم غامض يُحيل إلى ما قبل التوحيد.
صلبانٌ خشبية مائلة بزخارف دائرية تنتمي للمرتفعات المقدسة في لاليبيلا، كأن تلك الكنائس المحفورة في الصخر قد قررت أن تتسرب إلى الشارع.
أوشحة من حرير خشن، بلون الأرض المحروقة، كأنما نُسجت من صبر نساء يعرُكن الحياة على صدور الجبال ويغنين في الظلال.
تجوّلت بين الحلي المصنوعة من قرون الجاموس والصلبان المجوفة، والملح القادم من منخفض داناكيل، وخرز الجنوب.
امرأة أورومية بعينين بلون الطين كانت تبيع كل هذا ببرود داخلي يشبه كبرياء الملوك. لم تسألني من أين أتيت، لكنها بدت وكأنها تعرف أكثر مما تقول.
في ملامحها تلخّصت إثيوبيا: أرض لا تخجل من تناقضاتها، بل تصنع منها حليًّا وهوية تتجول في السوق مثل أي سلعة ثمينة.
أما الرائحة، فكانت مزيجًا من “المرّ” الإثيوبي والبخور ودخان الحطب. تتسلل من أبواب المنازل والمقاهي الصغيرة، وتُعطّر الهواء بنكهة لا تُشبه غيرها.
ورائحة القهوة، لم تكن مجرد شراب، بل كانت صلاة تُبخّر بها الأرواح، كأن البن هنا ليس مشروبًا بل طقسٌ يومي يُقام على نار خفية.
⸻
وجوه لا تُنسى
قبل أن أخرج من المطار، وحتى بعد عودتي إليه، كانت الوجوه أول ما شدّني وآخر ما رافقني.
وجوه لا تخفي هويتها، لا تتبرّج، ولا تتكلف أن تُعجب الغريب.
• رجل من الأمهرا بعمامة بيضاء، تقف عيناه في منتصف المدى وكأنهما تنقلان إليك إرثًا من الحكمة المحفوظة.
• امرأة من الأورومو تبتسم بطمأنينة وهي تحمل طفلها، كأنها تؤدي وظيفة الكون في تنظيمه العاطفي.
• شاب من التيغراي يعبر بجسده النحيل بثقة، يحمل حول عنقه صليبًا حُفر بخشب مقدس وكأنه لا يرتديه… بل يحمله كذاكرة.
لم تكن هذه الأعراق المتعددة متزاحمة كما يحدث في بلدان أخرى، بل كانت تشبه فسيفساء قديمة، كل قطعة منها في مكانها.
هنا لا أحد يُذيب الآخر، ولا أحد يُقصيه. الجميع موجود كما هو. كما لو أن إثيوبيا همست لأبنائها: لا أريدكم أن تذوبوا في قالب واحد، بل أن تبقوا على اختلافكم، متحدين في التنوع، لا متحدين بالمحو والعزلة.
⸻
حوار لم أكن جاهزًا له
وأنا أعود أدراجي نحو المطار، سألني الشاب ذاته من الشرطة، بنبرة أمهرية رخيمة:
“ماذا أخذت منا؟”
قلت له صادقًا: “لا شيء.”
ابتسم وهزّ رأسه، ثم قال بهدوء:
“بل أخذت كل شيء. لأننا لا نعطي أشياء… نحن نعطي أرواحنا حتى تعود مرة أخرى.”
⸻
وداع بلا تصفيق
لم أكن أحمل هدايا تقليدية حين غادرت، لكن في حقيبتي كانت هناك حفنة من ست ساعات التقطتها ذاكرتي لأكتبها اليوم دون وعي، وكأن الأرض أرادت أن تسافر معي.
كانت هناك قطعة نقدية محفور عليها وجه الإمبراطور هيلا سيلاسي، لم تفصح عن تاريخها من كثرة الأيادي التي تداولتها، لكنها احتفظت بروح من مرّ بها.
والأهم: صورة ذهنية لامرأة لم تبتسم قط، لكنها بنظرتها فقط أيقظت في داخلي يقينًا أن إثيوبيا لا تحتاج أن تشرح نفسها لأحد. فهي قادمة بخطى واثقة، محمولة على ظهر التاريخ والحضارة.
⸻
ما خرجتُ به لم يكن تاريخًا ولا معلومة. كان شعورًا دفينًا بأنك حين تدخل مكانًا لا يطلب إعجابك، تجد نفسك معجبًا به دون مقاومة.
لم يزعجني شرطي المطار، بل تواصل معي وكأني ضيفه الشخصي. لم يحاول سائق التاكسي استغلالي. لم أشعر أنني مشروع مستهلك يُلاحقه بائع. لم أسمع تذمرًا رغم الفقر الظاهر، ولم أرَ نظرة استعطاف واحدة من متسوّل.
بل رأيت كرامة تمشي على قدميها، وصبرًا يعرف كيف يحتفظ بجماله الداخلي دون إعلان.
إثيوبيا… كانت واحةً جميلةً في الذاكرة.
ليست محطة، ولا وجهة سياحية. إنها طعنة لذيذة في كبرياء الوعي، تذكّرنا أن هناك أماكن لا تنتمي لزمننا، لكنها تعيش فيه.
أما أديس أبابا، فهي تجعلك تشكّ إن كانت هذه ست ساعات… أم ستة قرون من الانصهار في نبض قارةٍ ترفض أن تموت، رغم المعاناة وقلة الحيلة.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟