أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8444 - 2025 / 8 / 24 - 15:42
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في تاريخ البشر الممتد عبر آلاف السنين، تتكرر مشاهد الدم والانتقام وتتعاقب صور القوة والهيمنة، لكن نادرًا ما يتجسد الغضب المبرر في شخصية قادرة على تحويل مصابها الشخصي إلى استراتيجية دولة كاملة، ونادرًا ما تقف امرأة في زمن شديد القسوة، زمن القبائل والجيوش والجزية والقتل الطقسي، لتثبت أن العقل أقدر من السيف وأن الانتقام إذا ما صيغ بدهاء، قد يصبح درسًا تاريخيًا يخلد في ذاكرة الأمم. هذه هي حكاية الأميرة أولجا من كييف، المرأة التي صارت أسطورة حية في القرون الوسطى، لا فقط لأنها انتقمت من قتلة زوجها إيغور روريك بطرق مروعة وصادمة، بل لأنها وضعت أساسًا سياسيًا ونفسيًا لدولة كييف روس، وأرست مفهوم الردع في عالم لم يعرف سوى منطق الغابة والدم. إنها قصة غريبة ومذهلة، تجمع بين الألم الشخصي والحنكة السياسية، بين الغضب المشروع والمكر البارد، بين أنوثة تحولت إلى قناع ضعف استُعمل كسلاح، وقوة عقلية حولت الفقد إلى مشروع بناء دولة.
كانت كييف روس في القرن العاشر ميلادي كيانًا ناشئًا، اتحادًا فضفاضًا لقبائل سلافية يخضع معظمها تحت حكم أسرة روريك الفارانجية، تلك الأسرة القادمة من الشمال التي جمعت بين العنف الفايكنجي والتنظيم السياسي الجديد. هذه الدولة كانت لا تزال هشة، تعتمد على جمع الجزية لتأمين مواردها، وكانت مكانة الأمير تقاس بقدرته على فرض هذه الهيبة على القبائل التابعة. وكان الأمير إيغور، حفيد روريك نفسه، يجوب أراضي القبائل لجمع العسل والفراء والفضة والعبيد، مؤكدًا سيادته على كل من حاول التملص من الطاعة. بين هذه القبائل برزت قبيلة الدريفليان، التي سكنت الغابات الكثيفة، واسمها نفسه مشتق من كلمة الغابة، وكانت علاقتها بكييف علاقة متوترة دائمًا، فهي تارة تدفع الجزية مذعنة، وتارة تتمرد إذا ما رأت فرصة للانفلات. وفي سنة 945 ميلادية، ارتكب الأمير إيغور خطأً سيغير مجرى التاريخ: بعد أن جمع الجزية منهم، لم يكتفِ، بل عاد يطالب بالمزيد. كان ذلك بالنسبة للدريفليان إهانة قصوى، استفزازًا لكرامتهم الجماعية، وإمعانًا في إذلالهم. عندها قرر زعيمهم مال ورجاله التخلص من هذا الطاغية، فابتكروا طريقة للقتل تجسد الغابة نفسها: ثنوا شجرتين عملاقتين، ربطوا قدمي الأمير بكل شجرة، ثم أطلقوا الشجرتين لينشق جسده نصفين. لم يكن قتلًا فقط، بل كان مشهدًا رمزيًا رهيبًا يمزق جسد الدولة الوليدة كما يمزق جسد الأمير، رسالة رعب إلى كل من يظن أنه سيد الغابة.
كان يمكن لهذه الجريمة أن تنهي أسطورة روريك كلها، أن تفتح الباب أمام انهيار هيبة كييف روس. لكن القدر كان يحضر امرأة ستقلب المعادلة. كانت أولجا، زوجة إيغور وأم ولي العهد سفياتوسلاف الصغير، أرملة في موقع هش: محاطة بقبائل طامعة، ونبلاء يتشككون في قدرتها على الحكم، ودريفليان متربصين يريدون تزويجها من أميرهم مال ليكتسبوا شرعية حكم كييف. في تلك اللحظة، اختارت أولجا أن تضع قناع المرأة الضعيفة، لتقود خصومها إلى مصائدهم واحدًا تلو الآخر. بعث الدريفليان أول وفد إلى كييف ليعرضوا عليها الزواج من أميرهم، زاعمين أنهم قتلوا زوجها لأنه كالذئب يسطو عليهم، وأنها إن تزوجت أميرهم فإنها سترتاح وتبقى ملكة مكرمة. لم تصرخ أولجا في وجوههم، لم ترفض علنًا، بل تظاهرت بالقبول، وأخبرتهم أن يعودوا إلى قواربهم لتكرمهم في اليوم التالي. وحين عادوا، أمرت جنودها بحفر خندق ضخم، فحمل الوفد بزهوٍّ وغرور على أكتاف رجال كييف كما طلبوا، وأُلقي بهم في الخندق ودفنوا أحياء. كان المشهد صاعقًا: لم تكتف بقتلهم، بل دفنتهم تحت التراب، كأنها تقول إنهم لا يستحقون حتى دماءً تراق فوق الأرض. بهذه الضربة الأولى، رسمت خطتها: الانتقام سيكون تدريجيًا، عقوبة متصاعدة تستنزف عدوها وتتركه مشلول الإرادة.
لكنها لم تكتفِ. بعثت رسالة إلى الأمير مال تطلب رجالًا أعظم شأنًا من الوفد الأول لتكريمها أمام شعبها، فاستجاب مغرورًا وأرسل نخبة جديدة من أشراف قبيلته. استقبلتهم أولجا بابتسامة ودعوة للاستحمام بعد رحلتهم الطويلة. دخلوا الحمام الخشبي الكبير فرحين بالنظافة والراحة، لكن أولجا كانت قد أعدت خطتها: أُغلق عليهم الباب وأُشعلت النيران حتى احترقوا جميعًا. هنا يتجلى عمق رمزية الانتقام: الحمام في الثقافة السلافية كان مكان الطهارة والصفاء، لكنه تحول في يد أولجا إلى فرن للموت، موتٌ بالنار التي لا تبقي ولا تذر. أحرقت النخبة، قطعت الرأس السياسي، وأبقت القبيلة بلا قيادة فاعلة. لم يكن ذلك جنونًا، بل حسابًا: بإزالة الأشراف، يصبح جيش الدريفليان جسدًا بلا عقل.
ثم انتقلت إلى الضربة الثالثة، الأكثر مكرًا. أعلنت أنها ستزور أرض الدريفليان لتقيم مراسم حداد على قبر زوجها، وطلبت من شعب القبيلة الحضور بمئاتهم مع الكثير من الخمر والطعام. كان طقس “البوميني” أو مأدبة الحداد طقسًا مقدسًا، يجتمع فيه الناس ليكرموا الميت بالغناء والشرب. اعتقد الدريفليان أن أولجا قد قبلت الصلح أو ربما الاستسلام، فاحتشد الآلاف. وحين غرقوا في السكر، أعطت أولجا الإشارة لجندها فانقضوا وذبحوا خمسة آلاف رجل دفعة واحدة. كان هذا الانتهاك أقسى من أي معركة، إذ حولت قدسية الحداد إلى مجزرة، ورسخت في قلوب الناجين أن لا طقس مقدس يحميهم، ولا عهد يصمد أمام انتقامها. لقد قتلت رجالهم بسيفهم هم: سذاجتهم وغرورهم.
وأخيرًا، كان على العاصمة إسكوروستين أن تدفع الثمن النهائي. حاصرتها أولجا وجيشها عامًا كاملاً، صامدة رغم المقاومة. وحين طلب السكان الصلح، عرضوا الجزية من العسل والفراء، لكنها رفضت ببرود وطلبت شيئًا بدا تافهًا: ثلاث حمامات وثلاث عصافير من كل بيت. فرح السكان إذ اعتبروا الطلب علامة رحمة، فجمعوا الطيور بسرعة. لكن أولجا أظهرت دهاءً يتجاوز الخيال: أمرت بتثبيت قطع قماش مشتعلة مغموسة بالكبريت في أقدام الطيور، ثم أطلقتها. عادت الطيور غريزيًا إلى أعشاشها في أسقف المنازل واسطبلات المدينة، فاندلعت الحرائق في كل بيت في لحظة واحدة. التهمت النيران المدينة كلها، وخرج السكان هاربين ليقعوا في أيدي جندها بين قتل وأسر. كانت النهاية حاسمة: لم تعد هناك قبيلة دريفليان تُذكر، ولم يبق من عاصمتهم سوى رماد.
هذا المسلسل المروّع من الانتقام لم يكن مجرد ثأر أرملة غاضبة، بل كان درسًا استراتيجيًا متكاملًا. أولجا اختارت أن تُصعّد العقوبة خطوة بخطوة، من النخبة إلى الجيش إلى الشعب، مستخدمة الخداع والرموز والطقوس نفسها كسلاح. كل خطوة كانت مصممة لتبث الرعب وتترك أثرًا نفسيًا يتجاوز الدماء. لم تحارب في معركة مفتوحة، بل صنعت سلسلة من المسرحيات القاتلة، كل واحدة أعنف وأذلّ من سابقتها، حتى لم يبقَ للعدو روح ولا إرادة. هنا يتجلى ما نسميه اليوم “الحرب النفسية” و”الصدمة والترويع”، قبل قرون من أن تُصاغ هذه المصطلحات.
ولم تتوقف أولجا عند الانتقام. بعد أن ضمنت العرش لابنها، أدارت كييف بحكمة نادرة. أصلحت نظام الضرائب والجزية، ووضعت أسس الإدارة المركزية. الأهم أنها زارت القسطنطينية، والتقت بالإمبراطور قسطنطين السابع، واعتنقت المسيحية، لتصبح أول حاكم مسيحي في كييف روس. صحيح أن ابنها سفياتوسلاف بقي على الوثنية، لكن حفيدها فلاديمير سيعمد روسيا بأسرها لاحقًا، وكان الطريق قد مُهد بقرارها. ومن ثم رفعت الكنيسة الأرثوذكسية شأنها حتى قدستها بعد وفاتها. هكذا جمعت بين صورة المنتقمة الدموية وصورة القديسة الأم المؤسسة. تناقض غريب لكنه يعكس طبيعة العصور الوسطى: حيث يمكن للدم والقداسة أن يجتمعا في شخص واحد.
حين ننظر إلى قصة أولجا، ندرك أننا لا نقف أمام امرأة ثكلى فقط، بل أمام عقل استراتيجي من الطراز الأول. لم يكن انتقامها عاطفة عمياء، بل خطة متدرجة مدروسة. لم يكن هدفها فقط إرواء عطش الدم، بل بناء هيبة الردع لدولة كييف. في عالم كان يحكمه الرجال بالسيوف والرمح، أثبتت امرأة أن العقل والخداع قد يكونان أمضى من الحديد. لهذا بقي اسمها حيًا، ليس فقط في كتب التاريخ الروسية، بل في خيال كل من يتأمل كيف يتحول الغضب إلى مشروع دولة، وكيف يصبح الانتقام، حين يُصاغ بدهاء، درسًا خالدًا في السياسة والقيادة.
⸻
المراجع والمصادر
• Primary Chronicle (The Tale of Bygone Years), Nestor the Chronicler, 12th century.
• Constantine VII Porphyrogenitus, De Administrando Imperio.
• Simon Franklin & Jonathan Shepard, The Emergence of Rus 750–1200.
• George Vernadsky, Kievan Russia. Yale University Press.
• Florin Curta, Eastern Europe in the Middle Ages (500–1300).
• Christian Raffensperger, Reimagining Europe: Kievan Rus’ in the Medieval World.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟