أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8437 - 2025 / 8 / 17 - 22:32
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لغة تُسمع ولكنها لا تُفهم
منذ أن وُجد الإنسان على هذه الأرض وهو يطرح السؤال ذاته: هل نحن وحدنا من نملك لغة؟ وهل الكائنات الأخرى صامتة حقًا، أم أن لها أنظمة خفية للتواصل لا ندركها؟ قد تبدو أصوات الطير مجرد زقزقة عابرة، أو عواء الذئب مجرد صرخة في البرية، لكن خلف ذلك تختبئ رسائل مشفرة، تعني بالنسبة لتلك الكائنات ما تعنيه الكلمات والجُمل بالنسبة لنا.
في الذاكرة الدينية والروحية للإنسان، لم يغب هذا السؤال يومًا. بل إن القرآن الكريم نفسه قدّم لنا صورة بالغة العمق عن الطير والحيوان باعتبارها “أممًا أمثالنا”. ولعل أوضح مثال على ذلك ما مُنح لنبي الله سليمان عليه السلام من معجزة فريدة، إذ كان يفهم خطاب الطير والحشرات، ويأمرها فتطيعه، ويحاورها فتحاوره. هذه الصورة لم تكن مجرد مشهد إعجازي يخصّ نبيًا بعينه، بل كانت إعلانًا ربانيًا بأن الكون يتحدث، وأن الصمت الذي نتوهمه في الطبيعة ليس إلا جهلًا منّا بلغاتها.
واليوم، وبعد آلاف السنين، يعود العلم الحديث ليُحيي هذا السؤال القديم بوسائله الجديدة، باحثًا عن “القاموس الخفي” للحيوان والطير، وكأن الإنسان يحاول استعادة تلك القدرة السليمانية، ولكن ليس عبر الوحي والمعجزة، بل عبر الذكاء الاصطناعي وعلم الصوتيات الدقيقة.
سليمان الحكيم.. معجزة الطير والهواء
عُرف نبي الله سليمان في التراث الديني والكتب السماوية بأنه الملك الحكيم الذي جمع بين المُلك والنبوة، بين القوة والرحمة، وبين القدرة على إدارة البشر والجن والطير. لم يكن مجرد قائد سياسي أو ملك عظيم، بل كان رسولًا أُوتي سرًا لم يُعطَ لغيره: سرّ لغة الكائنات.
في سورة النمل نقرأ المشهد المدهش حين تفقّد نبي الله سليمان جنوده فلم يجد الهدهد، ثم عاد الطائر يحمل خبرًا من أقصى الأرض: “وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم”. لم يكن الأمر مجرد صدفة بلاغية، بل تأكيدًا على أن الطير يملك لغة منظمة، وأن الهدهد استطاع أن يلتقط معلومة سياسية ودينية ويعبّر عنها بوضوح أمام نبي الله.
وفي مشهد آخر نرى نبي الله سليمان يخاطب النمل في وادٍ بعيد: “حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون”. فيستمع النبي إلى خطابها ويفهم مقصدها، ثم يبتسم من قولها. وهنا يقدّم النص القرآني رؤية مختلفة تمامًا للطبيعة: ليست صامتة، وليست عمياء، بل هي ناطقة عاقلة، تتبادل الإشارات وتُقيم مجتمعات شبيهة بالمجتمعات البشرية.
إن الحديث عن النبي سليمان ليس مجرد ذكر لمعجزة دينية، بل هو تأسيس لفكرة كبرى: أن التواصل مع الكائنات الحية ممكن، وأن اللغة ليست حكرًا على الإنسان وحده.
بين الأسطورة والعلم.. حوارات الإنسان والحيوان
لم يكن سليمان وحده من استشعر أن في الكائنات الأخرى لغة خفية، فذاكرة الشعوب القديمة تمتلئ بحكايات عن بشر تحدثوا مع حيواناتهم، إما بالحدس، أو بالرموز الصوتية، أو عبر ما يُشبه “لغة الروح”. قد لا نجد لها تفسيرًا علميًا دقيقًا، لكنها تكشف عن يقين متجذّر لدى الإنسان بأن الطبيعة ليست غريبة عنا، وأنها قادرة على الإصغاء والرد.
في أقصى شمال الأرض، بين ثلوج ألاسكا القاسية، اعتاد سكان الإسكيمو من قبيلة الإينويت أن يتعاملوا مع كلاب الزلاجات الهاسكي باعتبارها أكثر من مجرد حيوانات تستخدم لجرّ الزلاجات فوق الجليد. كانوا يتحدثون إليها بلغة مختلطة من الأصوات والأنغام القصيرة، أحيانًا همسات وأحيانًا نداءات حادة، يزعمون أنها ليست أوامر فحسب بل رسائل مفهومة. المدهش أن هذه الكلاب لم تكن تتحرك بدافع التدريب وحده، بل كانت تُبدي استجابة تكاد توحي بأنها التقطت “المعنى”، لا مجرد الصوت.
وفي أعالي هضبة التبت، حيث يعيش الرهبان في أديرة معزولة، رُويت قصص كثيرة عن تواصلهم مع النمور. كانوا يقولون إنهم إذا واجهوا النمر لا ينظرون إليه بعين الصياد أو الخصم، بل يخاطبونه بنبرة خافتة تحمل السكينة. ومع تكرار التجربة، كانت النمور – تلك الكائنات المفترسة التي تثير الرعب – تُظهر سلوكًا هادئًا غير مألوف، فتتراجع أو تجلس بلا هجوم. بعض علماء الأنثروبولوجيا فسروا ذلك بأن الحيوان يلتقط عبر النبرة والهدوء إشارات غير لفظية عن نوايا الإنسان، فيتراجع عن العنف. لكن الرهبان أنفسهم كانوا يؤمنون بأن ما جرى أبعد من ذلك: حوار صامت بين روحين.
قصص مشابهة نجدها في ثقافات أخرى: الصيادون في إفريقيا الذين يتحدثون مع الأسود قبل الصيد كطقس روحي، أو المزارعون في الهند الذين يتبادلون مع أبقارهم أصواتًا أقرب إلى التحية اليومية. كلها إشارات إلى أن البشر لم يكفوا يومًا عن محاولة كسر جدار الصمت مع الحيوان.
اليابان والعلم.. حين تحدثت مكبرات الصوت بلغة الغربان
من بين كل تلك القصص القديمة، قد يظن القارئ أن التواصل مع الحيوان سيظل حبيس الأسطورة والدين والفلكلور. لكن اليابان قررت أن تخطو خطوة أبعد: التحدث مع الغربان علميًا.
الغربان في المدن اليابانية لم تكن مجرد طيور عابرة؛ بل تحولت إلى صداع يومي: تنبش أكياس القمامة وتبعثر محتوياتها، تُهاجم المحاصيل والفاكهة، وتطلق صرخات مزعجة في الصباح. القانون الياباني يمنع قتل الحيوانات، ما دفع الباحثين إلى ابتكار حل مبتكر: التواصل بدلًا من الإبادة.
قاد الباحث "ناوكي تسوكاهارا" مشروعًا غير مسبوق، بدأ فيه بتسجيل آلاف النبرات باستخدام أجهزة دقيقة كتلك المستعملة في التحقيقات الجنائية، ثم راقب سلوك الغربان بعد كل صوت. شيئًا فشيئًا، تكشّف أمامه معجم مدهش: أكثر من أربعين كلمة أساسية، تتراوح بين إشارات التحذير مثل “خطر، اهربوا من هنا”، وإشارات التعاون مثل “تعالوا، المكان آمن”، وصولًا إلى نداءات العثور على الطعام.
في محافظة ياماجاتا، وُضعت مكبرات صوت تبث بلغة الغربان عبارة تحذيرية، فابتعدت الطيور عن أماكن القمامة حتى تنتهي شاحنات الجمع. ثم وُضع الطعام في مواقع بديلة، ومع بث جملة “لقد وجدت الغذاء”، اتجهت الغربان إليها، تاركة الشوارع نظيفة وهادئة.
التكنولوجيا تكسر الحواجز بين الكائنات
لم تتوقف المغامرة اليابانية عند حدود الغربان. في أماكن مختلفة من العالم، تسعى فرق البحث إلى معجم كوني للحيوانات، محاولةً فك شيفرات تواصلها وفهم أنظمة التعبير الخاصة بها.
في فلوريدا، يعمل علماء الأحياء البحرية على دراسة أصوات الدلافين، التي يبدو أن لكل منها “اسم فردي” يستخدم للنداء فيما بينها. في أفريقيا، تُدرس أصوات الفيلة منخفضة التردد، التي تنتقل لمسافات طويلة عبر الأرض لتوحيد القطيع والتنبيه للخطر. أما في أعماق المحيطات، فتتردد ألحان الحيتان الحدباء، والتي تُحلل اليوم عبر الذكاء الاصطناعي، لتكشف تراكيب موسيقية معقدة تحمل رسائل اجتماعية ووجدانية.
ما يجمع هذه التجارب أنها تنطلق من فرضية جريئة: اللغة ليست ملكية خاصة للإنسان، والكائنات الأخرى تمتلك أدواتها للتواصل. وكل خطوة علمية جديدة تفتح أمامنا نافذة لفهم الكون، وإعادة النظر في علاقتنا بالمخلوقات التي تشاركنا هذا الكوكب.
في نهاية مقالي أطرح سؤال كيف يبحث الإنسان عن حوار يعيد مع الطير والحيوان وهو عاجز عن الحوار مع إنسان مثله؟. ربما يعيد اكتشاف الإنسان لنفسه مزيدا من الرقي والإنسانيّة.
من النبي سليمان عليه السلام الذي خاطب الطير وسمع صوته، إلى رهبان التبت مع النمور، مرورًا بسكان ألاسكا الإسكيمو مع كلاب الزلاجات، وانتهاءً بالغربان اليابانية والدلافين والفيلة والحيتان، يظهر أن التواصل مع الكائنات الأخرى ليس ضربًا من الخيال.
التجارب العلمية الحديثة لم تعد تقتصر على رصد سلوك الحيوانات أو حماية البيئة، بل أصبحت بوابة لفهم عميق للطبيعة نفسها، ولإعادة النظر في علاقتنا بالكائنات التي تشاركنا هذا الكوكب. وحين نفك شيفرة لغتها، ندرك أن العالم مليء بالأمم التي تشبهنا في حاجاتها ومخاوفها وفرحها.
﴿وما من دابةٍ في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم﴾
التواصل مع الحيوان ليس ترفًا فكريًا، بل وعي بالآخر واعتراف بمكانته. وما نجح فيه اليابان وما تعمل عليه فرق البحث حول العالم، ما هو إلا محاولة لإحياء هذا الوعي، باستخدام أدوات العصر الحديثة، لتذكيرنا بأن لغة الكون واحدة، ونحن جزء منها.
في النهاية، يبدو أن الإنسان لم يعد بحاجة إلى المعجزة وحدها ليخاطب الكائنات، بل إلى الصبر والملاحظة والتقنية، ليعيد اكتشاف نفسه في حوار ممتد عبر آلاف السنين، من هدهد سليمان إلى الغربان اليابانية، ومن نمر التبت إلى أغاني الحيتان، حوار يعيد تعريف ما يعنيه أن نكون شركاء على هذه الأرض معًا.
⸻
المصادر والمراجع
• Tsukahara, N. et al. Crow Communication: Understanding Avian Vocalizations, Journal of Animal Behavior, 2020.
• Marler, P. Animal Communication: Insights from Birds and Mammals, Cambridge University Press, 2016.
• Deecke, V.B., Whale Song and Social Learning, Marine Mammal Science, 2017.
• National Geographic. Dolphin Names and Communication, 2019.
• القرآن الكريم، سورة النمل (الآيات 18–19)، وسورة الأنعام (الآية 38).
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟