أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8434 - 2025 / 8 / 14 - 10:21
المحور:
الادب والفن
مقدمة: حين يتقاطع الأدب مع السياسة على نحو غامض
فرانز كافكا، الروائي التشيكي ذو الأصول اليهودية الذي عاش بين عامي 1883 و1924، لم يكن كاتباً عابراً في تاريخ الأدب الحديث، بل كان ظاهرة فكرية وأدبية يتجاوز تأثيرها حدود اللغة الألمانية التي كتب بها. في رواياته مثل المحاكمة والقلعة والمسخ، شيد عوالم ملغزة، يتداخل فيها الواقع بالكوابيس، والبيروقراطية بالميتافيزيقا، والإنسان بالغربة عن ذاته وعن الآخرين.
لكن خلف هذا العالم السردي الغامض، يطل سؤال ثقيل الظل: هل كان كافكا مجرد كاتب عبثي وجودي يكتب عن مأساة الإنسان أمام السلطة والحياة، أم أن بعض نصوصه حملت بذور خطاب سياسي خفي، يمكن قراءته في سياق صهيوني؟ وهل كان اهتمامه بالصهيونية موقفاً روحياً وثقافياً، أم انخراطاً واعياً في مشروعها السياسي؟
هذا المقال يحاول أن يجيب على السؤال من خلال استعراض سيرة كافكا الفكرية، وتحليل نصوصه المثيرة للجدل، خاصة “بنات آوى والعرب”، مع التوقف عند دور صديقه وناشره ماكس برود في رسم صورة “كافكا الصهيوني” بعد وفاته.
⸻
أولاً: كافكا في مرآة الاغتراب – الجذور النفسية والفكرية
1. طفولة في قلب التناقض
وُلد كافكا في براغ، التي كانت آنذاك جزءاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية، في أسرة يهودية من الطبقة الوسطى. كان والده، هرمان كافكا، رجلاً قوياً متسلطاً، بينما كانت الأم، جولي، أكثر ثقافة ورقة، لكنها خاضعة لهيمنة الزوج. في هذا البيت، نشأ الطفل فرانز على شعور مزدوج بالانتماء والاغتراب.
كان يكتب بالألمانية – لغة السلطة الإدارية والثقافة العليا – لكنه يعيش وسط أغلبية تشيكية لا تشاركه لغته، وينتمي دينياً لليهودية من دون أن يمارس طقوسها. هذا الانقسام الثلاثي (ألماني – تشيكي – يهودي) جعله منذ الصغر يشعر أنه “غريب في كل مكان”، كما كتب لاحقاً في يومياته:
“أنا غريب في مدينتي، غريب في لغتي، وغريب في نفسي.”
2. التكوين الثقافي المزدوج
درس القانون في جامعة براغ، لكنه كان ينهل من الفلسفة والأدب أكثر من أي مجال آخر. قرأ أعمال نيتشه ودوستويفسكي، وتأثر بالتيارات الرمزية والتعبيرية. في الوقت ذاته، بدأ يقترب من الدوائر الثقافية اليهودية، ليس من باب الالتزام الديني، بل من باب البحث عن هوية.
⸻
الفصل الأول: كافكا في مرآة الاغتراب
1. الطفولة في قلب التناقض
عندما وُلد فرانز كافكا في الثالث من يوليو عام 1883 في براغ، كانت المدينة أشبه بفسيفساء معقدة من اللغات والثقافات والهويات. كانت براغ آنذاك جزءاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية، التي جمعت تحت لوائها شعوباً وقوميات متعددة، في ظل سلطة إمبراطورية مركزية تحكم من فيينا. وفي هذه المدينة، تواجدت ثلاث طبقات ثقافية متجاورة لكنها متباعدة:
• الطبقة الألمانية الناطقة بلغة الإمبراطورية.
• الأغلبية التشيكية الناطقة بلغتها المحلية.
• الأقلية اليهودية، التي انقسمت بين من اندمج في الثقافة الألمانية ومن حافظ على العادات والتقاليد اليهودية.
ولد كافكا في أسرة يهودية ألمانية اللغة، لكن أصولها لم تكن مترفة. والده، هرمان كافكا، كان تاجرًا صاعدًا، قوي الشخصية، شديد الانضباط، يعشق النظام الصارم ويؤمن بالقوة كوسيلة لتحقيق الاحترام. الأم، جولي، جاءت من أسرة مثقفة نسبيًا، لكن شخصيتها الهادئة والمتصالحة لم تستطع أن تخفف من وقع سلطة الزوج على المنزل.
في هذا الجو، بدأ الطفل فرانز يكتشف منذ سنواته الأولى أنه لا يشبه أياً من المحيطين به تماماً:
• هو ليس تشيكياً بالكامل رغم أنه يعيش في مدينة تشيكية.
• وليس ألمانياً بالكامل رغم أن لغته الأم هي الألمانية.
• وهو يهودي، لكن ليس يهودياً ملتزماً بالدين أو الطقوس.
كان يعيش إحساس “الغريب بين الجماعات”، وهو إحساس رافقه طوال حياته وأصبح لاحقًا مادة خام لرواياته، حيث يظهر البطل دوماً خارج البنية الاجتماعية، عاجزاً عن الاندماج أو الاعتراف المتبادل.
2. سلطة الأب وأثرها النفسي
لا يمكن فهم كافكا دون فهم علاقته بأبيه. ففي رسالته الشهيرة “رسالة إلى والدي” التي كتبها عام 1919 ولم يرسلها أبداً، يصف فرانز والده بأنه كان أشبه بسلطة مطلقة داخل البيت، يفرض أوامره من دون نقاش، ويستصغر محاولات الابن للتعبير عن نفسه. يقول كافكا في تلك الرسالة:
“كان تأثيرك عليّ تأثيراً ساحقاً. كنتُ أراك دائماً جالساً على عرشك، وأنت تحكم على العالم، وأنا طفل صغير لا يجرؤ على الاقتراب.”
هذا الشعور بالدونية أمام سلطة متعالية لم يكن مجرد تجربة أسرية، بل أصبح نموذجاً متكرراً في أدبه: الفرد الضعيف في مواجهة سلطة غامضة، لا تُفسِّر أحكامها ولا تبررها. كثير من النقاد يرون أن صورة القاضي في المحاكمة، أو رجال القلعة في القلعة، ليست سوى انعكاسات رمزية لسلطة الأب.
3. الانقسام اللغوي والثقافي
المدارس التي التحق بها كافكا كانت ألمانية، مما جعله يتقن لغة الإمبراطورية ويقرأ بها الأدب والفلسفة. لكنه كان يسمع التشيكية في الشوارع وفي أحاديث الخدم والجيران، كما كان يسمع العبرية أو اليديشية في المناسبات الدينية اليهودية. هذا التعدد اللغوي، بدلاً من أن يمنحه ثراءً ثقافياً مريحاً، عمّق شعوره بالانقسام.
كتب مرة في يومياته:
“أجد نفسي أتحدث الألمانية، لكن ليس كألماني. وأفهم التشيكية، لكن ليس كتشيكي. أما اليديشية، فهي كالباب الموارب الذي أطل منه على بيت غريب.”
هذا الإحساس بعدم الامتلاك الكامل لأي لغة، جعله يستخدم اللغة الألمانية بأسلوب خاص، مختزل ودقيق، لكن مشحون بالغربة، حتى أن بعض النقاد وصفوا أسلوبه بأنه “ألمانية بلا وطن”.
4. براغ – المدينة كمرآة اغتراب
كانت براغ بالنسبة لكافكا مدينة جميلة لكنها خانقة. جمالها المعماري لم يكن يواسيه من ضيق فضاءها الاجتماعي، حيث تتقاطع القوميات بعلاقات تنافسية ومشبوهة. بالنسبة له، كانت المدينة مسرحاً مثالياً لقصص عن شخصيات تسعى للوصول إلى مركز سلطة غامض أو للانعتاق من شبكة معقدة من العلاقات والقيود.
في إحدى رسائله إلى صديقه أوسكار بوم، كتب:
“براغ لا تترك أحداً يذهب. هذه الأم اللعوب، التي لها مخالب، تغرسها فيك وتحبسك بين أزقتها.”
هذا الوصف الحسي والمجازي معاً يختصر علاقة كافكا بالمدينة: مكان حاضن ومحبوس في آن، وهو تناقض يعكس موقفه من الهوية اليهودية أيضاً.
5. الاغتراب كجوهر الوعي
منذ مراهقته، كان كافكا يميل إلى الانعزال، يكتب في الليل ويعمل في النهار موظفاً في شركة تأمين. الحياة اليومية لم تمنحه إحساساً بالجدوى، وكان يكتب عنها في نبرة من السخرية السوداء، ممهداً لولادة ما أصبح يُعرف لاحقاً بـ”العبث الكافكاوي”.
في إحدى يومياته عام 1910، كتب:
“كل ما أريده أن أكون وحيداً، ومع ذلك، فإن هذه الوحدة نفسها تصبح سجناً آخر.”
هذا التناقض – الرغبة في الوحدة والخوف منها – سيظهر لاحقاً في شخصياته، التي تبحث عن الخلاص من وضعها، لكنها تخشى المجهول.
⸻
الفصل الثاني: الطريق إلى الصهيونية – اهتمام بلا انتماء
1. خلفية تاريخية: أوروبا واليهود عند مطلع القرن العشرين
في مطلع القرن العشرين، كان الوجود اليهودي في أوروبا الوسطى يعيش حالة تناقض حادة. من جهة، شهد اليهود في الإمبراطورية النمساوية المجرية نوعًا من الاندماج الاجتماعي والثقافي بفضل سياسات الإمبراطور فرانتس يوزف التي منحتهم قدراً من المساواة المدنية، ومن جهة أخرى، ظلوا هدفاً لموجات من معاداة السامية، خاصة في المناطق التي تزايد فيها نفوذ الحركات القومية.
كانت براغ مثالاً مصغّراً لهذا الوضع: مجتمع يهودي مثقف نسبياً، مندمج لغوياً في الثقافة الألمانية، لكنه محاصر بين القومية التشيكية الطامحة للاستقلال، والقومية الألمانية التي ترى في اليهود جسماً غريباً.
في هذا المناخ، ظهرت الحركة الصهيونية كحلّ مقترح لمشكلة الاغتراب والتمييز، خاصة بعد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897 بقيادة تيودور هرتزل. ومنذ ذلك الحين، بدأ الفكر الصهيوني ينتشر بين الشباب اليهودي في أوروبا الوسطى، متراوحاً بين الحماس السياسي البحت والفكرة الروحية للعودة إلى “أرض الأجداد”.
2. اللقاء مع ماكس برود – بداية الانفتاح على الصهيونية
التقى كافكا بماكس برود عام 1902 في جامعة براغ، لكن صداقتهما الوثيقة لم تبدأ إلا عام 1909. كان برود شخصية ديناميكية، مثقفاً موسوعياً، وناشطاً صهيونياً معروفاً في الأوساط الفكرية. لعب برود دور “الوسيط الثقافي” الذي قدّم لكافكا ليس فقط الأدب العالمي، بل أيضاً الأدب العبري واليديشية، والفكر الصهيوني في بعديه الثقافي والسياسي.
برود لم يضغط على كافكا للانضمام للحركة، لكنه كان يُدخله تدريجياً في أجواء المؤتمرات والاجتماعات، ويزوده بالكتب والمقالات التي تناقش “المسألة اليهودية”. هذا التأثير جعل كافكا يرى الصهيونية كواحدة من الطرق المحتملة لحل معضلة الوجود اليهودي في أوروبا، لكنه ظل حذراً من الانتماء الكلي لأي حركة سياسية.
كتب كافكا في يومياته بتاريخ 25 ديسمبر 1911، بعد حضوره عرضاً لمسرح اليديشية في براغ مع برود:
“هؤلاء الممثلون، القادمون من غاليسيا، ليسوا فقط فنانين، بل هم كمن جاؤوا من زمن آخر. في وجوههم، أرى حكاية شعب بأكمله، تائه لكنه عنيد.”
هذه الجملة تكشف أن انجذابه للعناصر الثقافية اليهودية كان مرتبطاً بصورة إنسانية ووجودية أكثر من ارتباطه بأي مشروع قومي.
3. حضور المؤتمر الصهيوني الحادي عشر – التجربة المربكة
في سبتمبر 1913، أقنع برود كافكا بحضور المؤتمر الصهيوني الحادي عشر في فيينا. هناك، استمع كافكا إلى الخطب التي تدعو إلى الهجرة المنظمة إلى فلسطين، وإلى تأسيس مؤسسات اقتصادية وتعليمية تخدم المجتمع اليهودي هناك.
لكن بدلاً من أن يشعر بالحماسة، وجد نفسه أمام خطاب سياسي مباشر لا ينسجم مع طبيعته المترددة في الالتزام. كتب في رسالة إلى فيليس باور:
“المؤتمر كان حشداً هائلاً، لكنه زادني اغتراباً. لقد وجدت نفسي بين أناس يتحدثون بحرارة عن أرض لم أرها، وعن مستقبل لا أستطيع أن أراه إلا كظل بعيد.”
هذا الموقف يعكس تردده: فهو يتفهم دوافع الحركة، لكنه لا يرى نفسه جزءاً من اندفاعها العملي.
4. اللغة العبرية – فضول ثقافي أم خطوة نحو الانتماء؟
في عام 1917، وبعد فترة من المرض والعزلة بسبب إصابته بالسل، بدأ كافكا بدراسة اللغة العبرية على يد المعلمة بولا وينشتاين، التي كانت نشطة في الأوساط الصهيونية في براغ. تعلّم الأبجدية وبعض القواعد، وقرأ نصوصاً دينية وأدبية بسيطة.
لكن دوافعه كانت ثقافية وروحية أكثر منها سياسية. في يومياته، كتب عن اللغة العبرية قائلاً:
“حروفها مثل حجارة منقوشة منذ آلاف السنين، وكأنها تحفظ في أشكالها صدى أصوات لم تعد تُسمع.”
هذا الوصف يوحي بأن العبرية بالنسبة له كانت جسراً إلى الماضي الثقافي، لا أداة للتخطيط السياسي.
5. زيارة فلسطين – الرحلة القصيرة
تختلف المصادر حول تفاصيل زيارة كافكا القصيرة إلى فلسطين (يُرجح أن تكون عام 1923)، لكن الثابت أنه أمضى أياماً في تل أبيب وحيفا ويافا، التقى خلالها بعدد من المهاجرين اليهود من أوروبا. كان برود قد سبقه في الإقامة هناك لفترة قصيرة.
لم يكن في هذه الزيارة أي مؤشر على نية الاستقرار. وصف كافكا في رسالة لأخته أوتيلا أجواء المدينة قائلاً:
“الهواء هنا مختلف، لكنه لا يغير قلبي. البحر جميل، لكنني لا أرى فيه خلاصاً.”
هذه العبارة تلخص المسافة التي ظل يحافظ عليها بين إعجابه بجوانب من المشروع الصهيوني وبين تردده في الانتماء الفعلي إليه.
6. الهوية اليهودية – من سؤال الانتماء إلى سؤال المعنى
في الفترة بين 1910 و1922، كتب كافكا في يومياته جملة تلخص موقفه من هويته اليهودية:
“ما الذي يجمعني باليهود؟ من الصعب القول بوجود شيء ما يجمعني حتى مع نفسي.”
هنا، تتحول المسألة من انتماء قومي أو ديني إلى سؤال فلسفي عن الذات. هذا التحول هو ما جعل كثيراً من النقاد يرون أن كافكا كان أقرب إلى “صهيوني روحي” بالمعنى الثقافي، لا “صهيونياً سياسياً” بالمعنى الحركي.
⸻
الفصل الثالث: ماكس برود وصناعة “كافكا الصهيوني”
1. من صديق وفيّ إلى وصيّ على التراث
حين توفي فرانز كافكا في يونيو 1924، كان قد أوصى صديقه ماكس برود بشكل صريح أن يحرق جميع مخطوطاته غير المنشورة. كافكا، الذي كان يكره فكرة النشر بعد وفاته، كتب في وصيته:
“كل ما تبقى من كتاباتي، اليوميات، الرسائل، المسودات، يجب حرقه دون أن يقرأه أحد.”
لكن برود لم ينفذ الوصية. بدلاً من ذلك، أخذ على عاتقه مهمة حفظ أعمال كافكا ونشرها، بل وتحرير النصوص الناقصة وإكمال بعضها بأسلوبه، وهو ما جعله أشبه بـ”الوصي الأدبي” الذي يعيد تشكيل إرث الكاتب وفق رؤيته الخاصة.
2. برود الصهيوني – القارئ والمفسر
برود لم يكن مجرد كاتب أو ناشر؛ كان ناشطاً صهيونياً ملتزماً، يرى في المشروع الصهيوني خلاصاً للشعب اليهودي من التشتت والاضطهاد الأوروبي. حين هاجر إلى فلسطين عام 1939، كان يحمل معه جميع مخطوطات كافكا تقريباً، مدركاً قيمتها الأدبية والسياسية.
في مقدمة إصداراته الأولى لروايات “المحاكمة” و”القلعة” و”أمريكا”، أضفى برود على شخصية كافكا بعداً يهودياً صريحاً، وقدمها كرمز لمعاناة اليهود في أوروبا. كان يربط بين أبطال كافكا المقهورين وبين صورة “اليهودي التائه” في الشتات، الذي يبحث عن وطن واعتراف.
كتب برود عام 1937:
“كل كلمة في نصوص كافكا هي كلمة يهودية، حتى وإن لم تذكر اليهود صراحة. عالمه المظلم هو انعكاس للظلمة التي أحاطت بيهود أوروبا، وحلمه الضائع هو حلم العودة إلى الوطن.”
هذا التفسير كان خطوة محورية في صناعة صورة “كافكا الصهيوني”، رغم أن كافكا نفسه لم يعلن يوماً التزاماً سياسياً مباشراً بهذه الصورة.
3. التحرير كأداة لإعادة التأويل
حين نشر برود رواية “القلعة” (1926) بعد وفاة كافكا، قام بتجميع الفصول غير المكتملة، وترتيبها وفق تصور شخصي للحبكة. هناك من يرى أن برود أضاف لمسات تجعل “القلعة” ترمز إلى “أورشليم” أو “الأرض الموعودة” التي يسعى البطل للوصول إليها، لكنه يظل محجوباً عن الدخول إليها.
النقاد الذين يعارضون هذا الرأي يرون أن برود قرأ النص من زاوية صهيونية مهيمنة، بينما النص الأصلي يظل مفتوحاً على تأويلات وجودية وبيروقراطية بحتة. لكن، بما أن كافكا لم يترك نسخة نهائية، فإن نسخة برود أصبحت “النص الرسمي”، وبالتالي انتصرت رؤيته في المخيلة العامة.
4. الهروب إلى فلسطين – إسقاط بعديّ
عام 1939، ومع اقتراب الاحتلال النازي لتشيكوسلوفاكيا، فر برود إلى فلسطين ومعه إرث كافكا الأدبي. في تلك الفترة، كان المشروع الصهيوني بحاجة إلى رموز أدبية تعطيه عمقاً ثقافياً، فوجد برود في كافكا شخصية مثالية: كاتب يهودي عالمي، كتب عن القهر والاغتراب، ولم يترك نصوصاً مكتملة يمكن أن تعارض هذا التوظيف.
منذ استقراره في تل أبيب، بدأ برود في إلقاء محاضرات تربط بين نصوص كافكا وفكرة الخلاص اليهودي، ونشر مقالات في صحف الحركة الصهيونية تؤكد أن “القلعة” و”المحاكمة” هما مجازان للشتات اليهودي ومعاناته.
5. النقد اللاحق – تفكيك صورة “كافكا الصهيوني”
منذ السبعينيات، بدأ نقاد الأدب، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة، في مراجعة هذه القراءة الأحادية. باحثون مثل شاؤول فرينكل وجوديث بتلر أكدوا أن كافكا كان أوسع من أي تأطير سياسي، وأن اختزاله في “رمز صهيوني” يفرغ أدبه من عالميته.
جوديث بتلر كتبت:
“إن تحويل كافكا إلى صهيوني بالمعنى السياسي هو بتر للمعاني المتعددة التي تتدفق في نصوصه. كافكا كان يكتب عن اغتراب الإنسان، لا عن خارطة وطن.”
لكن، رغم هذه المراجعات، ما زالت صورة “كافكا الصهيوني” التي صنعها برود حاضرة في الوعي الثقافي، خاصة في إسرائيل، حيث يُدرّس كافكا في المدارس كجزء من التراث الأدبي اليهودي الحديث.
6. السؤال الأخلاقي – خيانة أم وفاء؟
يبقى السؤال الجدلي: هل خان برود وصية صديقه، أم أنقذ إرثه من الضياع؟ وهل إعادة تأويل كافكا في إطار صهيوني كانت تزويراً لنيته، أم قراءة مشروعة في سياق سياسي محدد؟
برود نفسه دافع عن موقفه قائلاً:
“كنت أعلم أن كافكا، في أعماقه، يريد لهذه الأعمال أن تعيش. لقد وثق بي لأني كنت أفهمه، وربما كنت أفهمه أكثر مما كان يفهم نفسه.”
هذه الجملة تلخص مأزق العلاقة بين الكاتب ووصيه: الحد الفاصل بين الأمانة والإسقاط، بين الحفظ والتحريف.
⸻
الفصل الرابع: “بنات آوى والعرب” – القصة التي أشعلت الجدل
1. القصة في سياقها التاريخي
كتب فرانز كافكا قصته القصيرة “بنات آوى والعرب” (Jackals and Arabs) عام 1917، ونُشرت لأول مرة في مجلة “Der Jude”، وهي مجلة ثقافية صهيونية أسسها مارتن بوبر في برلين. اختيار المنصة للنشر لم يكن محايداً؛ فالمجلة كانت معروفة بارتباطها بالفكر الصهيوني، وبمناقشة قضايا اليهود في أوروبا وفلسطين.
كان ذلك العام مفصلياً: أوروبا غارقة في أتون الحرب العالمية الأولى، والمجتمع اليهودي في حالة ترقب لما سيؤول إليه مستقبلهم السياسي، خاصة مع صدور وعد بلفور في نوفمبر 1917. ورغم أن القصة كُتبت قبل الإعلان بفترة وجيزة، إلا أن أجواء النقاش حول فكرة الوطن القومي كانت في ذروتها.
⸻
2. ملخص القصة
تحكي القصة عن مسافر أوروبي في الصحراء، يقترب منه قطيع من بنات آوى، يتحدثن إليه بلغة البشر (في حلم أو هلوسة رمزية)، ويعبرن عن كرههن الشديد للعرب الذين يعشن بينهم، واصفاتهم بأنهم “نجسون” وأن “رائحتهم خانقة”.
تطلب بنات الآوى من المسافر أن يساعدهن في التخلص من العرب باستخدام مقص صدئ أعطوه له كأداة رمزية للقتل.
لكن يظهر شيخ عربي ضاحك، ويكشف أنه يعرف ما تريده بنات الآوى منذ زمن، وأنهم يقدمون لهن جثة جمل لتأكلها كلما جاعوا، ويقوم في النهاية بجلدهن وإبعادهن.
⸻
3. التأويلات الصهيونية
في القراءة الصهيونية، تمثل بنات الآوى اليهود في المنفى: ضعفاء، محاصرون في أرض غريبة (الصحراء)، ومليئون بالكراهية تجاه جيرانهم (العرب) الذين يرونهم أعداءً.
أما المسافر الأوروبي، فهو رمز للقوى الأوروبية، وربما بريطانيا، التي تملك “المقص” أي الأداة اللازمة لقطع الصلة بين اليهود والعرب، ومنح اليهود أرضهم الخاصة.
هذه القراءة تتقوى إذا وضعنا القصة بجانب سياق نشرها في مجلة صهيونية، وقربها من لحظة وعد بلفور، حيث كانت بريطانيا بالفعل الطرف الحاسم في مستقبل فلسطين.
⸻
4. قراءة نقدية مناهضة للصهيونية
لكن هناك قراءة أخرى، مثل التي قدمتها جوديث بتلر، ترى أن القصة في الحقيقة نقد لاذع للصهيونية ذاتها.
بحسب هذه القراءة:
• بنات الآوى ليست رمزاً لليهود فقط، بل نموذجاً لأي جماعة ترى نفسها “أطهَر” من الآخرين لكنها عاجزة عن الفعل بنفسها.
• اعتمادها على “المسافر” (القوة الأجنبية) يعكس تبعية الصهيونية للقوى الاستعمارية.
• مشهد العربي الذي يضحك ويطعمهن من بقايا جمل يعكس نوعاً من السخرية من أحلامهن، وكأن كافكا يقول: “أنتم لا تملكون القوة لتحقيق أوهامكم، وستبقون في دائرة الاعتماد على الآخر.”
هذه القراءة ترى القصة كتحذير من بناء هوية على العداء والاعتماد على قوى خارجية.
⸻
5. الرموز الدينية والثقافية
القصة غنية بالرموز التي تتجاوز السياسة المباشرة:
• المقص الصدئ يمكن ربطه بطقوس الذبح في الشريعة اليهودية (الكوشر)، حيث يُذبح الحيوان بطريقة محددة. لكن هنا المقص أداة قتل للبشر، مما يقلب الرمز إلى عنف عبثي.
• بنات الآوى في التراث التوراتي والقرآني كثيراً ما ترتبط بالخراب واللعنات، وهو ما يعطي القصة بعداً أسطورياً.
• العربي الضاحك يشبه شخصيات كافكا الأخرى التي تمتلك معرفة خفية عن عبثية الموقف، مثل القضاة في “المحاكمة”.
⸻
6. بين العبث الإنساني والسياسة
من منظور كافكاوي صرف، يمكن أن نقرأ القصة بعيداً عن أي إسقاط سياسي: إنها مشهد عن سوء الفهم الأبدي بين الجماعات، عن الغرابة التي يشعر بها الفرد وسط ثقافة أخرى، وعن الحدود المستحيلة للتفاهم.
لكن، مع وجود النشر في مجلة صهيونية، واللغة التي تصور العرب كـ”آخر” غريب، يصبح من الصعب تجاهل الأبعاد السياسية، حتى وإن كانت مشوبة بسخرية.
⸻
7. أثر القصة في الجدل النقدي
“بنات آوى والعرب” أصبحت لاحقاً نصاً محورياً في النقاشات حول ما إذا كان كافكا متعاطفاً مع الصهيونية. في إسرائيل، تُقرأ أحياناً كدفاع عن المشروع الصهيوني. في المقابل، في الأوساط النقدية الغربية والعربية، تُقرأ كسخرية أو تحذير من الفكر القومي المبني على النقاء العرقي.
⸻
الفصل الخامس: “المحاكمة” و”القلعة” – البيروقراطية والاغتراب بعيداً عن الصهيونية؟
1. “المحاكمة”: عبث العدالة وغياب المعنى
رواية “المحاكمة” (Der Prozess)، التي كتبها كافكا بين 1914 و1915، ونُشرت بعد وفاته على يد ماكس برود عام 1925، تحكي قصة جوزيف ك.، الموظف البنكي الذي يُعتقل ذات صباح دون أن يعرف السبب، ويدخل في متاهة قضائية بلا مخرج.
هذه الرواية تُعد من أكثر نصوص كافكا تأثيراً في الأدب الحديث، وصارت كلمة “كافكاوي” مرادفة للعبث البيروقراطي الذي يسحق الفرد.
القراءة السياسية الممكنة
البعض يرى أن “المحاكمة” يمكن أن تُقرأ كتعبير عن وضع اليهود في أوروبا الوسطى: متهمون دوماً، في محكمة لا يعترفون بها، لكنهم محاصرون بسلطتها.
• المدافعون عن القراءة الصهيونية: يعتبرون جوزيف ك. نموذجاً لليهودي الذي لا يعرف حتى تهمته، تماماً كما كان اليهود في مواجهة قوانين تمييزية مبهمة في أوروبا.
• الرافضون لهذه القراءة: يؤكدون أن كافكا هنا يكتب عن الاغتراب الإنساني الكوني، لا عن حالة اليهود فقط، وأن الرواية لا تشير لا من قريب ولا من بعيد إلى فلسطين أو الصهيونية.
اقتباس مفتاحي
“كان لا بد أن يكون هناك خطأ ما، إذ تم القبض عليه ذات صباح دون أن يكون قد ارتكب أي ذنب.”
– المحاكمة
هذا الاقتباس يوضح كيف يبدأ العبث الكافكاوي من لحظة عبثية بسيطة، يمكن أن تنطبق على أي إنسان، لا على جماعة بعينها.
⸻
2. “القلعة”: البحث المستحيل عن الوصول
رواية “القلعة” (Das Schloss)، التي كتبها بين 1922 و1924، تدور حول المسّاح ك. الذي يصل إلى قرية يسيطر عليها قصر غامض، ويحاول عبثاً الحصول على إذن للعمل هناك أو حتى مقابلة المسؤولين.
تظل القلعة بعيدة، محاطة بطبقات من البيروقراطية الغامضة، ويتحول الوصول إليها إلى رحلة لا تنتهي.
القراءات الصهيونية الممكنة
• التفسير الصهيوني: القلعة تمثل “أرض الميعاد” أو “الوطن الموعود” الذي يسعى إليه كافكا/اليهودي، لكن يحجبه نظام معقد (التاريخ، السياسة، القوى الأوروبية).
• التفسير المناهض للصهيونية: القلعة ليست مكاناً مقدساً، بل رمز للسلطة المطلقة التي تُخضع الجميع، وبالتالي فهي نقد للبحث عن الخلاص في كيان سياسي أو ديني واحد.
اقتباس مفتاحي
“كان الطريق إلى القلعة واضحاً، لكنه بدا كأنما يبتعد كلما خطا خطوة نحوه.”
– القلعة
هذه الصورة الرمزية يمكن أن تعني أي مشروع خلاص يزداد بعداً كلما اقترب المرء منه، سواء كان حلّاً سياسياً أو روحياً.
⸻
3. دور ماكس برود في تفسير الروايتين
ماكس برود لعب دوراً حاسماً في ربط هذه الأعمال بالهوية اليهودية والصهيونية، إذ أصر على أن كافكا كان يرى في القلعة والمصير المجهول في المحاكمة رموزاً لحالة اليهود، وضرورة إيجاد حل سياسي لها.
لكن باحثين آخرين، مثل إرنست باول وراؤول هيلبرغ، حذروا من إسقاط توجهات برود على نصوص لم يكن كافكا قد أكملها أو صرّح بمراميها.
⸻
4. بين الرمزية المفتوحة والقراءة الأيديولوجية
“المحاكمة” و”القلعة” نصوص مفتوحة، قابلة للتأويل السياسي، الديني، الوجودي، وحتى النفسي. لكن هذا الانفتاح قد يكون سبباً في الجدل ذاته: يمكن أن يقرأها القارئ الصهيوني كتبرير لوجود “ملاذ قومي”، ويمكن أن يقرأها القارئ اليساري كإدانة لكل سلطة قمعية، ويمكن أن يقرأها القارئ الديني كرحلة خلاص روحاني.
⸻
الفصل السادس: ماكس برود وصناعة “كافكا الصهيوني”
1. الصديق الوفي… والمحرِّف المحتمل
ماكس برود (1884–1968) لم يكن مجرد صديق مقرب لفرانز كافكا، بل كان الشخص الذي صنع صورته الأدبية بعد وفاته. كانا قد التقيا في براغ عام 1902، وارتبطا بصداقة فكرية عميقة. برود، بخلاف كافكا، كان صهيونيًا ملتزمًا، نشطًا في الجمعيات الطلابية الصهيونية، وحاضرًا في المؤتمرات الدولية للحركة.
حين توفي كافكا عام 1924 بمرض السل، ترك وصية واضحة: “احرق كل كتاباتي، بما فيها اليوميات والمسودات، دون استثناء.” لكن برود خالف هذه الوصية عمدًا، مبررًا ذلك بأن “هذه النصوص ملك للأدب العالمي، لا لشخص واحد”.
⸻
2. تهريب الإرث إلى فلسطين
في عام 1939، مع اقتراب جيوش النازيين من براغ، غادر برود إلى فلسطين (التي كانت تحت الانتداب البريطاني) حاملاً مخطوطات كافكا في حقيبته.
هذه الخطوة لم تنقذ أعمال كافكا من الضياع فحسب، بل وضعتها أيضًا في سياق سياسي جديد: فلسطين كانت بؤرة المشروع الصهيوني، وبرود كان نشطًا في الأوساط الثقافية اليهودية في تل أبيب.
منذ لحظة وصوله، بدأ في نشر الروايات غير المكتملة (“المحاكمة”، “القلعة”، “أمريكا”) بطريقة تتيح تأويلاً صهيونيًا محتملاً، حتى لو لم يقصده كافكا نفسه.
⸻
3. التقديمات والتفسيرات الموجهة
برود كتب مقدمات للأعمال المنشورة، وحرر الرسائل واليوميات، مضيفًا هوامش وتعليقات تربط بين عزلة أبطال كافكا وبين وضع اليهود في أوروبا.
• في مقدمة “القلعة”، أشار إلى أن كافكا كان “يهوديًا يبحث عن الخلاص”، مما جعل القارئ يميل لربط القلعة بفكرة “الوطن القومي”.
• في نشره لرسائل كافكا، انتقى المقاطع التي يظهر فيها اهتمام باللغة العبرية أو بالحياة في فلسطين، وأهمل المقاطع التي ينتقد فيها المشروع الصهيوني أو يعبر عن تحفظه.
اقتباس من ماكس برود نفسه:
“كافكا لم يكن ناشطًا سياسيًا، لكنه كان يشعر أن الحل الوحيد لمعاناة اليهود هو في وطن قومي.”
– من مقدمة برود لأعمال كافكا الكاملة
⸻
4. الاتهامات بالتحريف
نقاد مثل جوديث بتلر وجاك زونتاغ ذهبوا إلى أن برود “أسر” كافكا داخل خطاب صهيوني، محولاً نصوصه المفتوحة إلى نصوص تخدم مشروعًا سياسيًا محددًا.
الاعتراضات على برود تتمحور حول نقطتين:
1. الإكمال غير المصرح به: تعديل أو إضافة فصول ونهايات لم يكن كافكا قد كتبها، مما يغير المعنى.
2. الانتقاء الأيديولوجي: إبراز الجوانب اليهودية-الصهيونية وتجاهل ما يخالفها.
⸻
5. الإرث المزدوج
بفضل برود، صار كافكا معروفًا عالميًا، لكن هذا التعريف جاء محمّلاً بتفسير سياسي لم يكن محل إجماع.
البعض يرى أن برود خدم الأدب العالمي وأنقذه، والبعض الآخر يرى أنه “اختطف” كافكا وجعله متحدثًا باسم قضية لم يتبنَّها علنًا.
هذه الإشكالية تجعل دراسة علاقة كافكا بالصهيونية معقدة: لا يمكن الوثوق تمامًا بكل ما نُشر بعد وفاته دون أن نسأل:
هل هذا صوت كافكا، أم ظل ماكس برود؟
⸻
الفصل السابع: “بنات آوى والعرب” بين الرمز الصهيوني ونقد الصهيونية
1. السياق الزمني والنشر
في عام 1917، وفي خضم الحرب العالمية الأولى، نُشرت قصة كافكا القصيرة “بنات آوى والعرب” (Jackals and Arabs) في مجلة “Der Jude” (“اليهودي”) التي كان يصدرها المفكر الصهيوني مارتن بوبر في برلين.
توقيت النشر له دلالة مهمة: كان ذلك قبل أشهر قليلة من صدور وعد بلفور، في وقت كانت فيه الفكرة الصهيونية تكتسب زخمًا سياسيًا غير مسبوق.
اختيار كافكا لهذه المنصة أثار سؤالًا لدى النقاد: هل أراد أن يساهم في الخطاب الصهيوني، أم كان يضع نصًا ساخرًا أو رمزيًا في وسط سياسي مشحون؟
⸻
2. ملخص القصة
القصة تُروى على لسان مسافر أوروبي يتجول في صحراء العرب، حيث تقترب منه مجموعة من بنات آوى (حيوانات صحراوية صغيرة) تتحدث بلغة البشر.
• بنات الآوى تبدي كرهًا شديدًا للعرب، تصفهم بـ”النجسين”، وتطلب من المسافر أن يخلصها منهم.
• تعطيه مقصًا صدئًا وتطلب أن يستخدمه لذبح العرب.
• يصل عربي إلى المكان، يضحك من الطلب، ويطعم بنات الآوى لحم جمل ميت، ويجلدها بخفة.
• تنتهي القصة دون أن يحدث أي صراع حقيقي، لكن العلاقة العدائية بين الطرفين تبقى قائمة.
⸻
3. التفسير الصهيوني
القراءة الصهيونية ترى في القصة استعارة واضحة:
• بنات الآوى = اليهود في الشتات: ضعفاء، يفتقرون للقوة العسكرية، لكنهم يملكون إرادة للخلاص.
• العرب = السكان العرب في فلسطين: أقوياء، مهيمنون، ينظرون لليهود باستخفاف.
• المسافر الأوروبي = القوى الاستعمارية (مثل بريطانيا): الجهة التي يمكن أن تمنح اليهود “الخلاص” عبر إقامة وطن قومي.
هذا التفسير يجد دعمه في كون القصة نُشرت في مجلة صهيونية، وفي الفترة التي كانت فيها الصهيونية السياسية تروج لفكرة “التحالف مع بريطانيا” لتأمين فلسطين.
⸻
4. التفسير النقدي المناهض للصهيونية
على الجانب الآخر، هناك من يرى أن القصة ليست دعائية للصهيونية، بل نقد ساخر لها.
• بنات الآوى تظهر في النص ككائنات تابعة وعاجزة، لا تستطيع التحرك إلا بطلب مساعدة من الخارج.
• اعتمادها على “المسافر” يعكس اعتماد المشروع الصهيوني على قوى استعمارية بدلًا من الاعتماد على الذات.
• شخصية العربي في القصة لا تُقدَّم كوحش أو عدو دموي، بل كشخص هادئ، ساخر، وربما متسامح إلى حد ما، مما يقوّض الصورة النمطية الصهيونية عن “العربي المتوحش”.
الفيلسوفة جوديث بتلر تذهب أبعد من ذلك، وتقول إن القصة “تكشف عن فشل المشروع الصهيوني في تخيل علاقة متكافئة مع العرب، حيث تظل العلاقة قائمة على التبعية والتنافر”.
⸻
5. البعد الرمزي والأدبي
حتى خارج سياق الصهيونية، يمكن قراءة القصة ضمن ثيمات كافكا الأوسع:
• العجز أمام السلطة: بنات الآوى والعرب معًا محكومون بقدرهم في الصحراء، لا يملكون إلا تكرار نمط العداء نفسه.
• العبث واللاجدوى: المقص الصدئ رمز لحل غير واقعي، غير قابل للتنفيذ، تمامًا كالحلول الطوباوية في السياسة.
• الاغتراب: المسافر نفسه غريب عن الطرفين، يظل مراقبًا لا يندمج في الصراع، كما كان كافكا نفسه غريبًا عن الهويات القومية المتصارعة في زمنه.
⸻
6. سؤال النية
من الصعب الجزم بما إذا كان كافكا كتب القصة بدافع صهيوني أو كجزء من رؤيته العبثية للعالم.
لكن ما نعرفه من رسائله ويومياته هو أنه كان حذرًا من الانخراط في مشروع سياسي صريح، حتى وإن كان يتعاطف مع فكرة ملاذ آمن لليهود.
وبالتالي، قد يكون نشر القصة في مجلة صهيونية مجرد تقاطع ظرفي بين الأدب والسياسة، لا إعلانًا أيديولوجيًا.
⸻
7. خاتمة الفصل
“بنات آوى والعرب” تظل نصًا مفتوحًا: يمكن أن يقرأ كرمز للحاجة إلى وطن، أو كتهكم على هذه الحاجة حين تصبح تبعية للآخر.
هذا الانفتاح على التأويل هو ما يجعل القصة مركزية في الجدل حول علاقة كافكا بالصهيونية، وسببًا في أن كل معسكر يجد فيها ما يدعم حجته.
⸻
الفصل الثامن: كافكا في فلسطين – بين الواقع والخيال
1. الخلفية الزمنية والسياق السياسي
في عام 1923، قبل عام واحد من وفاته، كان كافكا في وضع صحي حرج بسبب تدهور حالته مع مرض السل. في تلك الفترة، اشتدت ضغوط صديقه ماكس برود لإقناعه بزيارة فلسطين، التي كانت حينها تحت الانتداب البريطاني، وبدأت تشهد هجرات يهودية متزايدة في إطار المشروع الصهيوني.
الصهيونية كانت في طور الانتقال من فكرة سياسية إلى مشروع استيطاني ملموس، وبريطانيا – عبر وعد بلفور (1917) – كانت قد أعلنت دعمها لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. في هذا المناخ، كان يُنظر إلى زيارة كافكا على أنها خطوة رمزية حتى لو لم تكن نابعة من التزام سياسي مباشر.
⸻
2. تفاصيل الزيارة القصيرة
لم يقم كافكا برحلة طويلة إلى فلسطين، بل كانت زيارة قصيرة استغرقت نحو أسبوعين. تشير الرسائل التي تبادلها مع ماكس برود ومجموعة من أصدقائه الصهاينة إلى أن الرحلة كانت أقرب إلى استكشاف فضولي منها إلى رحلة هجرة.
خلال زيارته:
• التقى بعدد من المثقفين والناشطين الصهاينة في تل أبيب والقدس.
• حضر بعض اللقاءات الثقافية التي كانت تهدف إلى تعزيز اللغة العبرية والأدب اليهودي الحديث.
• تجول في أحياء يهودية وعربية، ولاحظ التباينات الاقتصادية والثقافية.
⸻
3. انطباعاته عن فلسطين
في رسالة مؤرخة أواخر عام 1923، كتب كافكا إلى دورا ديامانت – التي كانت رفيقته في سنواته الأخيرة – يصف فلسطين بأنها “أرض متناقضة”:
“تحت شمسها يختلط الأمل بالهزال، واللغة العبرية الوليدة بالضجيج العربي، والأوروبيون الحالمون مع أهل البلاد الذين ينظرون إليهم بريبة.”
هذه العبارة تلخص رؤيته: إعجاب بفكرة الإحياء الثقافي اليهودي، لكن مع إدراك للتوترات العرقية والسياسية القائمة.
⸻
4. القراءة الصهيونية للزيارة
المدافعون عن قراءة كافكا كصهيوني يعتبرون هذه الزيارة دليلًا على انجذابه العميق لفكرة الوطن القومي:
• حضوره لقاءات صهيونية.
• انخراطه في محادثات حول مستقبل اليهود في فلسطين.
• رغبته في تعلم العبرية بجدية أكبر بعد عودته.
بل إن ماكس برود لاحقًا استخدم هذه الزيارة في مقالاته ليدعم صورته عن كافكا كـ”يهودي يبحث عن الخلاص في أرض الميعاد”.
⸻
5. القراءة النقدية المضادة
على النقيض، يرى بعض الباحثين أن زيارة كافكا لم تكن أكثر من رحلة استشفائية ثقافية، تشبه رحلاته السابقة إلى مصحات جبال الألب أو الشواطئ الإيطالية، وأنه لم يُظهر أي نية جدية للهجرة أو الإقامة في فلسطين.
كما أن وصفه لفلسطين في رسائله لم يكن مثاليًا أو تبشيريًا، بل جاء مليئًا بالمفارقات والقلق، وهو ما يتعارض مع الخطاب الصهيوني الموحّد.
⸻
6. فلسطين كفضاء متخيل في أدبه
من المثير أن كافكا، رغم هذه الزيارة، لم يكتب أي نص أدبي تدور أحداثه في فلسطين بشكل مباشر. لكن بعض النقاد يرون أن ملامح المكان – خصوصًا الصحراء والعزلة والازدواجية الثقافية – تسربت إلى أعماله الرمزية، خاصة في نصوصه المتأخرة.
القصة الوحيدة التي يمكن أن يُقال إنها تحمل رائحة الصحراء و”الآخر العربي” كانت “بنات آوى والعرب”، لكنها سابقة للزيارة بسنوات.
⸻
7. الخلاصة
زيارة كافكا لفلسطين كانت حدثًا صغيرًا في حياته الواقعية، لكن كبيرًا في تأويل سيرته لاحقًا. بالنسبة للصهاينة، كانت علامة على تقارب أديب عالمي مع مشروعهم. بالنسبة للمنتقدين، كانت مجرد محطة عابرة لرجل ظل غريبًا عن جميع الأوطان، حتى تلك التي قيل إنها “أرضه الموعودة”.
وكما في كل ما يخص كافكا، تبقى الحقيقة معلقة بين الواقع والخيال.
———-
الفصل التاسع: ماكس برود وصناعة كافكا الصهيوني
1. الوصية التي لم تُنفّذ
في عام 1924، وقبل أن يرحل كافكا عن عمر يناهز الأربعين، أوصى صديقه المقرب ماكس برود بحرق كل مخطوطاته ورسائله غير المنشورة. لكن برود، الذي كان صهيونيًا ملتزمًا ومهاجرًا لاحقًا إلى فلسطين، رفض تنفيذ الوصية، وقرر نشر أعماله وتحريرها.
هذا القرار لم يكن بريئًا من الناحية الثقافية والسياسية؛ فقد فتح الباب أمام إعادة صياغة صورة كافكا في المخيلة العامة.
⸻
2. ماكس برود: الصديق والوصي والمفسر
كان برود أكثر من مجرد صديق؛ كان المفسر الأول لكتابات كافكا، والمحرر الذي صاغ النهايات الناقصة لرواياته، مثل القلعة وأمريكا.
بصفته كاتبًا وصحفيًا صهيونيًا، حمل برود رؤيته الخاصة، والتي كانت تقوم على فكرة أن معاناة كافكا تمثل معاناة اليهود في الشتات، وأن الحل يكمن في الوطن القومي اليهودي في فلسطين.
⸻
3. الاستراتيجية التأويلية
بعد نشر أعمال كافكا، حرص برود على تقديم مقدمات وتعليقات تربط نصوصه بالسياق اليهودي والصهيوني، وأبرز نقاطه كانت:
• اليهودي الغريب في روايات كافكا ليس مجرد إنسان مغترب، بل رمز لليهودي في أوروبا المعادية.
• البيروقراطية القاسية في المحاكمة أو القلعة تعكس اضطهاد اليهود في الشتات.
• النهاية المفتوحة أو الفشل الدائم للشخصيات يرمز إلى انعدام الأمان بدون وطن قومي.
⸻
4. التأثير على القراء والنقاد
بفضل سيطرته على أرشيف كافكا، تمكن برود من توجيه أول موجة من النقد الكافكوي نحو قراءة ذات طابع صهيوني.
في الثلاثينيات والأربعينيات، ومع تصاعد معاداة السامية في أوروبا، بدا هذا التفسير مقنعًا للكثيرين، خاصة بعد المحرقة، إذ أصبح كافكا يُقرأ كـ”نبي الاغتراب اليهودي” الذي سبق الكارثة وتنبأ بها.
⸻
5. فلسطين كمسرح لترويج كافكا
بعد هجرته إلى فلسطين عام 1939، أخذ برود معه أرشيف كافكا، وعمل على نشره في دور نشر يهودية وأوروبية، متعمدًا ربط صورته بمشروع الدولة اليهودية.
لقد تحولت فلسطين بالنسبة لبرود إلى منصة ثقافية لتسويق كافكا بوصفه أحد الأصوات الكبرى التي تؤكد الحاجة الماسّة للوطن القومي.
⸻
6. النقد المعاصر لدور برود
اليوم، كثير من الباحثين – مثل شاؤول فرومر وجوديث بتلر – يشيرون إلى أن ماكس برود لم يكن مجرد ناقل أمين، بل مؤدلِج صامت، غيّر من تلقّي كافكا عبر:
• اختياراته لما ينشر وما يحجب.
• تعديلاته على النصوص.
• مقدماته المشحونة بالرمزية الصهيونية.
• تقديم كافكا للقراء كيهودي يبحث عن الخلاص في فلسطين، حتى لو لم يكن هذا دقيقًا تاريخيًا.
⸻
7. هل كان برود يخون أم ينقذ صديقه؟
يبقى السؤال الأخلاقي والأدبي: هل كان ماكس برود يخون وصية صديقه، أم ينقذه من النسيان؟
الجواب قد يكون مزدوجًا: برود منح كافكا الخلود الأدبي، لكنه في الوقت نفسه صاغ صورته في إطار أيديولوجي يخدم مشروعه السياسي. وربما لولا هذه القراءة الصهيونية المبكرة، لما أصبح كافكا بهذه المكانة في الأدب العبري والعالمي.
⸻
8. خلاصة الفصل
يمكن القول إن ماكس برود لم يكن مجرد محرر، بل كان صانع الأسطورة الكافكوية. الأسطورة التي تجمع بين الأديب العالمي واليهودي الضائع، وتربط مصيره بمصير شعبه كما يراه برود.
لكن هذه الصورة ليست بالضرورة ما كان يراه كافكا عن نفسه، وهو ما يجعلنا أمام مفارقة: كافكا الذي لم ينتمِ بوضوح لأي مشروع سياسي، تحوّل إلى أيقونة سياسية بعد وفاته.
⸻
الفصل العاشر: الإشارات الرمزية المحتملة للصهيونية في نصوص كافكا
1. لماذا “بنات آوى والعرب”؟
من بين كل نصوص كافكا، تظل هذه القصة القصيرة، التي نُشرت عام 1917 في مجلة يهودية اسمها Der Jude، الأكثر إثارة للجدل من ناحية القراءة الصهيونية.
السبب بسيط: القصة تجري أحداثها في صحراء عربية، وتتناول مواجهة بين “بنات آوى” و”العرب”، مع وجود راوي أوروبي. هذه العناصر الثلاثة – المكان، والشخصيات، والراوي – جعلت الباب مفتوحًا أمام تفسيرات سياسية.
⸻
2. ملخص القصة
يحكي الراوي الأوروبي عن رحلته في الصحراء برفقة قافلة عربية. أثناء التوقف، تقترب منه مجموعة من بنات آوى، تتحدث إليه وتطلب منه أن ينهي عذابها، بأن يقتل العرب بمقص صدئ تحمله.
البنات الآوى تصف العرب بأنهم “نجسون”، لا يلتزمون بالنقاء الذي تؤمن به، وأنها تنتظر منذ قرون قدوم “المخلّص” الذي سيحررها من وجودهم.
لكن عندما يظهر أحد العرب، يضحك من الأمر، ويطعم بنات الآوى قطعة لحم من جثة جمل، ويجلدها، فينتهي الموقف بلا صدام دموي.
⸻
3. التفسير الصهيوني
النقاد الذين يرون أن النص يحمل بعدًا صهيونيًا يرون أن:
• بنات الآوى = اليهود: ضعفاء، يعيشون على هامش المجتمع، ينتظرون الخلاص من قوة خارجية (الراوي الأوروبي/الغربي).
• العرب = السكان المحليون في فلسطين: مهيمنون على الأرض، يرون أنفسهم أصحاب المكان، ويتعاملون مع “الآخر” بنوع من التهكم أو الاستعلاء.
• المقص = وعد بلفور (الذي صدر بعد أشهر قليلة من نشر القصة): أداة “تحرير” اليهود من سيطرة العرب، لكنها أداة يمنحها الأوروبي، لا يصنعها اليهود بأنفسهم.
هذا التفسير يرى القصة كمسرحية رمزية عن العلاقة بين اليهود والعرب في بداية القرن العشرين، قبل حتى أن تتشكل خطوط الصراع الحديثة.
⸻
4. التفسير النقدي المعارض
في المقابل، باحثون مثل جوديث بتلر يرون أن النص ليس تمجيدًا للصهيونية، بل سخرية منها:
• بنات الآوى في القصة عاجزة عن تحقيق أي فعل ذاتي، وتظل رهينة انتظارها للمخلّص الخارجي، ما يعكس اعتمادًا مرضيًا على الآخر.
• العرب يظهرون في القصة ليس كأعداء شرسين، بل كقوة عملية تتعامل مع الواقع، وفي النهاية يطعمون بنات الآوى، ما يخلق صورة معقدة.
• الخلاص في القصة لا يتحقق، بل ينتهي المشهد إلى استمرار الوضع كما هو، مما يعكس رؤية كافكا التشاؤمية تجاه أي مشروع خلاص سياسي أو ديني.
⸻
5. الرموز الثقافية العميقة
القصة أيضًا مشحونة برموز دينية وثقافية:
• طقس الذبح: رفض بنات الآوى أكل اللحم إلا بعد قتله بطريقة “نقية” يذكّر بشروط الذبح الحلال في اليهودية (الكوشر)، ما يضيف بعدًا طقوسيًا للهوس بالنقاء.
• الصحراء: في التراثين اليهودي والمسيحي، الصحراء مكان اختبار وتجربة روحية، لكنها أيضًا فضاء للموت والعزلة.
• الراوي الأوروبي: قد يمثل الاستعمار الغربي الذي ينظر إلى الصراع المحلي من موقع العلو، ويقرر مصائر الشعوب.
⸻
6. قراءة في ضوء السياق التاريخي
عند نشر القصة في 1917:
• كانت الحرب العالمية الأولى تغيّر الخريطة السياسية للشرق الأوسط.
• كانت بريطانيا على وشك إصدار وعد بلفور الذي يدعم إقامة “وطن قومي لليهود” في فلسطين.
• كان النقاش داخل الأوساط اليهودية بين الاندماج في أوروبا والهجرة إلى فلسطين على أشده.
في هذا السياق، قد يكون النص انعكاسًا لمأزق الهوية اليهودية أكثر منه دعاية صريحة لأي مشروع.
⸻
7. أعمال أخرى ومحاولات القراءة الصهيونية
رغم أن “بنات آوى والعرب” هي الأكثر وضوحًا من حيث الرموز الجغرافية والسياسية، حاول بعض النقاد إيجاد إشارات صهيونية في نصوص أخرى مثل:
• “أمريكا”: حيث يبحث البطل عن مكان جديد يحقق فيه ذاته، ما يشبه “الهجرة”.
• “القلعة”: التي يمكن قراءتها كرحلة إلى “أرض الميعاد” التي تبقى عصية على الوصول.
لكن هذه القراءات تبقى مجازية، ولا تحمل وضوح الرموز الموجود في “بنات آوى والعرب”.
⸻
8. خلاصة الفصل
يمكن القول إن كافكا، بقصته “بنات آوى والعرب”، ترك نصًا مفتوحًا على تأويلات متعددة:
• قراءة صهيونية ترى فيه نبوءة الصراع العربي-الإسرائيلي، وتمجيدًا لفكرة الخلاص على يد الغرب.
• قراءة نقدية ترى فيه تفكيكًا وسخرية من الاعتماد على الآخر، وتحذيرًا من عبثية البحث عن النقاء المطلق.
وبين هذين الطرفين، يظل النص جزءًا من عالم كافكا الأوسع، حيث العبث والاغتراب الإنساني يطغيان على أي رسالة سياسية مباشرة.
⸻
الفصل الحادي عشر: كافكا بين الهوية اليهودية والكونية الإنسانية
1. مأزق الانتماء المزدوج
كافكا عاش حياته ممزقًا بين دوائر هوية متعددة:
• يهودي في مجتمع أوروبي مسيحي، يحمل إرثًا دينياً لكنه لا يمارسه.
• ألماني اللغة في مدينة تشيكية، ما جعله غريبًا لغويًا عن محيطه.
• أوروبي مثقف في زمن القوميات المتصاعدة، حيث الهويات الصافية كانت مطلبًا سياسيًا.
هذا التمزق أنتج إحساسًا دائمًا بالاغتراب، يظهر بوضوح في يومياته حين كتب:
“ما الذي يجمعني باليهود؟ من الصعب القول، كما أنه من الصعب القول ما الذي يجمعني بنفسي.”
⸻
2. الهوية اليهودية كإطار ثقافي لا سياسي
رغم ارتباطه بدوائر أصدقاء صهاينة مثل ماكس برود، لم ينخرط كافكا في النشاط السياسي. بالنسبة له، اليهودية كانت:
• ذاكرة ثقافية أكثر من كونها التزامًا دينيًا.
• مصدر إلهام رمزي لأعماله، خاصة من خلال النصوص التوراتية والأساطير التلمودية.
• عدسة روحية لفهم تجربة الاغتراب الإنساني.
لقد تعلم العبرية في سنواته الأخيرة، وقرأ نصوصًا يهودية قديمة، لكنه لم يسعَ إلى “تحقيق” مشروع قومي بنفسه.
⸻
3. الكونية الإنسانية في نصوصه
كافكا لم يكتب عن اليهود كجماعة محددة فحسب، بل عن الإنسان المعاصر ككائن محاصر بأنظمة لا يفهمها:
• في “المحاكمة”، يصبح القانون كيانًا غامضًا لا يمكن النفاذ إليه، وهو استعارة يمكن أن تمثل أي سلطة قمعية، سواء كانت دولة أو عقيدة.
• في “القلعة”، السعي للوصول إلى “المركز” يعكس رحلة عبثية للبشر في مواجهة مؤسسات مغلقة، دينية كانت أم سياسية.
• في “المسخ”، التحول الجسدي لغريغور سامسا لا يمكن حصره في تجربة أقلية واحدة، بل هو صورة للتحول القسري الذي يعيشه أي إنسان منبوذ.
هذه الموضوعات تتجاوز أي إطار قومي، وتضع كافكا في مصاف الأدباء العالميين.
⸻
4. الجدل بين القراء
• بعض القراء اليهود رأوا في أعماله إسقاطًا لتجربة اليهود في أوروبا، حيث الاغتراب والاضطهاد كانا واقعًا يوميًا.
• قراء آخرون – من ثقافات مختلفة – وجدوا أنفسهم في نصوصه، بغض النظر عن خلفياتهم، لأن الخوف من المجهول والسلطة المجهولة تجربة إنسانية عامة.
هذه الازدواجية جعلت من كافكا مرآة يمكن لكل قارئ أن يرى فيها نفسه، لكن من زاوية مختلفة.
⸻
5. كافكا و”اللاانتماء” كقيمة
اللاانتماء عند كافكا لم يكن مجرد معاناة، بل أصبح أداة فكرية:
• التحرر من الهوية الصلبة سمح له بطرح أسئلة تتجاوز القوميات.
• الاغتراب تحول إلى لغة عالمية يمكن فهمها من قبل أي إنسان يعاني من البيروقراطية، أو الظلم، أو القهر الاجتماعي.
ربما لهذا السبب، لم تُستهلك أعماله في سياق واحد، بل أعيد تأويلها في عشرات البيئات الثقافية والسياسية.
⸻
6. خلاصة الفصل
كافكا كان يهوديًا بالولادة، إنسانياً بالفكر.
هو لم يرفض هويته، لكنه رفض أن تُختزل تجربته في حدودها. نصوصه تحمل بذور قراءة صهيونية، لكنها في الوقت نفسه، تفتح الباب لقراءة كونية أوسع، تجعل من العبث الوجودي الذي وصفه قضية بشرية لا تعرف حدودًا ولا أعراقًا.
⸻
الفصل الثاني عشر: الخاتمة – كافكا بين العبث الإنساني والحلم المؤدلج
1. الحصيلة الفكرية للنقاش
بعد رحلة طويلة بين نصوص كافكا، ويومياته، ورسائله، وبين القراءات المختلفة لأعماله، يمكننا القول إن العلاقة بين كافكا والصهيونية ليست معادلة بسيطة.
• لم يكن منظّرًا سياسيًا للصهيونية، لكنه أيضًا لم يقف موقف الرفض القاطع.
• نظر إلى الحركة الصهيونية بوصفها احتمالًا للخلاص الروحي لليهود، دون أن يذوب فيها فكريًا.
• ترك نصوصًا مفتوحة تحتمل قراءة صهيونية، لكنها تحتمل أيضًا عشرات القراءات الأخرى.
⸻
2. دور ماكس برود في ترسيخ الأسطورة
لا يمكن فهم صورة كافكا في الوعي العام – خاصة في إسرائيل – من دون الإشارة إلى ماكس برود:
• برود أنقذ أعمال كافكا من الحرق، لكنه في الوقت نفسه أضاف إليها سياقات وتفسيرات صهيونية.
• قدم كافكا على أنه “النبي الأدبي للصهيونية”، وهي صورة لا تتطابق مع شخصية كافكا الحقيقية.
• هذا التدخل جعل من الصعب فصل نصوص كافكا عن الرواية التي صاغها برود لاحقًا.
⸻
3. كافكا كأيقونة عابرة للسياسة
رغم محاولات تسييسه، ظل كافكا بالنسبة لملايين القراء:
• رمزًا للإنسان الذي يواجه أنظمة لا يفهمها.
• صوتًا للمنبوذين، أياً كانت هويتهم.
• مثالًا على أن الأدب العظيم لا ينغلق على سياق واحد، بل يظل قابلًا لإعادة القراءة في أزمنة وأمكنة مختلفة.
⸻
4. السؤال المفتوح
هل كان كافكا يكتب عن العبث الإنساني أم عن الحلم الصهيوني؟
الإجابة ربما تكمن في كلمة واحدة: كلاهما… ولا أحدهما في الوقت نفسه.
• كافكا كان يرى في الصهيونية حلاً محتملاً لمعضلة اليهود في أوروبا، لكنه لم يجعلها محور إنتاجه الأدبي.
• نصوصه عن العبث الإنساني كانت أوسع وأعمق من أن تُختزل في مشروع سياسي.
⸻
5. الدرس من قراءة كافكا اليوم
قراءة كافكا في القرن الحادي والعشرين تذكرنا بأن:
• الأدب ليس ملكًا لسلطة سياسية أو أيديولوجية.
• النصوص العظيمة تتحدى محاولات احتكار معناها.
• الغموض ليس عيبًا في النص، بل هو ما يمنحه القدرة على البقاء حيًا.
⸻
6. كلمة أخيرة
كافكا كان، وما زال، أديبًا يقف على الحد الفاصل بين الانتماء واللاانتماء، بين الأمل واليأس، بين الحلم والعبث.
ربما كان هذا هو سر قوته: أنه لم يقدم لنا إجابات نهائية، بل ترك لنا أسئلة مفتوحة، نستطيع أن نعيد طرحها كلما تغير العالم من حولنا.
⸻
المصادر والمراجع
أولًا: المصادر الأولية (كتابات كافكا)
1. Kafka, Franz. The Trial (Der Prozess). Translated by Breon Mitchell. Schocken Books, 1998.
2. Kafka, Franz. The Castle (Das Schloss). Translated by Mark Harman. Schocken Books, 1998.
3. Kafka, Franz. Metamorphosis and Other Stories. Translated by Michael Hofmann. Penguin Classics, 2007.
4. Kafka, Franz. Letter to His Father (Brief an den Vater). Translated by Ernst Kaiser and Eithne Wilkins. Schocken Books, 1966.
5. Kafka, Franz. Diaries 1910–1923. Edited by Max Brod. Schocken Books, 1948.
6. Kafka, Franz. Letters to Felice (Briefe an Felice). Edited by Erich Heller and Jürgen Born. Schocken Books, 1973.
7. Kafka, Franz. “Jackals and Arabs” (Schakale und Araber). First published in Der Jude, 1917.
⸻
ثانيًا: المصادر الثانوية (دراسات نقدية وتحليلية)
1. Brod, Max. Franz Kafka: A Biography. Schocken Books, 1960.
2. Butler, Judith. Parting Ways: Jewishness and the Critique of Zionism. Columbia University Press, 2012.
3. Politzer, Heinz. Franz Kafka: Parable and Paradox. Cornell University Press, 1962.
4. Pawel, Ernst. The Nightmare of Reason: A Life of Franz Kafka. Farrar, Straus and Giroux, 1984.
5. Sokel, W-alter-H. The Myth of Power and the Self: Essays on Franz Kafka. Wayne State University Press, 2002.
6. Robertson, Ritchie. Kafka: Judaism, Politics, and Literature. Oxford University Press, 1985.
7. Corngold, Stanley. Lambent Traces: Franz Kafka. Princeton University Press, 2004.
8. Sandbank, Shimon. After Kafka: The Influence of Kafka on Contemporary Literature. Wayne State University Press, 1989.
9. Gray, Ronald. Franz Kafka. Cambridge University Press, 1973.
10. Zilcosky, John. Kafka’s Travels: Exoticism, Colonialism, and the Traffic of Writing. Palgrave Macmillan, 2003.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟