|
كذبة الكناري ووصيّة الحمار الوحشي
أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8455 - 2025 / 9 / 4 - 00:31
المحور:
الادب والفن
في صباحٍ مائلٍ إلى زرقةٍ خفيفةٍ كأنَّ الليلَ لم يُسلِّم مفاتيحَه بعد، كانت الغابةُ تستيقظ على خِفَّةِ رفيفٍ وتثاؤبِ ريحٍ تُقلِّبُ رائحةَ التوت الناضج على سفحِ الضوء. العشبُ مُبتلٌّ بندى يُشبه الوصايا غيرَ المكتوبة التي تتركها الليالي على أكتافِ الصباح، والسماءُ مُنفرجةٌ مثل جفنٍ يُوشك أن يفيق. في قلب تلك الفسحة انتصبت شجرةُ التوت العتيقة، جذعُها مفلوقٌ بالسنين، وأهدابُ أغصانها تتدلّى كستائرَ خضراءَ تُظَلِّلُ العابرين.
وفوق أعلاها وقف طائرٌ كناريٌّ صغير: ريشُه أصفرُ كخيطٍ من شمسٍ ضلَّ الطريقَ إلى الأرض، وعيناه تلمعان بتوجُّسٍ لا يليق بمخلوقٍ نشأ على الغناء أكثرَ من الكلام. راقب الكناريُّ العالمَ من عليائه كمن ينأى بنفسه عن ضجيجٍ مُحتملٍ بنغمةٍ مُرَّة، وفكَّر—وهو يختبرُ ارتعاشةَ صوته—كيف يمكن لصوتٍ واحدٍ أن يُغيِّر مجرى الأشياء، خصوصًا إذا خبَّأ وراء نغماتِه كذبةً تُرضي شهيَّةَ كبارِ الغابة المُنهَكين بالامتلاك.
تحت الشجرة نفسها تمدَّد حمارٌ وحشيٌّ أنهكه الهربُ والبردُ والليل. عيناه الكبيرتان تتأرجحان بين ذهولٍ وراحة، وأنفاسُه تطلعُ وتهبطُ كأمواجٍ صغيرةٍ تُخادع شاطئًا مُتعبًا. اقترب الكناريُّ حتى صار يسمعُ الهمسَ الذي لا يُقال: ما من كلمةٍ واضحةٍ خرجت من فم الحمار؛ أنينٌ خافتٌ فقط، وفي طرفِ الشفتين جفافٌ يُشبه فواصلَ الكلام قبل أن يُكتَب. في تلك اللحظة لمح الكناريُّ فرصةً للنجاة من صِغَرِ حجمه ومن عجزه: «لو أن وصيَّةً خرجت الآن»، همس في سرِّه، «لصار صوتي ممرًّا وحيدًا للحقيقة… أو لما نُسمِّيه حقيقةً حين تخدمنا الكذبة».
لم يلبث الضوءُ أن أخذ مكانه حتى امتلأ الهواءُ بالأصوات. الغربانُ كانت أوَّل الواصلين، تدورُ وتنعقُ كأنها تُقايضُ الخبرَ بنظرةِ حكماءِ الزمان. النسورُ تحومُ في دوائرَ بعيدةٍ قليلًا عن موقع الحدث، لا تقربُ الولائمَ قبل أن تستوثق من القانونِ الذي سيحكمُ القِسمة. الذئابُ تمشي بنصفِ قوسٍ خلف الظلال، عيونُها تلمعُ بالجوعِ القديم، والضباعُ تُسْرِعُ بضحكٍ مُربِكٍ كأنَّ الضحكَ ملجأٌ من الخوف. الأرانبُ تُخرِجُ رؤوسًا متوتِّرةً من الجحور ثم تختفي، والسناجيبُ تهرول على جذع التوت كرسلٍ للحدث، تحملُ في الخدَّين عناوينَ صغيرةً للأخبار. في طرف الفسحة ظهر الثعلبُ مُبتسمًا بفمه، صامتًا بعينيه، يتلفَّت كوزيرٍ يُتقنُ الإصغاءَ قبل أن يتكلَّم. ثم جاء القردُ—قاضي الغابة—متأبِّطًا عصاه الخيزرانية، يتبعه كتبةٌ صغارٌ بوجوهٍ أكبرَ من خبرتهم، حتى ارتفعت الشمسُ إصبعًا إضافيًّا في السماء، فدخل الأسدُ الملك. مشى ببطءٍ يليقُ بالهيبة؛ هيبةٌ تسبقُ خطواتِه قبل أن يمشي، وتصمتُ بعدها الأفواهُ عن خوفٍ مكتوم.
ضرب القردُ الأرضَ بعصاه ثلاثًا، فهدأ الضجيجُ حتى كاد يكونُ همسًا. قال بصوتٍ يعرفُ كيف يختلط فيه الوقارُ بوعيه بذاته: — نَعقدُ مجلسَ الغابة للنظر في موتِ الحمار الوحشيِّ تحت شجرةِ التوت. من يشهد؟ من يملكُ خبرًا؟ فالعدلُ سقفٌ للجميع… إلَّا مَن رأى أن سقفَ الهيبةِ أقدسُ من المشهدِ المُحزن.
هبط الكناريُّ من غصنه الأعلى إلى غصنٍ أدنى، ثم أدنى، حتى صار على ارتفاعٍ يراه فيه الجميع. نفخ في صدره نفخةَ مُغنٍّ قبل مقطعٍ صعب، وقال وهو يشقُّ صوته بين نغمةٍ ونغمة: — كنتُ هنا… شاهدتُ أنفاسَه الأخيرة، وسمعتُ وصيَّتَه.
تعالت الأصواتُ مُستنكرة: «كاذب!»، «منذُ متى يُؤتمنُ الكناريُّ على الوصايا؟»، «ومَن أنتَ لتسمعَ ما حدث وأنتَ دائمًا فوقَ الأغصان؟». ضحكت الضباعُ ضحكةً فيها من الفحيح ما يكفي لإسكات جرأةِ الكناري، وصاحت الذئابُ: «هاتْ ما عندك، وإلَّا جعلناك تلحقُ بمن أوصاك!». رفع القردُ يدَه: — الصمتُ للمجلس. تكلَّم يا كناريّ، واعلم أنَّ الشهادةَ دينٌ… ودَيْنُ الشهادة ثقيلٌ إن لم تُدعِّمه هيبةٌ أو كبرياء.
تلعثم الكناريُّ لحظةً، ثم ثبت، ونظر إلى أعلى كمن يستمدُّ من السماء ثقةً إضافية، وقال: — أوصى الحمارُ الوحشي—وهو يحتضر—بأن تكون أشجارُ التوت كلُّها لي. لأنني الوحيدُ الذي لم أهرب، وأنا شاهدُه حين كان يحتضر.
تدفَّق المكانُ بالصراخ. نعقتِ الغربان، ونبحتِ الضباع، وصُراخُ الأرانب كطرقٍ سريعٍ على أرضٍ طرية. صاح حمارٌ أهليٌّ يرقبُ من بعيد: — لو أوصى، لأوصى للغابة لا لعصفور! أنتَ تسرقُ الظِّلَّ منَّا باسمِ قدسيَّةِ الوصيَّة التي أنستنا الوداع!
رفع الكناريُّ صوته درجةً، كمن يعرفُ أنَّ الكذبةَ تحتاجُ إلى رشوةٍ لآذانٍ كثيرة: — وقال: لقد أوصى برأسِه للأسدِ الملك؛ لأنَّ الرأسَ يليقُ بهيبتِه ويُرضي كبرياءَه، ولأنَّ جمالَ الغابة أن تُزيَّنَ رأسُ ملكها برأسِ مَنْ قاومَ الموتَ ثم خضع له.
التفتتِ الرِّقابُ إلى الأسد. لم يتحرَّك، لكنَّه رفع ذقنَه مقدارَ شبرٍ من غرورٍ موروث. مال الثعلبُ على أُذنِ الملك وقال همسًا يقطرُ نفعًا: — يا مولاي، الرأسُ يُناسبُ هيبتَك فعلًا، ويليقُ بكِبريائِك أمام الجميع. والهيبةُ حين تُرى لا يُسأل: مَن الذي وَهَبَها؟
قالت ذِئبةٌ عجوزٌ بصوتٍ خشن: — ومَن للجسد إذن؟ أتُطعمُنا الفتاتَ أيها الطائرُ الماكر؟
ابتسم الكناريُّ ابتسامةَ مَنْ أدرك موضعَ الجوع في تقلُّبِ القلوب: — الجسدُ يُقسَّم: للذئابِ قِطَع، وللضِّباعِ قِطع، وللنُّسورِ والغِربان نصيبٌ معلوم. هكذا يرضى الجميع، وتهدأ الغابة.
صاحت الغربانُ: «العينان لنا!»، وقالت النسور: «لا نرضى قممًا منزوعةَ اللحم، نُريد ما يليقُ بأجنحتنا!». همس ثعلبٌ شابٌّ: «وهل يبقى لنا الذَّيلُ نلوِّحُ به إذا مرَّ الأسد؟». الأرانبُ هزَّت آذانَها تنديدًا: «التوتُ للجميع! كيف صارت الوصيَّةُ قانونًا لشجرةٍ لا ظلَّ لها؟».
طرقَ القردُ بعصاه: — هل ثَمَّةَ دليل؟ وصيَّةُ المُحتضر لا تُقبَلُ بلا علامة… إلَّا إن وافقتْ هيبةَ الملك.
تنحنح الكناريُّ كأنَّما تذكَّرَ شيئًا غاب عنه: — أوصى كذلك بأن تكون الجذورُ للأرانب. أنتم أهلُ الأرض، وملكيتُكم للجذورِ تجعلُ لكم أصلًا ثابتًا. وأوصى بالفستقِ للسناجيب؛ فهم أمناءُ الخزائن الصغيرة.
تهامست الأرانبُ: «نملكُ ما لا نرى؟ نملكُ الجَذْرَ ونُحرَمُ الظلَّ؟». قفزتْ سنجابَةٌ مسحورةٌ ثم قالتْ لصاحبتها: «الفستقُ لا ينبتُ هنا، لكنَّ الامتلاكَ جميل!».
رفع القردُ حاجبَيْه: — هل بقي شيء؟
أشرق الكناريُّ بتغريدٍ طويل وبلمعةِ خيطٍ أخيرٍ أراد أن يربطَ العقدةَ الأخيرة من مسلسلِ الكذبة: — نعم، أوصى للقرودِ بأشجارِ الموز كلِّها. لأنَّهم الحُكماء، وحكمتُهم تحتاجُ إلى الموز حتّى تَلينَ أحكامُهم.
تراوحتْ في عينَي القرد ذكرياتٌ قديمةٌ من غاباتٍ دافئةٍ ومذاقاتٍ حلوة. التفتَ إلى كُتَّابِه وهمس لنفسه: «الموزُ لنا؛ إذًا العدالةُ لنا». رفع عصاه وقال بصرامةٍ مغسولةٍ بنشوةِ الموز: — تُنفَّذُ الوصيَّة. الشهادةُ مُعتبرة، وهيبةُ الملك مصونة، وحلاوةُ الموز تُتِمُّ النقص.
انفجرتِ الغابةُ بأصواتٍ تمتحنُ حدودَها. الذئابُ تهلِّل كجنودٍ تقاضَوا أجورَهم المتأخِّرة، الضباعُ تضحكُ وتلعقُ أطرافَ الهواء، الغربانُ تُرتِّبُ الجموع، النسورُ تعلو وتهبطُ كأنَّها تُعلِّمُ الهواءَ آدابَ المرور فوق الفريسة. أمّا الأسدُ فلم يقل شيئًا؛ تقدَّم، وانحنى انحناءةً لها ظلُّ سكينٍ على عنقِ صمت، وأخذَ الرأسَ بين فكيه برفقٍ لا يُوصَف برقَّةٍ ولا بقسوة. قال للثعلب: — الرأسُ لي… فهو يليقُ بكِبريائي. ومن شِيَم الملوك أن تُزيَّن الرؤوسُ هاماتِهم.
تقدَّم الثعلبُ أمامه كوزيرٍ يُوقِّعُ واقعةً خطَّط لها، يهمسُ في نفسه: «البراغماتيةُ مدرسةٌ تُخرِّجُ الانتهازيِّين بامتياز».
⋯
مرَّت مساءاتٌ قليلةٌ ثم تغيَّر وجهُ الغابة كالمريضِ يبدأ همسًا قبل أن يعلو صوتُه. نالت الذئابُ والضِّباعُ حصصَها، لكنَّ الحدودَ بين أفواجِ الصيد تشابكت؛ معاركُ قصيرةٌ على أطرافِ الظلال، دماءٌ قليلةٌ تفتحُ شهيَّةَ الدمِ الكثير. قالت ذِئبةٌ لصاحبتها وهي تلهث: — قِسمةُ اللحم أشعلتِ الجوع. الكبارُ يزدادون شبعًا بفضلِ الكذبة، ونحنُ نتنازعُ الفتات.
النُّسورُ والغربانُ شدَّتَا دورانَهما فوق المكان، وثقلتْ رائحةُ الفسحةِ بعبقٍ كريهٍ يُصيبُ الأرواحَ قبل الأنوف. الأرانبُ—وفاءً للوصيَّة—بدأت تحفرُ حول الجذور لتُثبتَ الملكيَّة. اهتزَّتِ التربة، وتعرَّضتْ أغصانُ التوت لرياحٍ ما كانت تهزُّها من قبل. همستْ أرنبٌ لصاحبتها: — نملكُ الجذورَ على ورقِ الوصيَّة… لكننا لا نحوزُ حقَّ الظلِّ، بل نُرهقُ الشجرةَ كي يهنأ الكناريُّ بالأغصان.
السناجيبُ أعلنت بفخرٍ أنَّها «أهلُ الفستق»، صنعتْ أعشاشًا كخزائنَ صغيرةٍ لها أبوابٌ من قَشٍّ وخَرائطُ للسَّراب. قالتْ سنجابَةٌ بعد أن عدَّتْ جرَّتَها الفارغة: — وعدتنا الوصيَّةُ بالبذور، فأعطتنا أسماءَ البذور. ما الجدوى من لَقَبٍ بلا محتوى؟
أصدر القردُ القاضي مرسومًا: «تُثبَّتُ الوصايا التي تجيءُ على ألسنةِ شُهودٍ من طيورِ السماء، ما داموا أوَّلَ الحاضرين إلى صدرِ المشهد… وتُزادُ ثقةُ الشهادةِ إذا عزَّزتْ هيبةَ وكبرياءَ الأسدِ الملك». أوعز لكتبتِه أن يُزيِّنوا أوَّلَ صفحةٍ بقشرِ موزٍ مُجفَّفٍ على هيئةِ قنديلٍ صغير، وقال وهو يبتلعُ ريقَه: — القانونُ مُرِنٌ إذا كَثُرَ الموز. والعدلُ يُحكى بلسانٍ حلوٍ ليُصدِّقَه الجميع.
من عليائه صار الكناريُّ «صاحبَ بساتين التوت» رسميًّا. في كلِّ صباحٍ يقفُ على الغصنِ الأعلى ويُغنِّي «نشيدَ العدل»، ثم يُرسلُ حرّاسًا من عصافيرَ صغيرةٍ يطردون من الظلِّ كلَّ مَن لا يملكُ إذنًا ممهورًا بختمِ القرد. جاءت غزالةٌ بيضاءُ تطلبُ حفنةَ ثمارٍ لِتُطْعِمَ صغيرَها، فقيل لها: — لا تُقطفي إلَّا بإذنِ الكناريِّ صاحبِ البستان.
ردَّت وهي تُحاولُ سترَ قهرِها: — كان الحمارُ الوحشيُّ يهبُ الظلَّ ولا يسأل. أأصبح العدلُ الآن إذنًا على ظلٍّ من ورق؟
أشار الكاتبُ إلى القنديلِ المُزيَّن بقشرِ الموز وقال ببرود: — القانونُ يحمي الملكيَّة. والهيبةُ لا تُجادَل.
⋯
ليلةً خاملةَ الريح، اجتمع عند أطرافِ الفسحة ثلاثة: سلحفاةٌ هَرِمة، وبومةٌ صامتة، وقنفذٌ يُحدِّثه حذرُه قبل لسانِه. قالت السلحفاةُ بصوتٍ بطيءٍ كأنَّه يمشي على أربع: — كيف يُوصي ميِّتٌ بما لا يملك؟ التوتُ ظلٌّ للجميع، والرأسُ ليس تاجًا يُقلَّدُ لملكٍ واحد. الجذورُ إذا ملكتْها الأرانبُ خرَّبتِ الأرض. الكذبةُ صارت قانونًا.
أدارت البومةُ رأسَها دورةً كاملة: — الشهاداتُ التي تُغنِّي لآذانٍ جائعةٍ تصيرُ قانونًا بسرعة. القاضي إذا شمَّ رائحةَ الموز صار حُكمُه أشهى من الدليل. والملكُ حين يجدُ ما يُزيِّنُ عرشَه يغفرُ للكذبة لأنَّها تُداعبُ غرورَه. الفسادُ يبدأ من اللحظةِ التي يُستحسَنُ فيها الوَهْمُ لأنَّه مُربِح.
قبضَ القنفذُ شوكَه وقال: — لا تَنْسَوا الثعلبَ. يبتسمُ كثيرًا ويهمسُ بما يُريدُ الكبارُ سماعَه. البراغماتيةُ على لسانِه تبريرٌ أنيقٌ لفسادٍ قبيح.
ردَّتِ البومةُ وهي تُضيِّقُ جفنَيْها: — البراغماتيةُ إن لم تَخْدُمِ الحقَّ صارتْ جسرًا إلى قَهْرِ الضُّعفاء.
لكن مَن يسمعُ هؤلاء؟ الكلماتُ الحقيقيَّةُ قصيرةُ الأعناق، والقوانينُ الجديدةُ تُعلَّقُ عاليًا في قصورِ الهيبة.
⋯
كان الثعلبُ، في الأيَّام التالية، ينسجُ شِباكَه بهدوءٍ حول القلوبِ الجائعة. جلس إلى الأسد وقال: — يا مولاي، الرأسُ فوقَ الرأسِ يليقُ بالملوك. إذا جال في الفسحةِ رأسُ الحمار بين فكيك، ازدادَ لمعانُ هيبتك. ومَن أحبَّ هيبتك أطاعك. والكبرياءُ—صِدقني—تُخرسُ الأسئلة.
هزَّ الأسدُ رأسَه رِضًا: — الكبرياءُ سياجُ العرش. وهيبةُ العرشِ لا تُمسّ.
ثم مال الثعلبُ للذئاب: — لا تُؤخِّروا حصَّتكم، فالنسورُ تَنْقَضُّ على مَن يتردَّد. اقتطعوا نصيبَكم سريعًا، فالقانونُ الآن يُشبهُكم حين تجوعون.
وانعطف إلى الضِّباع: — اضحكوا كما تشاؤون، فالمشهدُ يحتاجُ إلى الفُكاهةِ كي لا يرى الناسُ الدم.
وعند الأرانب قال بنعومةٍ خادعة: — مَن ملكَ الجذرَ ملكَ الأصلَ، ومَن ملك الأصلَ ملك الطريق. الطريقُ أهمُّ من الظلِّ… حتّى لو قادَ إلى الخراب.
وحين جلس بين السَّناجيب: — سنكتبُ أنَّ الفستق كثير. حين يُصدِّقُ الجميعُ الورقَ يصبحُ القليلُ كثيرًا. الأسماءُ أيضًا تُشْبِع.
وفي آخر النَّهار صعد إلى الكناري، وهمس: — الغناءُ وحدَه لا يحكم. الورقُ الذي نحملُه لك هو الذي يجعلُ أُغنيتَك قانونًا. لا تنسَ صكوكَنا حين تُغنِّي للعدل.
ابتسم الكناريُّ كمن يُوزِّعُ شكرًا موزونًا: — لكلٍّ نصيبُه ما دام يُمسكُ بالطرفِ الصحيحِ من الحبل.
⋯
في مجلسٍ مُكتظّ، اعترضتِ البومة: — يا قاضي الغابة، الشهادةُ التي تتغيَّرُ تفاصيلُها كلَّ مرَّةٍ «يتذكَّر» فيها الشاهدُ شيئًا جديدًا شهادةٌ مُتَّهَمة. مرَّةً قال الجذور، ومَرَّةً الموز، ومَرَّةً الفستق. أهذا نسيانٌ بريءٌ أم بناءٌ مُتدرِّجٌ لكِذبةٍ كاملة؟
ضرب القردُ بعصاه، وضيقُ عينَيْه يشي بأنَّ الموزَ في دمِه: — الحكمةُ ليستْ شَكًّا دائمًا يا بومة. الحكمةُ ثقةٌ مُتجدِّدةٌ بمَن حفِظَ هيبةَ المجلس. نحنُ نُبقي النظامَ قائمًا؛ ألا تكفيكم نعمةُ الاستقرار؟
تقدَّم غزالٌ صغيرٌ—لم يَعُدْ للظلِّ مكانٌ على ظهرِه—وقال بصوتٍ أنيقٍ لكنَّه راجف: — أحقًّا أوصى الحمارُ وهو يختنق؟ هل يُفكِّرُ المُحتضِرُ في حصصِ الأرض أم في آخرِ نظرةٍ إلى الحياة؟
زمجر الأسدُ، فارتجف الهواءُ، وقال القردُ مُبتسمًا ابتسامةً ملساء: — أسئلةٌ جميلةٌ يا صغير، لكنَّها تُقلقُ النظام. والهيبةُ لا تُقَلَّلُ بأسئلةٍ سخيفة.
همستِ البومة: — النظامُ الذي يَذبحُ السؤالَ يفتحُ للفسادِ بابًا واسعًا.
⋯
تتابعتِ الأيَّامُ كأوراقٍ في يدِ كاتبٍ مُتعَب. الأرانبُ حفرتْ حول الجذورِ حتى خفَّ ترابُ السفح وصارت الشجرةُ تُصارعُ ريحًا خفيفة. أمطرتِ السماءُ ليلةً، فمالتْ غُصونُ التوت، وانكسرتْ أطرافٌ منها. صرخ الكناريُّ يأمرُ الحرس: — احمُوا البستان! الشجرةُ ملكي!
قالت البومة: — الشجرةُ تموتُ لأنَّ الملكيَّةَ فاسدة. الظلُّ حين يُمنَع يُمسي الريحُ خصمًا.
في صباحٍ آخر وُجدتْ طيورٌ صغيرةٌ على الأرض. انحنى الكناريُّ من الغصنِ الأعلى، نظر إلى ثمرةٍ وحيدةٍ بقيتْ فوق رأسِ غُصنٍ قصيٍّ، وشعر بشيءٍ يقرصُه من الداخل. تمتم لنفسه: — هل نطق الحمارُ فعلًا؟ أم أنني وضعتُ في فمه وصيَّةً تُليقُ بمصلحتي؟
أجابه صمتٌ عميقٌ يُشبهُ الحقيقة. هبط، ووضع جناحًا على التراب كمن يعتذرُ لشيءٍ لا يسمع. كانت السلحفاةُ قريبةً، قالت بهمسٍ غليظ: — أتى الوقتُ الذي يشعرُ فيه الطيرُ بثقلِ الكِذبة. الاعتذارُ لا يُحيي الظلال.
رفع رأسَه، وفي عينيه بريقُ المُتردِّد: — صارتْ طبقةٌ كاملةٌ تعيشُ على كلمتي. إن سحبتُها انهارَ نظامٌ ولو كان ظالمًا.
قالت البومةُ من فوق غُصنٍ مائل: — ما يُسمُّونه نظامًا هو قبوٌ للفساد. السقفُ يُسقِطُ الغُبار على صدورِ الضُّعفاء، ويُلمِّعُ تيجانَ الكبار. إن سحبتَ الكِذبةَ انكشفتِ الرؤوسُ على مقاسِها.
ردَّ الثعلبُ وقد خرج من بين الأعشاب كأنَّه كان ينتظرُ اللحظة: — لا تتفلسفوا. الغابةُ لا تحتملُ الفوضى. الكِذبةُ التي تُقيمُ توازنًا أنفعُ من الحقيقةِ التي تُشعلُ حربًا. البراغماتيةُ عقلٌ باردٌ يُنقذُ الرعيَّةَ من جنونِ الصِّدق.
قال الغزالُ الصغيرُ من طرفِ الفسحة: — أيُّ رعيَّةٍ تلك التي تُساقُ إلى العطشِ باسمِ التوازن؟ الظلُّ للجميع، وليس عطيَّةً في يدِ قاضٍ يأكلُ الموز، ولا في فمِ طائرٍ يُغنِّي صُكوكَه.
اغتاظ القردُ وزمجر: — هيبةُ المجلس فوقَ كلِّ شيء. الكبرياءُ والقانونُ جناحان لا تُكسَرُ ريشتهما بأسئلةِ الصِّغار.
ضحكت الضِّباع وصفَّقت بأنيابِها، وقالت واحدةٌ لصاحبتِها: — دعوهم. كلَّما ارتفع الكلامُ عن الهيبة، نالت بطونُنا زيادةً في القسمة.
⋯
تفاقمتِ القضايا. على بابِ مجلسِ القضاء عُلِّق قنديلٌ من قشرِ الموز؛ إن أُهديَ القاضي قشرًا جديدًا ازدادَ الحكمُ صلابةً وتزيَّنتْ في صدرِه كلمةُ «هيبة»، وإن خلا البابُ من القشر صار للقانون وجهٌ آخر يُسمُّونه «استثناء». دخلتِ البومةُ جلسةً وقالت بوضوحٍ مُرتَّب: — ما بُنِي على كِذبةٍ يُهدَمُ على رؤوسِ الضُّعفاء. إن لم نفتحْ نافذةً للحقيقة اختنقنا بالموز.
أجاب القردُ—صوتُهُ مصقولٌ بنبرةِ مَن يرى في نفسِه مصدرَ النظام—: — الحقيقةُ نسبيَّةٌ يا بومة. وما دام الملكُ لا يعترض، فالنِّسبيَّةُ تميلُ إلى حيثُ تقفُ هيبتُه.
ردَّت: — نسبيَّتُك ليستْ إلَّا مطرقةً فوق رؤوسِ الضُّعفاء.
صاح الكاتبُ: — اسكتي! الهيبةُ لا تُجادَل.
قال الغزالُ الصغير، وقد اشتدَّ عودُه قليلًا: — إذا كانتِ الهيبةُ ترفضُ السؤالَ فهي قناعٌ للغطرسة.
زمجر الأسدُ هذه المرَّة بصوتٍ أشدَّ، فصمت الجميع، ورفع رأسَه بما يكفي ليملأ المكانَ كبرياءً: — كبريائي تاجُ الغابة. الرأسُ الذي على عريني شاهدٌ. مَن يُسقطِ الشاهدَ أسقطناه.
همس الثعلبُ من زاويةٍ بعيدة: — هكذا يحفظ الملكُ النظامَ والأمنَ والرَّخاء.
⋯
ثم جاءت ليلةُ المطرِ الكبيرة. انكشفتِ الأرضُ التي حفرتها الأرانبُ حول الجذور، فمالتِ الشجرةُ انحناءةً عظيمةً وتهشَّمَ من ساقِها مقدارٌ ثقيل. تصايح الحرسُ من العصافير، جاؤوا بالقَصَبِ ليُسندوا ما يُسند، لكنَّ هسيسَ الماء كان أعلى من ترتيلِهم. في الصباح بدا البستانُ كعاشقٍ قُصَّ جناحُه. وقفتِ الغزالةُ البيضاء، تحملُ صغيرَها إلى صدرِها وقالت: — الظِّلالُ التي سُرِقت باسمِ القانون تخلَّتْ عن الأطفال. أيُّ قانونٍ هذا؟
جاءت الأرانبُ ترفعُ لافتاتٍ من قَشٍّ: «نملكُ الجذور». قالت واحدةٌ منهنَّ، ويدُها مُرتعشة: — نملكُ الجذور… لكنَّ الشجرةَ تسقطُ على رؤوسِنا.
أغمضَ الكناريُّ عينَيْه لحظةً ثم فتحهما على صرامةٍ مُتكلَّفة: — البستانُ باقٍ. ومَن يقتربْ من أغصاني بلا إذنٍ أُطارده.
قالت البومة: — البستانُ ورقٌ يا طائر. الشجرةُ حقيقة. حين تموتُ الشجرةُ يبقى الورقُ نشيدًا بلا لحن.
صمتَ الكناريُّ؛ في حلقِه حصاةٌ تسدُّ المقطعَ الأعلى.
⋯
ذاتَ صباحٍ، اجتمع جمهورٌ لم يَجْتمعْ مثلُه منذ «الوصيَّة». قال الكناري—وقد بدا على صوتِه تردُّدٌ لا يليقُ بنشيد—: — عندي قولٌ.
تلفَّتتِ الوجوهُ. قال القردُ بنبرةٍ لا تُخفي نفادَ الصبر: — اختصر. القضايا كثيرة، والهيبةُ مشغولة.
تنفَّس الكناريُّ بعمقٍ وقال: — ربَّما… ربَّما لم يقلِ الحمارُ ما قلتُ إنَّه قال. ربَّما رأيتُ في عينيه كلامًا وتخيَّلتُ بقيَّته.
سقطتِ الكلماتُ على الساحة كحجرٍ في بئر. رفع الثعلبُ حاجبًا وقال وهو يستلُّ من العبارةِ مخرجًا: — «ربَّما» كلمةٌ لا تُبنى عليها قضايا.
قالت البومة: — لكنَّها تُبنى عليها ضمائر.
صرخ القردُ وقد احمرَّتْ عيناه: — القضاءُ لا يُدارُ بالضمائر. القضاءُ يُدارُ بالهيبة. وما ثبَتَ مرَّةً يثبتُ إلى أن ينقضَه ملك. أَتُريدون إسقاطَ الرأسِ عن عرينِ الملك؟
زمجر الأسدُ، فتلاشتْ شهقةُ الغزالةِ الصغيرة قبل أن تخرج. تقدَّم خطوةً واحدةً تكفي لتذكِّر الجميع أنَّ الكبرياءَ لا ينحني. قال: — الرأسُ شاهدُ مُلْكي. ومَن يجرؤ على نزعِ الشاهد يجرؤ على نزعِ العرش. والعرشُ لا يُمَسّ.
أطرقَ الكناريُّ، وعادَ إلى غصنِه، يُغنِّي لحنًا مكسورًا لا يعلو ولا يتلاشى.
⋯
تراكمتِ الحكاياتُ على أطرافِ الغابة: طبقةٌ تُثبِّتُ كراسيَّها بالموز، وتُلَمِّعُ تيجانَها بالرؤوس، وتكتبُ صُكوكًا بمدادِ الكِذب. وبُسطاءُ يدفعون ثمنَ نشيدٍ لا يُطْعِم. صارت الأعراسُ بلا ظلٍّ، وصار موتُ الصغار خبرًا من أخبارِ الطقس. قال قنفذٌ لابنه وهما يمرانِ بجانبِ الجذعِ المُصاب: — لا تُصدِّقْ كلَّ منبرٍ مُرتفع. أحيانًا يعتلي المنبرَ صغيرٌ يملكُ صوتًا حادًّا وجيبًا فارغًا، فيملأه من جيوبِنا.
سأل الابن: — ومَن يُنزلُه؟
أجاب الأبُ وهو يُديرُ ظهرَه للريح: — لا أحدَ حين تكونُ الهيبةُ حارسًا للكِذبة.
قالت السلحفاةُ للبومة: — ما أشدَّ ما يطولُ طريقُ الحقيقةِ حين تتعثَّرُ بأثوابِ الكبرياء.
قالت البومة: — الحقيقةُ تمشي وحدَها. وحين تصلْ قد لا تجدْ شجرةً تُظلِّلُها.
⋯
وفي غروبٍ يوم صيفي حارق، وقف الغزالُ الصغير—الذي طال وقوفُه تحت شمسٍ بلا شَفَق—أمام لوحةٍ علّقها كتبةُ القرد عند باب المجلس. قرأ بصوتٍ مسموعٍ لأطفالٍ اصطفّوا حوله: — «كلُّ وصيّةٍ تُنقَلُ على لسانِ شاهدٍ موثوقٍ تُثبِتُ قانونًا، ويُعرَّف الشاهدُ بسبقِ الحضور وهيبةِ المجلس».
رفع طفلٌ غزالٌ يده وسأل: — وماذا عن الذين لم يحضروا لأنهم كانوا يرضعون؟
ضحك الكاتبُ ومرَّ من أمامهم دون أن يلتفت. هزَّ الغزالُ الصغيرُ رأسه وقال ببطء: — إذن سيكبرون وهم يسمعون وصايا لم يقولوها، ويعيشون تحت ظلالٍ لم تُخلَق لهم.
حطّت البومةُ على الحافة وقالت: — مَن تُصادِرُ منه كلمةُ «لم أشهد»، تُصادَرُ منه الحياةُ على مهل.
مرَّت السلحفاةُ قرب الجذع المتصدّع وهمست: — الورقُ عالٍ، والشجرةُ وحدها التي تسندُ السماء.
اقترب الغزالُ الصغيرُ من الفسحة، فرأى الرأسَ المُعلّق عند مدخل العرين يلمعُ في آخر ضوء، ورأى قنديلَ قشرِ الموز يتدلّى فوق باب المجلس، ورأى لافتاتِ الأرانب «نملكُ الجذور» وقد بلّلها الندى فتثقّلت حروفها وسقط طرفها على التراب. قال: — إن كان العدلُ كلامًا، فلماذا يبردُ الظلّ كلَّ مساء؟
لم تُجبْه الأشجار؛ كانت مشغولةً بتضميد كسورها. ولم يُجبْه الملك؛ كان يمرّر ظفرَه على نُتوء الرأس كأنّه يتأكّد من لمعان كبريائه. ولم يُجبْه القرد؛ كان يُقَلِّبُ دفاتره ويعدُّ القُشور. أمّا الثعلبُ فشدّ طرف ابتسامته ومضى يهمسُ في آذانٍ أخرى عن «توازنٍ جديد».
رفع الغزالُ الصغيرُ صوته: — إن كانت الوصيّةُ كذبةً، فمَن يردُّ الظلَّ إلى صغاري؟
انبعث صوتُ الكناريّ من أعلى الغصن، قصيرًا ثم منقطعًا. حاول أن يُتمّ لحنه، فعاد الحجرُ في حلقه أثقلَ من ذي قبل. نظر إلى الفسحة، فرأى عند قاعدة الشجرة طائرين صغيرين التصقا ببعضهما من البرد. هبط خطوةً، ثم ثانية. قال بصوتٍ يسمعه وحده: — ظلٌّ واحدٌ كان يكفي.
اقتربت البومةُ منه: — من اخترعَ الوصيّةَ يستطيعُ أن يعترفَ بها. الاعترافُ لا يُسقطُ العروش، لكنه يرفعُ الظلال.
رفع الكناريُّ عينيه إلى الرأس المعلّق ثم إلى قنديل الموز ثم إلى لافتات «نملك الجذور». التفتَ إلى القرد، فوجد عينين تُحصيان القشور، وإلى الأسد، فوجد كبرياءً يتفلّى اللمعان، وإلى الثعلب، فوجد براغماتيةً تُبدّلُ جلدها ولا تُبدّلُ قلبها. تنفّس وقال: — أشهدُ أن الحمارَ لم يُوصِ. أشهدُ أنّي كذبتُ، وأنّ الظلَّ للجميع.
دوّى صمتٌ كثيف. التفتَت الرقاب إلى القرد. قبض على عصاه وقال بنبرةٍ من خشب: — منازعةُ الشهادةِ بعد ثبوتِها إسقاطٌ للهيبة. والهيبةُ قانون.
نظروا إلى الأسد. رفع رأسه أكثر: — الرأسُ شاهدُ مُلكي. ومن يطعن في الشاهد، يطعن في العرش.
مال الثعلبُ خطوةً إلى الأمام، مسح الهواء بذنبه وقال هادئًا: — الاعترافُ جميل… لكنه متأخّر. النظامُ قائم، والأمنُ مستتبّ، والأطفالُ… سيتعوّدون.
هنا رفرفت لافتة «نملك الجذور» بفعل نسمةٍ ثم هوتْ على التراب. أطلقت الأرانبُ صرخةً قصيرةً كأنها توقيعٌ متعب. رفع الغزالُ الصغيرُ عينيه إلى الكناري: — إن لم يُصِغوا لصوتك، فليَصغَ ظلُّك.
أغلق الكناريُّ جناحَيْه، وأسدل صوته، وصعد إلى الأغصان. توقّف عند كسرٍ في الساق، وراح يلتقطُ بمنقاره خيوطًا جافةً من القَصَب ويضعها في الشقّ، ثم يدعو العصافيرَ: — من كان له نَفَسٌ فليمدّ الشجرةَ بنَفَسِه. من كان له صوتٌ فليجعله ظلًّا.
لبّت العصافير، وجاءت السناجيبُ من خزائنها الفارغة بالحبال، وجمعت الأرانبُ الترابَ السليم في سلالٍ صغيرة وردّتْه إلى الجذور. وقفت البومةُ تراقب، وقالت: — ليس هذا عدلًا بعد، لكنه الطريقُ إليه.
انحنى الغزالُ الصغير على الطائرين المرتجفين ودفّأهما بكتفيه. لم يسقط الرأسُ من مدخل العرين، ولم تُنْزَل قناديلُ القشر، ولم تتراجع طبقةُ المنتفعين عن أماكنها. بقيت المطرقةُ عاليةً، لكنَّ السواعدَ الصغيرة رفعت معها شيئًا آخر: معنى يُقاومُ البرد.
عندما حلَّ الليلُ تمامًا، كانت الشجرةُ لا تزالُ مجروحةً، غير أنّ ظلًّا خفيفًا عاد وتمدد حول جذعها ككفٍّ تعلّمت من الألم أن لا تترك صغارها وحدهم. وفي أعلى الغصن، جلس الكناريُّ صامتًا لا يُغنّي. لم يعُد الصوتُ عقدًا يُباع، بل عهدًا يُستدرَك. نظر إلى الفسحة وقال أخيرًا: — الكذبةُ تصنعُ طبقةً؛ والحقيقةُ—ولو تأخّرت—تصنعُ طريقًا. أمّا الظلُّ… فليس منحةً من ملكٍ ولا قنديلًا من موز، بل حياةٌ مشتركةٌ تُصان أو تضيع.
وبينما تمضي الليلةُ إلى عمقها، ارتجف الطائران الصغيران مرّةً ثم سكنتْ أجنحتهما في دفء الظلّ العائد. وفي البعيد، لمعتْ عينُ الثعلب لحظةً ثم انطفأت، كأنّ البراغماتيةَ فهمت أنّ ما لا يُنقضُ بالهيبة قد يُبتدأ بصبرٍ طويل. ظلَّ الرأسُ مُعلّقًا، وظلَّ القانونُ كما هو، لكنّ الغابة—لأوّل مرّةٍ منذ الوصيّة—عرفتْ جملةً واضحة لا تحتاج إلى منبر: العدلُ يبدأ حين يعترفُ الصوتُ الذي كذب، وحين يمدُّ الضعفاءُ الظلَّ بأيديهم حتى لو بقيت المطرقةُ فوق رؤوسهم.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجنس عبر الحضارات: من طقوس الخلق إلى ثورات الحرية
-
النخب العربية بين الوعي والتخاذل: مأساة أمة تعرف الطريق ثم ت
...
-
الإخوة كارامازوف: ملحمة النفس البشرية بين الإيمان والشك
-
خرفان بانورج: بين سيكولوجية القطيع وتميّز العقل الحر
-
نظرية الكون 25: حين تتحول الجنة إلى مقبرة
-
نظرية -الضفدع المسلوق-: كيف يقتلنا التكيف المفرط مع الأوضاع
...
-
فن القيادة الصعبة: بين بصيرة القائد وتحدي القرارات
-
الشركات والدول المستفيدة من الإبادة الجماعية في غزة
-
الكاهن والشيطان: جحيم دوستويفسكي فوق جدران الزنزانة
-
المستشار: بين هيبة الصلاحيات وفقدان الفحولة
-
انتقام أولجا من الدريفليان: تشريح الغضب المُبرَّر والدهاء ال
...
-
الفرق بين القانون والأخلاق في فلسفة إيمانويل كانط
-
لم أخنك حتى في أفكاري: دوستويفسكي والحب كمرآة للوجود
-
حين يتحدث الإنسان إلى الطير: من نبي الله سليمان إلى تجارب ال
...
-
التواضع والمحبة في التعامل مع الآخرين: رؤية إنسانية وفلسفية
...
-
ومضات من حياة فيرجينيا وولف
-
ومضلات من حياة كافكا وهل كان يكتب عن العبث الإنساني… أم عن ا
...
-
نظرية باريتو: من حقول البازلاء إلى قانون عمل وفلسفة اقتصاد
-
كائنات صغيرة، كوابيس صناعية: عندما تُهدِّد الأحياء الغازية أ
...
-
ثلاثة أرواح أثمرت إبداعًا فوق شجرة المعاناة .. حين يصبح الجر
...
المزيد.....
-
تم تصويره في صحراء نيوم.. الفيلم السعودي -القيد- يقدم الدرام
...
-
بين شاشات العرض والحرف اليدوية.. دور سينما تعيد تعريف تجربة
...
-
كيف ننجح في عصر الذكاء الاصطناعي.. سألناه فهكذا أجاب
-
كامل كيلاني وحديقة أبي العلاء
-
كامل كيلاني وحديقة أبي العلاء
-
جمعية البستان سلوان تختتم دورة باللغة الانجليزية لشباب القدس
...
-
-كول أوف ديوتي- تتحوّل إلى فيلم حركة من إنتاج -باراماونت-
-
ثقافة -419- في نيجيريا.. فن يعكس أزمة اقتصادية واجتماعية
-
بريق الدنيا ووعد الآخرة.. قراءة في مفهومي النجاح والفلاح
-
يجسد مأساة سكان غزة... -صوت هند رجب- ينافس على -الأسد الذهبي
...
المزيد.....
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|