أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8447 - 2025 / 8 / 27 - 21:48
المحور:
الادارة و الاقتصاد
القيادة ليست موقعًا على قمة هرم إداري، ولا لقبًا رسميًا على بطاقة عمل، ولا امتيازًا يمنح صاحبه القدرة على إصدار الأوامر دون نقاش. إنها فعل إنساني مركب، يتقاطع فيه العقل مع القلب، والواقعية مع الحلم، والقدرة على الحسم مع مرونة الإصغاء. وحين نتحدث عن القيادة الصعبة، فإننا نتحدث عن المحك الذي يفرز القادة الحقيقيين من مدّعي القيادة، وعن القرارات التي تُظهر عمق البصيرة في مواجهة قسوة الواقع. ثمة قول مأثور يختصر المأساة الكبرى في غياب البصيرة في القيادة والإدارة: «عندما يقود أعمى قافلة، يصبح عبور كل منعطف في الطريق معجزة». حين يغيب القائد البصير تتحول الجماعة إلى كيان تائه، يعتمد على المصادفة بدل التخطيط، وعلى الحظ بدل الرؤية، فينقلب المستقبل إلى مقامرة غير محسوبة.
القائد الحقيقي لا ينشغل بمكانته، بل بمصير من يقودهم. إن تركيزه ليس على العرش الذي يجلس عليه، بل على الطريق الذي يفتح أمام الآخرين. كما يقول سايمون سينك في كتابه “القادة يأكلون في النهاية (Leaders Eat Last)”: «القائد الحق هو الذي يجعل من سلامة فريقه أولوية، حتى لو كلفه ذلك أن يكون آخر من ينال الامتياز». وهنا تتضح فلسفة القيادة الصعبة: أن تكون الحارس الأول للآخرين، وأن تدرك أن القرارات الكبرى امتحان للإنسانية قبل أن تكون امتحانًا للسلطة.
الرؤية والحسم: بين اللحظة والمستقبل
القرارات الصعبة ليست دائمًا حروبًا أو استثمارات بمليارات الدولارات. أحيانًا تكون لحظة إنسانية دقيقة: مدير مدرسة يقرر هل يفصل طالبًا مشاغبًا أم يمنحه فرصة ثانية، أو طبيب يختار بين عمليتين كلتاهما خطرة. الفرق بين القائد الملهم والعادي هو القدرة على تحويل المأزق إلى فرصة، والضياع إلى طريق جديد.
يقول راسموس هوجارد وجاكلين كارتر في كتابهما “عقل القائد (The Mind of the Leader)” إن القائد الذي يفتقد إلى صفاء الذهن والرحمة والقدرة على التركيز لا يمكنه أن يقود بفعالية. إن وضوح الداخل شرط لقرارات الخارج: فكيف يحسم من لا يقود ذاته؟ وكيف يتخذ قرارًا بعيد المدى من يفتقد إلى رؤية تتجاوز لحظة الانفعال؟
تجسّد تجربة نيلسون مانديلا هذا التحدي. عند خروجه من السجن، كان يمكنه أن يحوّل لحظة الحرية إلى انتقام، لكنه اختار أن يجعلها ولادة وطن جديد قائم على المصالحة. كان القرار صعبًا لأنه خالف عاطفة شعب غاضب، لكنه كان قرارًا صنع أمة. وهنا يتضح أن الحسم ليس قوة عمياء، بل رؤية بعيدة المدى تترفع عن الغضب.
وفي ميدان آخر، نجد أن الملكة إليزابيث الأولى في القرن السادس عشر اتخذت قرارًا بالغ الخطورة ببناء أسطول بحري قوي لمواجهة إسبانيا، رغم أن موارد إنجلترا كانت محدودة. النتيجة كانت انتصارًا على الأرمادا الإسبانية، وصناعة عصر ذهبي. هذا المثال يوضح أن القرارات الحاسمة كثيرًا ما تتطلب مغامرة محسوبة، وأن بصيرة القائد ترى المستقبل حيث لا يرى الآخرون إلا الخطر.
أما في عصرنا الحديث، فإيلون ماسك اختار أن يقود “تيسلا” نحو السيارات الكهربائية رغم خسائر فادحة في البداية. كان كثيرون يرون المشروع جنونًا، لكنه نظر أبعد: إلى عالم مستدام. هذا الحسم المبني على رؤية جعل من الشركة رائدة في الصناعة.
الاستعارة كأداة قيادية
حين نصف القيادة بالفن، فإننا نعني تلك القدرة على استخدام اللغة والصورة والاستعارة لتشكيل وعي الجماعة. القائد الملهم لا يخاطب العقول بالأرقام وحدها، بل يزرع صورًا في الذاكرة تحفّز العمل.
ونستون تشرشل أدرك ذلك في الحرب العالمية الثانية. لم يقل لشعبه: “نفتقر إلى السلاح”، بل قال: «سنقاتل على الشواطئ، وسنقاتل في القرى والمدن، ولن نستسلم أبداً». لقد جعل من الكلمات وقودًا للمقاومة، ومن الاستعارة درعًا يحمي المعنويات.
وفي عالم الأعمال، كان ستيف جوبز يصف منتجات أبل بأنها «تقاطع بين التكنولوجيا والفنون الحرة». هذه الاستعارة لم تكن تجميلًا لغويًا، بل رؤية تفسر للناس لماذا تبدو منتجات أبل مختلفة.
الاستعارة هنا ليست زينة، بل أداة نفسية. فهي تعمل على اللاوعي، وتمنح الفريق صورًا ذهنية تحفّز السلوك. حين يقول قائد لفريقه: “نحن جميعًا في سفينة واحدة”، فإنه يعيد تعريف العمل كرحلة مشتركة لا كمجرد وظيفة.
التوازن بين العقل والعاطفة
من يظن أن القرارات الصعبة عقلية باردة فقط يخطئ، ومن يظن أنها عاطفة محضة يخطئ أيضًا. القرار الصعب هو مزيج حساس: بين الحساب المنطقي ونداء الضمير.
الرئيس أبراهام لنكولن كان مثالًا على هذا التوازن. دموعه أمام معاناة شعبه لم تمنعه من أن يكون صلبًا في الدفاع عن وحدة بلاده. لقد اتخذ قرار إلغاء العبودية رغم ما يحمله من مخاطر سياسية واقتصادية. لقد كان هذا القرار أخلاقيًا وعقلانيًا في آن.
وفي عصرنا، جسدت المستشارة أنجيلا ميركل هذا المبدأ في أزمة اللاجئين عام 2015. كان فتح الحدود قرارًا إنسانيًا، لكنه أيضًا كان قرارًا اقتصاديًا بعيد المدى. انتُقدت ميركل كثيرًا، لكن التاريخ قد يسجل أن قرارها صنع تحولًا في أوروبا.
العالم النفسي دانييل جولمان، صاحب نظرية “الذكاء العاطفي”، يوضح أن القائد الناجح هو من يستطيع أن يتحكم في عواطفه ويفهم عواطف الآخرين. القرارات الصعبة تتطلب هذا الذكاء: أن توازن بين الأرقام والوجوه، بين الميزانية وحياة البشر.
القرارات الصعبة كاختبار للأخلاق
ليست كل القرارات الكبرى تقنية أو مالية، بل هي في جوهرها اختبار للأخلاق. القائد يختبر حين يقرر هل يحمي صورته أم يحمي قيمه.
الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عطّل حد السرقة في عام الرمادة. لم يكن ذلك تنازلاً، بل إدراكًا أن الجائع لا يُحاسب على جوعه. كان قرارًا صعبًا لأنه خالف المألوف، لكنه جسّد عدالة أعمق.
وفي عصرنا، رفضت ماريسا ماير، الرئيسة التنفيذية لياهو، بعض الطلبات الحكومية المتعلقة ببيانات المستخدمين، رغم الضغوط. كان قرارًا صعبًا، لكنه كشف معدن القائد الذي يحمي القيم قبل المكاسب.
هنا نتذكر ما قاله إيمانويل كانط: «افعل ما يجب، وكأن العالم كله سيتبع فعلك». القائد الحقيقي يرى في كل قرار مسؤولية أمام الإنسانية.
حماية الفريق من الأعاصير
سايمون سينك يقول: «القائد ليس من يجلس في الأمام لينال الحصة الأكبر، بل من يقف في الخلف ليضمن أمان الآخرين». القيادة هنا ليست مواجهة العدو الخارجي فقط، بل مقاومة إغراءات وامتيازات السلطة.
جاك ما، مؤسس “علي بابا”، حين واجهت شركته أزمة تقنية كبرى، لم يلق اللوم على فريقه. بل وقف أمام الإعلام وقال: “المسؤولية مسؤوليتي”. هذا القرار عزز ولاء الفريق، وأعاد الثقة بالشركة.
في الرياضة، أليكس فيرجسون، مدرب فريق مانشستر يونايتد لكرة القدم، كان يحمي لاعبيه من الإعلام حتى حين يخطئون. هذه الحماية جعلت الفريق أسرة واحدة قادرة على الانتصارات.
التعلم من القرارات
القرارات الصعبة ليست النهاية، بل البداية. القائد لا يخشى الخطأ، بل يتعلم منه. هذا هو جوهر فلسفة “كايزن” اليابانية (Kaizen)، أي التحسين المستمر.
في شركات مثل تويوتا، لا يُخفي القادة الأخطاء، بل يكشفونها ليبنوا عليها التحسين. هذه الثقافة جعلت من اليابان نموذجًا عالميًا بعد الحرب العالمية الثانية.
أما في أمازون، فقد طبّق جيف بيزوس فلسفة “الفشل السريع”: القرار الخاطئ ليس نهاية، بل درس يفتح الطريق لابتكار جديد. بفضل هذا المنهج ولدت خدمات السحابة (AWS).
القرار تحت ضغط الزمن
حين يصبح الزمن خصمًا، يكشف القرار الصعب معدن القائد.
جون كينيدي واجه أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. كان أمامه خياران: ضربة عسكرية قد تشعل حربًا نووية، أو صبر قد يعرّض بلاده للخطر. اختار الحل الثالث: الحصار البحري. قرار لم يرضِ أحدًا بالكامل، لكنه أنقذ العالم من كارثة.
وفي أزمة 2008 المالية، اتخذ بن بيرنانكي قرارات جريئة لإنقاذ النظام المصرفي الأمريكي. القرارات السريعة هنا أنقذت الاقتصاد من انهيار كامل.
الأطباء في غرف الطوارئ يعيشون هذه المعضلة يوميًا: عليهم أن يختاروا بسرعة بين حياة وموت. القرارات الصعبة هنا ليست نظرية، بل نبض بشري يتوقف على بصيرة لحظة.
القيادة كمسؤولية لا امتياز
القائد الذي يرى القيادة امتيازًا يسقط عند أول اختبار. أما الذي يراها مسؤولية فإنه يظل.
قال لاوتسو في كتابه “تاو تي تشينغ (Tao Te Ching)”: «القائد العظيم هو الذي لا يشعر الناس بوجوده، فإذا تم الأمر قالوا: لقد فعلناه نحن». القيادة الحقيقية أن يشعر الفريق أن النجاح من صنع أيديهم.
في عالم الشركات الحديثة، جسّد ساتيا ناديلا في مايكروسوفت هذا النموذج. لم يفرض نفسه كصاحب القرار الأوحد، بل جعل ثقافة “التعاطف والابتكار” مركزًا. فنهضت الشركة من ركودها إلى ريادة جديدة.
إن فن القيادة يتجلى في القدرة على اتخاذ قرارات صعبة ببصيرة، تجمع بين الرؤية والأخلاق، والعقل والعاطفة، لبناء مستقبل أفضل للجماعة. إنها مسيرة مستمرة من التعلم والتضحية، تجعل من القائد ليس مجرد سلطة، بل معلما وقدوة للجماعة.
⸻
المراجع والمصادر
• Rasmus Hougaard & Jacqueline Carter, The Mind of the Leader
• Simon Sinek, Leaders Eat Last
• Michael Williams, Leading with People
• Daniel Goleman, Emotional Intelligence
• Winston Churchill’s Speeches, 1940
• Abraham Lincoln, Collected Works
• فلسفة Kaizen اليابانية
• Lao Tzu, Tao Te Ching
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟