أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 00:14
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
بقلم: أوزجان يشار
لم تعرف روسيا القيصرية في نهاياتها شخصية أثارت الجدل مثل جريجوري يفيموفيتش راسبوتين. فقد جمع هذا الفلاح السيبيري بين الكاريزما البدائية والتدين الشعبي وبين الشائعات التي نسجتها صالونات النخبة وأجهزة الشرطة والصحافة المعادية. لكن ما جعل اسمه خالدًا لم يكن مجرد غرابة سيرته، بل كونه انعكاسًا للأمراض البنيوية في دولة تتداعى، حيث أصبح «الراهب» أو «المشعوذ» مرآةً لعرش يتأرجح على حافة الانهيار.
لم يكن راسبوتين ظاهرة دينية خالصة ولا سياسيًا تقليديًا، بل تجسيدًا للتشابك بين الاضطراب النفسي لعائلة ملكية، والبحث الاجتماعي عن معنى في زمن التغيير، والأزمة السياسية لدولة تخوض حربًا لا تملك مقوماتها. في شخصه التقت مخاوف أمٍّ على ابنها المريض بقلق أمة على مستقبلها، وفي مساره انكشفت هشاشة القيصرية الروسية قبل أن يسقط بيت رومانوف بعد أشهر قليلة من اغتياله.
⸻
من قرية سيبيرية إلى أسطورة العاصمة
في 21 يناير 1869 (9 يناير بالتقويم الروسي القديم) وُلد جريجوري راسبوتين في قرية بوكروفويه، قرب نهر تورا في سيبيريا. كان والده يفيم يعمل ناقلًا للبريد النهري، وأمه آنا فلاحة بسيطة. الحياة هناك لم تعرف رخاءً ولا ثقافة متقدمة؛ عالم من الجليد، والفقر، والأمية. لم يتلقَّ راسبوتين تعليمًا نظاميًا، وبقي أمّيًا حتى مرحلة الشباب، لكنه امتلك حافظة قوية وحدسًا غريبًا مكّنه من حفظ الأدعية والتراتيل وإلقائها بطريقة مؤثرة.
في عام 1897، وبعد زواجه من براكسيـا دوبروفينا وإنجابه أولادًا، عاش تجربة روحية حاسمة أثناء رحلة حج إلى دير القديس نقولا في فيرخوتوريه. هناك تخلّى عن حياته السابقة المضطربة، ليعود إلى قريته باعتباره «سائحًا» دينيًا أو «ستارتس» يجوب القرى، يعظ الناس، ويقود صلوات جماعية ممتزجة بالدموع والتراتيل والاعترافات. منذ تلك اللحظة بدأ تكوّن سمعته الغامضة، بين من رأوا فيه متصوفًا حقيقيًا ومن اعتبروه دجالًا يختبئ وراء التدين.
كان لقب «راسبوتين» يُترجم أحيانًا إلى «الفاسق» أو «المتحلل»، وهي سمعة سبقت دخوله إلى العاصمة، وارتبطت بماضيه في القرية، لكنه استُثمر لاحقًا في حملات التشويه التي غذّت صورة «المشعوذ» الذي يفسد البلاط. هنا يظهر أول خيط في أسطورته: رجل عادي من أقصى سيبيريا، تحوّل عبر خليط من التدين الشعبي والشائعات إلى رمز إمبراطوري مثير للرعب.
⸻
روسيا المريضة تبحث عن شفاء
لكي نفهم كيف صعد راسبوتين إلى قلب القصر، علينا أن نرسم صورة روسيا مطلع القرن العشرين. كانت دولة مترامية الأطراف لكنها مثقلة بالأزمات. هزيمتها المذلة أمام اليابان عام 1905، والثورة الشعبية التي أعقبتها، كشفت هشاشة النظام. لم تعد الكنيسة الرسمية قادرة على مخاطبة الشعب بصدق، ولم تعد الحكومة قادرة على إصلاح أوضاع الريف أو ضبط المدن المتوسعة.
في هذا الفراغ، ازدهرت أنماط التدين الشعبي، حيث يبحث الناس عن «أولياء» و«شفعاء» يمنحونهم أملاً في عالم قاسٍ. في المدن، وخاصة في بطرسبرغ، انجذبت الطبقة الأرستقراطية إلى الروحانيات الغربية: جلسات تحضير الأرواح، التنجيم، قراءة الطالع. كانت الأميرتان المونتينيغريتان ميلتسا وأنستاسيا، اللتان لُقبتا في البلاط بـ«الأميرتين السوداوين»، مولعتين بهذه الممارسات، وقد لعبتا دورًا في تقديم راسبوتين إلى الصالونات الراقية.
وهكذا، كان المناخ الثقافي والاجتماعي مهيأً لاستقبال شخصية مثله: فلاح سيبيري بملامح خشنة، عينان نافذتان، خطاب عاطفي يخلط بين الصلاة والاعتراف. بدا وكأنه يجمع بين ما يبحث عنه الريفيون من «كرامة» وما تبحث عنه النخبة من «غموض روحي». هذه الثنائية هي التي مهّدت له الطريق إلى القصر الإمبراطوري.
⸻
الطريق إلى القصر والطامة الكبرى
دخل راسبوتين بطرسبرغ لأول مرة حوالي 1904/1905، وهناك لفت الأنظار سريعًا. بعض رجال الدين مثل المطران ثيوفان وجدوا فيه روحًا متقدة، وسيدات المجتمع رأين فيه «معلمًا» ذا جاذبية غامضة. وفي الأول من نوفمبر 1905 سجّل القيصر نيقولا الثاني في يومياته أنه تعرّف إلى «رجل الله جريجوري من توبولسك». لم يكن اللقاء مجرد مصافحة عابرة؛ بل بداية خيط ربط الريف السيبيري بأعلى ذروة في الدولة الروسية.
الطامة الكبرى جاءت حين دخل اسم راسبوتين على خط قضية لا تضاهيها حساسية: مرض الوريث أليكسي. كان الطفل يعاني من الهيموفيليا، مرض نزفي وراثي يجعل أي جرح صغير نزيفًا مهددًا للحياة. حين بدأت الإمبراطورة ألكسندرا ترى أن دعوات «الصديق» تهدئ النزف أو تسرّع شفاء ابنها، تحوّل الرجل إلى ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها. في حادثة سبالا الشهيرة عام 1912، كاد أليكسي يموت بعد نزيف داخلي، فأرسلت ألكسندرا برقية إلى راسبوتين في سيبيريا، فجاء جوابه مطمئنًا: «لن يموت الصغير». بعدها هدأ النزيف، واعتُبرت الواقعة «معجزة».
ربما كان التفسير العلمي أن الأطباء توقّفوا عن إعطاء الطفل الأسبرين الذي يزيد النزيف، لكن في عين ألكسندرا لم يعد الأمر يحتمل نقاشًا. راسبوتين صار رجلًا مرسلًا من السماء لإنقاذ سلالة رومانوف. ومن هنا تكرّس نفوذه: لم يعد مجرد زائر عابر، بل مقرّب من بيت القيصر، و«الطامة الكبرى» أنّ اسمه أصبح يستدعى عند كل نوبة نزف، وكأن بقاء العرش نفسه معلّق بصلواته.
⸻
قناة النفوذ – آنا فيروسوفا
كان لرجل مثل راسبوتين أن يتردد على القصر بفضل شخصية وسيطة، وهذه كانت آنا فيروسوفا، وصيفة الإمبراطورة وصديقتها الأقرب. عبرها صار الاتصال منتظمًا: زيارات صباحية، اتصالات عند الأزمات، ورسائل تنقل مشورة «الصديق» إلى ألكسندرا. كانت فيروسوفا تؤمن به إيمانًا عميقًا، وترى في لمساته شفاءً وفي كلماته عزاءً. وبوجودها ترسخ حضوره في قلب الدائرة الإمبراطورية.
تحوّلت هذه الصداقة إلى ما يشبه مؤسسة ظلّ، تمنح الرجل قناة يومية إلى غرفة النوم الإمبراطورية، وتجعل كل من يعارضه في البلاط في مواجهة مباشرة مع مشاعر الإمبراطورة. وهكذا أصبح نفوذه قائمًا ليس فقط على «معجزات» النزف، بل أيضًا على البنية الشخصية لعلاقات القصر.
⸻
صدام مع الكنيسة والمجتمع
لم يمر صعود راسبوتين دون مقاومة. الكنيسة الأرثوذكسية الرسمية التي منحته الشرعية أولًا، انقلبت عليه لاحقًا. المطران ثيوفان نفسه الذي استقبله، صار من أشد منتقديه. الواعظ إيليودور شنّ ضده حملات شعواء، والراهب هيرموغِن اعتبره مفسدًا للروح. عام 1914 تعرض لمحاولة اغتيال على يد امرأة متأثرة بخطاب إيليودور، طعنته في بطنه وكاد يموت، لكنه نجا بعد جراحة طويلة.
الشائعات لعبت دورًا حاسمًا. قيل إنه عضو في طائفة «الخليست» التي تمارس طقوسًا صوفية منحرفة، وقيل إنه يستغل النساء باسم الخلاص الروحي. لم توجد أدلة دامغة، لكن الصحافة والأرستقراطية كانت بحاجة إلى كبش فداء لتفسير تدهور أوضاع الدولة. وما أن وجدوه في شخص «الراهب الفلاح» حتى انهالت عليه الأوصاف: «الشيطان الأسود»، «المشعوذ»، «القديس الزائف».
⸻
الحرب، العرش، وغياب القيصر
في سبتمبر 1915، ومع تصاعد الخسائر في الحرب العالمية الأولى، اتخذ نيقولا الثاني قرارًا كارثيًا: ترك العاصمة ليتولى قيادة الجيش بنفسه في الجبهة. بهذا القرار سلّم الشؤون الداخلية إلى زوجته ألكسندرا، أي أنه فتح الباب أمام نفوذ راسبوتين أكثر من أي وقت مضى.
أصبح القصر يُدار عبر مشورة «الصديق» الذي يزكّي وزراء ويطيح بآخرين. تعيين بوريس شتورمر رئيسًا للوزراء في يناير 1916، وظهور ألكسندر بروتوبوبوف وزيرًا للداخلية، بدوا في أعين المعارضين وكأنهما صنيعة راسبوتين. الصحافة والدوما بدأت تتحدث عن «قوى مظلمة» تحكم روسيا من وراء الستار.
في هذا الوقت كان الشارع يغلي: نقص في الخبز، أزمات وقود، جنود يهربون من الجبهة، ونساء يصطففن في طوابير لا تنتهي. وكلما ساء الوضع، تعاظمت صورة راسبوتين باعتباره رمز الخراب. لم يعد «المخلّص»، بل صار في أعين الناس «المشعوذ الذي يفسد كل شيء».
⸻
رأسمال الشائعة وصناعة الأسطورة
ساهمت الشرطة السرية «الأوخرانا» في تضخيم الأسطورة دون قصد. كانت تراقب راسبوتين في مطاعم العاصمة، تسجل عربداته وسكره وتفاخره، بينما في القصر يظهر بمظهر المتواضع الخاشع. هذا التناقض غذّى صورته في المخيلة: قديس في القصر، فاسق في الشارع.
الشائعات وصلت إلى حد الزعم بعلاقته الجسدية بالإمبراطورة نفسها. لم يكن هناك دليل، لكن المجتمع الأرستقراطي المعادي لألكسندرا (الألمانية الأصل) كان متعطشًا لهذه القصة. وبما أن القيصر كان على الجبهة، فقد بدا من السهل إقناع الناس بأن القصر «تديره امرأة ألمانية وعشيقها السيبيري». إنها صورة كاريكاتورية أكثر منها حقيقة، لكنها ساعدت على نزع الشرعية من البيت الإمبراطوري في عيون الروس.
⸻
الاغتيال – مشهد الدم الأخير
مع نهاية 1916 لم يعد احتمال استمرار راسبوتين مقبولًا لدى بعض النبلاء. الأمير فيليكس يوسوبوف، الدوق الأكبر ديمتري بافلوفيتش، النائب فلاديمير بوريشكيفيتش، والطبيب لازوفيرت، اتفقوا على التخلص منه. في ليلة 30 ديسمبر 1916 استدرجوه إلى قصر يوسوبوف على نهر المويكا.
الرواية التي انتشرت تقول إنهم دسّوا له سمًا في النبيذ والكعك فلم يمت، فأطلقوا عليه النار فسقط ولم ينته، فهرب إلى الفناء ثم أجهزوا عليه بالرصاص وألقوه في النهر. تقرير التشريح الحديث يفنّد هذه التفاصيل: لم يُعثر على آثار سم في جسده، والرصاصة القاتلة كانت في الرأس عن قرب. لكن الأسطورة كانت أقوى من الحقيقة. قيل إنه «لم يمت»، وإنه قاوم الموت، وإن جسده أُحرق لاحقًا كي لا يصبح مزارًا. هكذا وُلد راسبوتين الثاني: أسطورة «الراهب الذي لا يموت».
⸻
بعد راسبوتين – العرش ينهار
ظن المتآمرون أنهم بقتله سينقذون العرش. لكن النتيجة كانت عكسية. بعد أقل من عشرة أسابيع اندلعت ثورة فبراير 1917، فسقطت الملكية كلها. إذا كان راسبوتين هو «المشكلة»، فلماذا لم يتحسن شيء بعد غيابه؟ هكذا تبيّن أن الرجل لم يكن السبب، بل كان عرضًا من أعراض مرض أعمق: نظام متداعٍ، حرب مدمرة، وفجوة هائلة بين القصر والشعب.
⸻
أسطورة راهب أم مشعوذ؟
قصة راسبوتين ليست مجرد حكاية دجل أو معجزة. إنها مرآة لنظام سياسي فقد قدرته على الحكم، ولمجتمعٍ ممزق بين الإيمان والخرافة، ولعرشٍ يتأرجح حتى السقوط. حين يصبح شفاء طفل حدثًا سياسيًا، وتتحوّل دموع أمٍّ إلى قرارات وزارية، ويصير فلاحٌ غامض «المفتاح» لبقاء السلالة، فهذه هي الطامة الكبرى التي لم يكن اغتيال راسبوتين قادرًا على محوها.
لقد كانت أسطورة راسبوتين علامة على أن الدولة الروسية فقدت قدرتها على الحكم؛ حين يتحول فلاح سيبيري غامض إلى صانع قرار في القصر، ويصبح دعاؤه أكثر وزنًا من تقارير الأطباء، ويغدو صوته أقوى من صوت الدوما والوزراء، فذلك دليل أن السياسة قد أُصيبت بالشلل. لكن الدرس الأعمق لا يتوقف عند حدود روسيا القيصرية، بل يتجاوزها إلى كل نظام يفتح أبوابه لرجال الدين أو «الأولياء» أو «المرشدين الروحيين» ليقرروا في شؤون الحكم.
التاريخ لا يرحم حين تختلط القداسة بالسلطة: فالمؤسسة الدينية، حين تتجاوز دورها الروحي وتفرض نفوذها في القرار السياسي، تتحول إلى أداة فساد لا إلى أداة هداية. راسبوتين لم يكن أول من مثّل هذا الخطر، ولن يكون الأخير. بل هو المثال الأوضح على أن خلط السياسة بالدين يُنتج استبدادًا أعشى، يعجز عن رؤية الواقع، ويُسلم مصير الأمة إلى الخرافة. هكذا انهار بيت رومانوف، وهكذا انهارت عروش أخرى حين جعلت الدين مطية للسلطة أو جعلت السلطة رهينة للدين.
إن سؤال «هل كان راسبوتين راهبًا أم مشعوذًا؟» يظل قائمًا، لكن الأهم منه سؤال أشمل: ما الذي يحدث للأوطان حين يستسلم الساسة لرجال الدين، وحين يُدار الحكم بمنطق السماء لا بمنطق الأرض؟ الجواب تعرفه روسيا التي دفعت ثمن هذا الخلط دمًا وعرشًا وإمبراطورية بأكملها.
⸻
المصادر والمراجع:
• Encyclopaedia Britannica, “Grigori Rasputin.”
• ويكيبيديا (بالإنجليزية): «Grigori Rasputin»
• Smithsonian Magazine, What Really Happened During the Murder of Rasputin? (2024)
• National Geographic, How did Rasputin die? (2024)
• Alexander Palace Time Machine — تقارير الأوخرانا، مقابلات آنا فيروسوفا
• NBDF (Bleeding Disorders), «Hemophilia in the Romanov Family»
• Alpha History — مقتطفات رسائل الإمبراطورة ألكسندرا
• Robert K. Massie, Nicholas and Alexandra
• Orlando Figes, A People’s Tragedy: The Russian Revolution, 1891–1924
• Douglas Smith, Rasputin: Faith, Power, and the Twilight of the Romanovs (2016)
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟