أوزحان يشار
الحوار المتمدن-العدد: 8458 - 2025 / 9 / 7 - 10:25
المحور:
الادب والفن
في صباح قارس من شتاءات روسيا، حيث يلف الجليد الأرض بوشاح أبيض صامت يشبه أكفان الأرواح الضائعة، كان الشيخ ذو اللحية الكثيفة يخطو ببطء في دروب حدائق ياسنايا بوليانا. ثوبه، ممزق في أطرافه كما لو كان يروي قصة حياة، وحذاؤه ثقيل كحمولة الأسئلة التي تحمله، وعيناه غائرتان تحملان بقايا أسئلة لم يجد لها جواب في قصور الأرستقراطية أو صلوات الكهنة. من يراه لأول مرة قد يظنه متسولًا، لكن في الحقيقة كان ليف نيكولايفيتش تولستوي، الكونت الذي هجر تيجان الذهب ليفتش عن تاج الحقيقة في قلوب الناس، وطنًا لم تمنحه إياه أرضه ولا طبقته. كان يردد دائمًا، كمن يعلن مرسومًا إلهيًا: «لا تخبرني عن دينك، دعني أرى دينك في أفعالك.» هذه العبارة لم تكن مجرد شعار، بل كانت مرآة عاكسة لروحه المتعطشة، التي لم تهدأ عن البحث منذ أن فتح عينيه على العالم حتى أغمضهما في محطة أستابوفو البائسة.
وُلد ليف نيكولايفيتش تولستوي في 9 سبتمبر 1828 (28 أغسطس بالتقويم القديم) في ضيعة ياسنايا بوليانا، تلك الرقعة الخضراء جنوب موسكو بمقاطعة تولا، على بعد 130 ميلًا، حيث كانت الأشجار تروي قصصًا قديمة والأرض تحتضن أسرارًا دفينة. كان ابن الكونت نيكولاي إيليتش، بطل حرب 1812 الذي حمل أمجاده في صدره، والأميرة ماريا فولكونسكايا، التي تركت فيه بصمة رقيقة من الحنان قبل أن تفارقه. لكن القدر كان قاسيًا؛ فقدت أمه وهو في الثانية من عمره، وأباه في التاسعة، فتحول إلى غصن مقطوع يتوزع مع إخوته بين أحضان الأقارب. كانت عمته تاتيانا يرغولسكايا، المرأة التي حملت في عينيها حكمة القرون، هي الأم الروحية التي غرست في قلبه بذور الرحمة والضمير. يتذكر تلك الأيام في روايته الأولى الطفولة (1852) كجنة مفقودة، حيث كانت الحقول المترامية والأغاني الشعبية التي ينشدونها الفلاحون تحتضن روحه الصغيرة. لكن خلف تلك الصورة الساحرة، كان وعيه المبكر يتشكل على تناقض عاصف: قصور الأثرياء تتلألأ كجواهر في الضوء، بينما أكواخ الفقراء تئن تحت ثقل البرد والجوع. هذا التناقض صار جرحًا مفتوحًا في قلبه، ينزف كلما كتب كلمة أو فكر في العدالة. قال يومًا، كمن يعلن وصية أبدية: «إذا شعرت بالألم فأنت حي، لكن إذا شعرت بألم الآخرين فأنت إنسان.» ومنذ تلك اللحظات الأولى، بدأ يتعلم كيف يكون إنسانًا، يصغي إلى همس الطبيعة وصراخ المظلومين.
في شبابه، حاول أن يصنع لنفسه طريقًا في جامعة قازان عام 1844، حيث جرب دراسة اللغات الشرقية ثم القانون، لكن جدران القاعات الأكاديمية كانت كقيود تكبل روحه الحرة. وصفوه بأنه «غير راغب في التعلم» أو «عصي على التأطير»، فترك الجامعة دون شهادة عام 1847، عائدًا إلى ياسنايا بوليانا ليحاول إدارة الضيعة وتحسين حياة الفلاحين. لكنه فشل في تلك المحاولة، وسرعان ما انزلق إلى دوامة حياة الأرستقراطية العابثة في موسكو وسان بطرسبرغ: المقامرات التي تسرق الأموال والعقول، الحفلات التي تذوب فيها الليالي، الديون التي تثقل الكاهل، والعلاقات العابرة التي تترك خلفها فراغًا موجعًا. كان يكتب في مذكراته، كمن يعترف بجريمة، أن تلك السنوات كانت سقوطًا حرًا في هاوية داخلية، لا يمسكه سوى قلق غامض ينخر روحه.
عام 1851، هرب من ديونه ومن نفسه بالانضمام إلى الجيش، حيث رافق أخاه نيكولاي في القوقاز، تلك الجبال الشامخة التي تحمل في طياتها أسرارًا قديمة. هناك، وسط الثلوج والصمت، بدأ يكتب للمرة الأولى بجدية. نشر الطفولة عام 1852، وكانت تلك الخطوة الأولى التي كشفت عن موهبته الأدبية، حيث لاقت إشادة واسعة. لكن التحول الحقيقي جاء مع حرب القرم (1853–1856). شارك في حصار سيفاستوبول الذي استمر 11 شهرًا، ورأى الدماء تغمر الأرض، والجنود يسقطون كأوراق الخريف، والموت يتربص في كل زاوية. لم يرَ في الحرب بطولة مزيفة، بل مأساة أمهات تنتظر أبناء لن يعودوا، وأطفال يتيمون يبكون في الظلال. كتب رسوم سيفاستوبول (1855) عن الجنود كضحايا بشريين، لا كأبطال مصطنعين، فهزّت كلماته القلوب في روسيا وخارجها. في تلك اللحظات، استوعب عبارته التي صارت شعارًا له ولمن يتبعونه: «الكل يفكر في تغيير العالم، لكن لا أحد يفكر في تغيير نفسه.» عاد من الحرب في 1856، وقد امتلأ قلبه كراهية للعنف، وحمل في جعبته رغبة ملحة لكشف الحقيقة عبر الكلمة.
بدأ تولستوي رحلته الأدبية الحقيقية مع ثلاثيته الطفولة، الصبا، والشباب (1852–1856)، التي لم تكن مجرد قصص، بل مرايا تعكس صراعاته الداخلية وتساؤلاته عن الذات. ثم سافر إلى أوروبا عام 1857، حيث زار باريس وشهد إعدامًا علنيًا بالغيليوتين، فشعر بالاشمئزاز من وحشية الدولة. كتب لصديقه فاسيلي بوتكين: «الحقيقة أن الدولة مؤامرة لا لاستغلال المواطنين فقط، بل لإفسادهم أولاً.» التقى بفيكتور هوغو، الذي ألهمه بـ البؤساء، وبيير جوزيف برودون، الذي أعار اسمه لمدرسة في ياسنايا بوليانا لاحقًا. عاد إلى روسيا في 1861، بعد إلغاء القنانة، محاولًا إصلاحات اجتماعية، لكنه واجه مقاومة شرسة من السلطات، مما زاد من إصراره على البحث عن العدالة.
في الستينيات، انغمس في كتابة ملحمته الكبرى الحرب والسلام (1869)، التي استغرقت أربع سنوات من العمل الشاق. لم تكن مجرد رواية، بل لوحة ملحمية تضم أكثر من 580 شخصية، تربط بين معارك نابليون الدموية وحياة بيوت النبلاء الروسية. كتب فيها نظريته في التاريخ: أن الأحداث الكبرى ليست نتاج عباقرة، بل تراكم أفعال صغيرة يومية. قال: «الحياة في العمل، والسعادة في الحب.» وبعدها جاءت آنا كارنينا (1878)، التي نشرت على أجزاء من 1873 إلى 1877، وتبدأ بجملتها الخالدة: «كل العائلات السعيدة متشابهة، أما العائلات التعيسة فكل منها تعيسة بطريقتها.» الرواية، التي تعكس صراعاته الزوجية وملاحظاته الاجتماعية، تروي قصة آنا التي تخون زوجها وتنتهي بانتحارها، مقابل قصة ليفين وكيتي التي ترمز إلى زواجه من صوفيا. اعتبرها النقاد، مثل ماثيو أرنولد وفيرجينيا وولف، تحفة نفسية تكشف أعماق الوعي البشري.
لكن مع ذروة المجد، جاءت أزمته الروحية. في اعتراف (1882) كشف أنه فكر جديًا في الانتحار. المال، الشهرة، العائلة – لم يمنحه أي منها يقينًا. كتب: «الحياة بلا إيمان كالزورق بلا شراع.» بدأ يبحث في الأناجيل باليونانية الأصلية، يتأمل في تعاليم المسيح، خاصة خطبة الجبل. رفض تفسيرات الكنيسة الأرثوذكسية، رآها منحرفة عن جوهر الدعوة، وقال: «الحب وحده هو الذي يربط البشر بعضهم ببعض.» هذه الفكرة صارت مركز فلسفته، مستوحاة من آرثر شوبنهاور ونصوص تيروكورال الهندي.
في مملكة الله في داخلك (1894) بلور مفهوم اللاعنف، معتبرًا أن مواجهة الشر بالخير هي القوة الحقيقية. ألهم المهاتما غاندي، الذي قرأ الكتاب في جنوب أفريقيا وقرر اتباعه. تبادلا رسائل من 1909 إلى 1910، حيث كتب له تولستوي: «اللاعنف ليس ضعفًا، بل قوة الحب في الفعل.» أثرت هذه الأفكار في غاندي، الذي أسس مزرعة تولستوي، ثم في مارتن لوثر كينغ، الذي اعتمد اللاعنف في حركة الحقوق المدنية.
في 1901، حُرم تولستوي رسميًا من الكنيسة الأرثوذكسية، لكنه رد بقوة: «لا سلطان فوق الضمير.» ازداد أتباعه، وجاءه الناس كأنه نبي جديد. عاش كما كتب: وزع أراضيه على الفلاحين، ارتدى ثيابًا بسيطة، أكل نباتيًا، وحرث الأرض بيديه. أسس مدارس لأطفال الفلاحين في 1862، مستوحاة من أفكار ديمقراطية، لكنها أغلقت بسبب معارضة السلطات.
لكن صراعه مع أسرته كان جرحًا عميقًا. تزوج صوفيا بيرس في 1862، وأنجبا 13 طفلًا (بقي ثمانية). كانت تنسخ مخطوطاته بيدها، لكن الخلافات حول المال وحقوق النشر أشعلت نارًا بينهما. رأت في زهده تهديدًا للعائلة، بينما كان يقول: «أعظم الناس هم أولئك الذين يشعرون بألم الآخرين.» عاش بهذا المبدأ حتى لو كلفه صدامًا مع أحبته.
في أواخر أيامه، تجاوز الثانية والثمانين، شعر أن بيته أصبح سجنًا. في ليلة نوفمبر 1910، هرب سرًا مع ابنته ألكسندرا وطبيبه، متخفيًا كشيخ فقير. أصيب بالتهاب رئوي، فتوقف في محطة أستابوفو. في غرفة صغيرة، على سرير خشبي، أسلم الروح في 20 نوفمبر. قال قبل الموت: «الحياة بلا حب مستحيلة، لأنه حيث لا يوجد حب، لا يوجد إنسان.»
تدفق الآلاف إلى جنازته الشعبية. الفلاحون جاءوا حفاة، والمثقفون اختلطوا بالبسطاء، كأن روسيا تودع ضميرها. اليوم، بعد قرن، يضيء اسمه القلوب والمكتبات، لا لرواياته فقط، بل لأنه عاش كما كتب. وصيته تتردد: «الكل يريد تغيير العالم، لكن قلة تفكر في تغيير نفسها.»
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟