أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - أوزجان يشار - حين تكشفنا الكلمات… من مزحة مارك توين إلى ثعبان الاجتماعات















المزيد.....

حين تكشفنا الكلمات… من مزحة مارك توين إلى ثعبان الاجتماعات


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 22:37
المحور: كتابات ساخرة
    


هناك كلماتٌ خفيفة كريشة، وأخرى ثقيلة كالصخور. غير أن أخطر الكلمات ليست بالضرورة تلك التي تزلزل الأرض أو تُحدث انفجارًا سياسيًا أو اجتماعيًا، بل تلك التي تنطلق كدعابة عابرة أو كجملة ساخرة، ثم تتحول إلى مرآة تكشف المستور.

الكاتب الأمريكي الساخر “مارك توين” كتب يومًا جملة قصيرة إلى عشرة من معارفه المشهورين:
“لقد اكتشفوا أمرنا… اهربوا.”
كانت مجرد نكتة، لكنه استيقظ في الصباح ليجد أن العشرة جميعًا قد غادروا البلاد على عجل! ما الذي حدث؟ لم يذكر اسمًا ولا فضيحة ولا سرًا، لكنه أطلق كلمةً واحدة فقط… فارتبك الجميع.

في قصة أخرى من أدبنا العربي، أكلت عنزة بعض كتب الأديب أحمد بهجت، فكتب مقالًا ساخرًا يتهم فيه العنزة بمحاربة الفكر. وفي اليوم التالي تلقّى عشر شكاوى من أشخاص يظنون أنه يقصدهم هم، لا العنزة المسكينة!

هاتان القصتان ليستا مجرد طرفتين، بل نافذتان على حقيقة إنسانية عميقة:
• أن الكلمة أحيانًا تكشف أكثر مما نظن.
• وأن الإنسان يقرأ نفسه في كل جملة، ويرى وجهه في كل مرآة، حتى لو لم يكن مقصودًا على الإطلاق.



الفصل الأول: الكلمة كمرآة

الكلمات لا تعكس نوايا قائلها فقط، بل تكشف وجوه السامعين والقرّاء. حين تسمع كلمة “اللص”، لا يفزع الشريف منها، لكنه قد يبتسم بسخرية، بينما المذنب ينكمش في مقعده ويتصبب عرقًا.

هنا نصل إلى قانون نفسي بسيط: كل إنسان يقرأ نفسه في الكلام.
النص واحد، لكن القراءات متعددة. كلمة “الظلم” قد تكون دعوة للعدل عند أحدهم، وقد تتحول إلى صفعة على وجه شخص آخر لأنه يظن أن المقصود هو سلوكه.

إنها ليست صدفة. علم النفس يقول لنا إن البشر يعيشون في “إسقاط مستمر”، يسقطون ما في داخلهم على الخارج. وهكذا، تصبح كل عبارة عامة فرصة لامتحان الضمير الخاص.



الفصل الثاني: سيكولوجيا المذنب

المذنب الحقيقي يعيش حالة قلق دائم. إنه يسير وهو يشعر أن كل عين تتبعه، وأن كل كلمة تشير إليه.

عندما كتب مارك توين مزحته، لم يخطر بباله أن أصدقاءه يحملون أسرارًا مدفونة. لكنه دون قصد لمس منطقة الخوف في داخلهم. الخوف من الفضيحة أشد من الفضيحة نفسها، ولذلك كانت ردة فعلهم الهروب الجماعي.

علماء النفس تحدثوا عن “الشعور بالذنب الخفي”، حيث يظن المذنب أن العالم بأسره يقرأ أفكاره. وفي المجتمعات التي تسودها الرقابة الاجتماعية أو السياسية، يكبر هذا الشعور حتى يتحول إلى وسواس جماعي: كلمة في جريدة قد تطيح برؤوس، وتغريدة ساخرة قد تهدم سمعة، وابتسامة غامضة قد تُفسَّر على أنها اتهام.



الفصل الثالث: الضحية والجلاد

من أخطر ما يكشفه الكلام أيضًا هو دور “الضحية الأبدية”.

لقد كتبتُ يومًا عن قدرة البعض على التمادي في لعب دور الضحية، وكيف أن بعض الناس لا يريدون الخلاص من جراحهم، بل يتغذّون عليها. فإذا بشخص كنت قد أحسنتُ إليه، يظن أنني أتهمه ضمن هذا المقال، وراح يدعو على “الظالمين” كأنه يُدافع عن نفسه!

كدت أقع في الفخ. غضبتُ للحظة لأنني شعرت أنني اتُّهمت ظلمًا، لكنني سرعان ما تراجعت. قلت لنفسي: ربما لم يقصدني، وإن قصدني فقد سامحته. الأمس واليوم وغدًا.

هذا الموقف كشف لي أن لعب دور الضحية ليس مجرد ضعف بل إختيار وسلاح. من يلبس ثوب الضحية يملك سلطة أخلاقية، يُرهب بها الآخرين حتى يظنوا أنهم الجلادون. وهنا المفارقة: قد تتحول كلمة مكتوبة بنية الإصلاح إلى تهمة ضد الكاتب نفسه.



الفصل الرابع: الثعبان على الطاولة

دعونا نذهب إلى قاعة الاجتماعات.

تخيلوا مديرًا يدخل الغرفة، يضع أوراقه بهدوء، ثم يفتح حقيبته ويخرج ثعبانًا، ليلقيه على الطاولة!

ردود الفعل تتوزع بسرعة مذهلة:
1. هناك من يقفز صارخًا قبل أن يرى حتى إن كان الثعبان حيًا أو لعبة مطاطية.
2. وهناك من يمد يده بسرعة جنونية ليلتقط الثعبان قبل الآخرين، وكأنه يريد أن يثبت شجاعته، أو يُظهر أنه “المتحكم في الموقف”، ولو كانت العاقبة وخيمة.
3. وهناك القليل، الذين يتماسكوا للحظة إضافية، ينظرون، يتأملون، ثم يبتسمون: “هل هذا حقيقي أم مجرد خدعة؟”

المشهد كله رمزي. الثعبان ليس سوى كلمة أو إشاعة أو تعليق ساخر. لكنه يكشف النفوس أكثر مما يفعل أي تقرير أو محضر اجتماع.

كم من مرة ألقي “ثعبانًا” في النقاش، فهرع أول من شعر بالذنب ليدافع عن نفسه، وهو لم يكن متَّهَمًا أصلًا! وكم من مرة تحوّل الصمت إلى إدانة، والاندفاع إلى فضيحة، لأن من أسرع إلى التقاط الثعبان هو الذي كان يخشاه أصلًا.



الفصل الخامس: هشاشة الأرواح في زمن الرقمنة

اليوم، لم يعد الثعبان بحاجة إلى قاعة اجتماعات. يكفي أن يكتب أحدهم تغريدة ساخرة أو ينشر صورة كاريكاتيرية، حتى تتساقط الأقنعة.
• يكتب كاتب: “أن الفاسدون في كل مكان.”
فتنهال الردود: “هل تقصدني؟” “لماذا تلمّح إلينا؟” “هذا تجنٍّ علينا.”
بينما الكاتب لم يخطر بباله أحد من هؤلاء!
• ينشر آخر مقالًا عن “المدير الفاشل”، فإذا بعشرات المدراء يردون بغضب، وكأنهم جميعًا يعترفون ضمنيًا بالتهمة التي لم تُوجَّه لهم.

هذا هو عصر “الفضائح الرقمية”: حيث لا تفضحك الكلمة نفسها، بل ما يشي بك هو ردّ فعلك عليها.



الفصل السادس: بين الفلسفة والدعابة

السخرية هنا ليست مجرد ضحك، بل أداة فلسفية. مارك توين وأحمد بهجت لم يكونا مجرد كاتبين، بل فلاسفة بطريقة أخرى. فقد علّما العالم أن الدعابة قد تكون أقوى من الجد، لأنها تكشف النفوس بلا جهد.

لو عاش مارك توين في زمن تويتر، ربما كتب تغريدة واحدة: “لقد اكتشفوا أمرنا.”
وفي الصباح التالي، لوجد نصف الكرة الأرضية قد حذف حساباته وفرّ إلى جزر نائية!

ولو أعاد أحمد بهجت قصته اليوم، لكتب: “عنزة تأكل بعض الملفات الإلكترونية.”
وفي اليوم التالي، لتلقّى آلاف الشكاوى من سياسيين ورجال أعمال ظنّوا أن المقصود هم، لا العنزة الافتراضية.

إنها لعبة الكلمات: ليست هي التي تقتل، بل انعكاسها في قلوبنا.



الفصل السابع: فلسفة التسامح

في النهاية، يبقى السؤال: كيف نتعامل مع هذه المرآة؟

الجواب عندي كان بسيطًا: افترض حسن النية.
حين قرأت دعاء صديقي على “الظالمين” شعرت لوهلة أنني المقصود وأني قد أكون ضمنهم، لكنني اخترت أن أسامحه قبل أن أتيقن أو أمعن في التفسيرات. أقنعت نفسي بأنه حتى لو كان يقصدني، فقد سامحته مسبقًا لأني أستحق طمأنينة التسامح.

التسامح هنا ليس فضيلة أخلاقية فقط، بل هو حماية للنفس من لعبة الشك. فكلما قرأت كلمة، عليك أن تسأل نفسك: “هل أنا المقصود؟ أم أن ضميري يتوهم ذلك؟”
وحتى لو كنت المقصود، ما أسهل أن تغلق الباب بابتسامة: “لقد سامحتك.”



الخاتمة: الكلمة التي تكشفنا

نعود إلى القاعدتين اللتين استنتجناهما من القصص:
1. أحيانًا كلمة واحدة تكشف كل ما نخفيه.
2. السيئون يظنون دائمًا أنك تقصدهم.

بين الدعابة والجد، بين الثعبان والضحكة، بين العنزة والكتاب، تكمن الحقيقة: الكلمات مرايا.
فإن كنت خائفًا من الكلمة، فالمشكلة ليست فيها، بل فيك. وإن وجدت نفسك مسرعًا إلى التقاط الثعبان قبل الآخرين، فتذكّر أنه لم يكن موجهًا إليك أصلًا، بل إلى خوفك المستتر.

هكذا تعلمنا أن أكثر ما يفضح الإنسان ليس ما يُقال عنه، بل كيف يرد على ما لم يُقل أصلًا.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- راسبوتين: أسطورة راهب أو مشعوذ يتراقص فوق حافة عرش يترنّح؟
- ومضات من حياة تولستوي
- الخيانة: بين الوعي والقرار والأثر النفسي
- لوحة الطوفان: صراع الإنسان بين الماضي والمستقبل.. نقد تحليلي ...
- قراءة في خرفان بانورج: بين السخرية والمجتمع في ملحمة رابلي ا ...
- كذبة الكناري ووصيّة الحمار الوحشي
- الجنس عبر الحضارات: من طقوس الخلق إلى ثورات الحرية
- النخب العربية بين الوعي والتخاذل: مأساة أمة تعرف الطريق ثم ت ...
- الإخوة كارامازوف: ملحمة النفس البشرية بين الإيمان والشك
- خرفان بانورج: بين سيكولوجية القطيع وتميّز العقل الحر
- نظرية الكون 25: حين تتحول الجنة إلى مقبرة
- نظرية -الضفدع المسلوق-: كيف يقتلنا التكيف المفرط مع الأوضاع ...
- فن القيادة الصعبة: بين بصيرة القائد وتحدي القرارات
- الشركات والدول المستفيدة من الإبادة الجماعية في غزة
- الكاهن والشيطان: جحيم دوستويفسكي فوق جدران الزنزانة
- المستشار: بين هيبة الصلاحيات وفقدان الفحولة
- انتقام أولجا من الدريفليان: تشريح الغضب المُبرَّر والدهاء ال ...
- الفرق بين القانون والأخلاق في فلسفة إيمانويل كانط
- لم أخنك حتى في أفكاري: دوستويفسكي والحب كمرآة للوجود
- حين يتحدث الإنسان إلى الطير: من نبي الله سليمان إلى تجارب ال ...


المزيد.....




- مئات الفنانين يتعهدون بمقاطعة المؤسسات السينمائية الإسرائيلي ...
- اقــــرأ: بتوع السينما
- نادي السرد في اتحاد الأدباء يستذكر القاص الراحل إدمون صبري
- آخر تطورات الحالة الصحية للفنانة المصرية رنا رئيس
- على طريقة أفلام الأكشن.. إحباط محاولة هروب مثيرة من سجن بألم ...
- متحف الهولوكوست الأميركي يزيل منشورًا مناهضًا للإبادة الجماع ...
- 1500 من صناع السينما عالميا يتعهدون بعدم التعاون مع إسرائيل ...
- الزمن والهشاشة الإنسانية في وعد الحب الزائف بروايات بروست وم ...
- رحلة في عوالم الموسيقى والنساء: من باريس إلى كينيا
- القيمرية.. قلب دمشق الذي لا يخفق إلا بالحياة


المزيد.....

- صديقي الذي صار عنزة / د. خالد زغريت
- حرف العين الذي فقأ عيني / د. خالد زغريت
- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - أوزجان يشار - حين تكشفنا الكلمات… من مزحة مارك توين إلى ثعبان الاجتماعات