أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - التوقعات التي تحمي النوايا الطيبة من الصدمات















المزيد.....

التوقعات التي تحمي النوايا الطيبة من الصدمات


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8461 - 2025 / 9 / 10 - 20:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يقول ماركوس أوريليوس في تأملاته: «ابدأ صباحك بالقول: سألتقي بالفضولي، والجاحد، والمتعجرف، والغشاش، والحاسد…». لم يكن يقصد تربية عقل متشائم يرى الشر في كل زاوية، بل كان يريد تدريب النفس على الاستعداد الواقعي، بحيث لا تتفاجأ الروح حين تواجه أنماط البشر المختلفة. الحكيم لا يغيّر طباع الناس، بل يغيّر استعداده الداخلي لها. التوقع المسبق يخفّف من وقع الصدمة، ويمنح صاحبه هدوءًا لا يُكسر بسهولة.

هذه الفكرة التي صاغها أوريليوس قبل قرون، توازي اليوم ما يسميه علم النفس الحديث بـ “التأطير العقلي” أو “إعادة الضبط المعرفي”. أي أن الإنسان حين يهيئ نفسه لاحتمال المواقف المرهقة، ينجح في تقليل الانفعال والمحافظة على اتزانه. في عالم يتزاحم فيه البشر وتتقاطع فيه النوايا، تصبح التوقعات الواعية درعًا واقيًا للنوايا الطيبة، تحميها من أن تتحول إلى مرارة أو خيبة.



الفلسفة الرواقية: جذور الفكرة

الرواقية، التي أسسها زينون في أثينا وطورها إبكتيتوس وسينيكا، بلغت أوجها مع أوريليوس. كانت فلسفة تعلّم الإنسان كيف يعيش بسلام داخلي رغم اضطراب الخارج. الرواقية لا ترى أن السعادة تكمن في تغيير العالم، بل في تغيير موقفنا من العالم. يقول إبكتيتوس: «لسنا منزعجين بسبب الأحداث، بل بسبب آرائنا عنها».

صاحب النية الطيبة، حين يدخل العالم متوقعًا الامتنان والشكر، يجد نفسه سريع الانكسار. أما إذا أدرك مسبقًا أن البشر يتصرفون وفق طباعهم لا وفق نواياه، فإنه يحافظ على صفاء قلبه. سينيكا كان أكثر وضوحًا حين كتب: «السعادة تعتمد على الإدراك». وما الإدراك إلا التوقع الواعي، الذي يحول المواقف من جروح إلى دروس.

هنا نستحضر الرومي، الذي صاغ الأمر بروح صوفية: «جرّب ألا تتوقع شيئًا، لتُدهَش بكل شيء». هذا القول يذكّرنا بأن المفاجأة يمكن أن تكون نعمة، إذا استقبلناها بصفاء القلب، بدل أن تكون لعنة إذا واجهناها بانتظار مثالي ينهار مع أول جحود.



بين الحكمة القديمة وعلم النفس الحديث

ما يطرحه الرواقية من “الاستعداد” يلتقي مع علم النفس السلوكي المعرفي (CBT). ففي جلسات العلاج النفسي يُطلب من الفرد أن يعيد صياغة أفكاره الداخلية: بدل أن يقول «يجب أن يقدّر الجميع نواياي»، يُقال له: «الناس مختلفون، لكن نواياك الطيبة لا تفقد قيمتها».

دراسات حديثة أثبتت أن من يدرّبون أنفسهم على التوقعات الواقعية يقل لديهم الاكتئاب والقلق بنسبة كبيرة. بحث أمريكي أشار إلى أن ضبط التوقعات يقلل من ضغط الدم ومستويات التوتر بنسبة تصل إلى 40%. هذا ما عبّرت عنه هيلين كيلر بقولها: «التفاؤل هو الإيمان الذي يقود إلى الإنجاز. لا شيء يمكن أن يتحقق دون أمل وثقة». لكنها في الوقت نفسه كانت تعلم أن الأمل الأعمى ليس كافيًا، بل يحتاج إلى أرض واقعية يقف عليها.



التوقعات في العلاقات الإنسانية

العلاقات العاطفية والزوجية أكثر الساحات التي يُختبر فيها هذا المبدأ. كم من إنسان أحبّ بكل صدق، لكنه انهار حين لم يجد المقابل! غير أن الحكمة تقول: حين تدخل الحب متوقعًا أن الحبيب معصوم من النقص، فإنك تمهّد لطريق من الخيبات. أما إذا دخلت مدركًا هشاشة البشر، فإنك تمنح نفسك حصانة داخلية.

ولعل في قول نيتشه: «ما من حب عظيم إلا وهو مبني على توقع الخيانة» تذكير قاسٍ، لكنه واقعي. ليس المعنى أن نتوقف عن الحب، بل أن نفهم أن الحب لا يكتمل دون أن نتوقع لحظات الجرح. وهكذا، نحمي النوايا الطيبة من أن تتحول إلى كراهية عند أول اختبار.



التوقعات في الأسرة والمجتمع

في الأسرة، يضحّي الآباء والأمهات كثيرًا. لكن حين يتوقعون الامتنان الكامل، يصابون بجروح عميقة إذا قابلوه بجحود. الرواقية تقول: افعل الخير لأنه خير، لا لأنه سيعود إليك. مارك توين يذكّرنا: «اللطف هو اللغة التي يستطيع الأصم أن يسمعها والأعمى أن يراها».

وفي المجتمع، يواجه أصحاب المبادرات الطيبة استغلالًا أو تشويهًا. التوقع الواقعي يجعلهم مستمرين رغم كل ذلك. الفيلسوف فولتير، الذي خبر تناقضات البشر، قال: «لا شيء أقسى على البشر من أن تُعاملهم بالعدل». كلماته ليست دعوة إلى الظلم، بل تذكير بأن البشر كثيرًا ما يجحدون من ينصفهم. وهنا تظهر قيمة التوقع كدرع يحمي النية الصافية من الانكسار.



التوقعات في بيئات العمل والإدارة

العمل الجماعي مساحة مليئة بالصدمات. الموظف ذو النية الطيبة قد يصطدم برئيس قاسٍ أو بزميل منافق. من يدخل العمل متوقعًا أن الجميع منصفون، تنهشه الخيبة. أما من يدخل مدركًا أن البشر في العمل تحكمهم مصالح، فإنه يحافظ على طاقته.

قصص الإدارة مليئة بشواهد. شركة ناشئة في وادي السيليكون بدأت بروح مثالية، لكن سرعان ما تفككت بسبب خيانة الشركاء. المؤسس الذي كان يتوقع ذلك، واحتاط قانونيًا ونفسيًا، استطاع أن يستمر ويعيد البناء. أما الآخرون فقد غرقوا في مرارة لم يخرجوا منها.



البعد الثقافي والحضاري

الثقافات الشرقية والغربية تعاملت مع مفهوم التوقع بطرق مختلفة. في التراث الصيني، خاصة في فلسفة الطاو، نجد قولهم: «من يتوقع اللاشيء، يملك الكل». أما في الثقافة الإسلامية الصوفية، فإن التوقعات تعاد صياغتها في مفهوم “التسليم” لله، دون أن يعني ذلك سلبية، بل قوة روحية.

وفي الغرب الحديث، نجد أن كثيرًا من مدارس الإدارة تركز على “إدارة التوقعات” كجزء أساسي من القيادة. القائد الذي يعد أتباعه بالمعجزات يسقط سريعًا، أما من يهيئهم لصعوبات الطريق، فيحافظ على ثقتهم.



من الإحباط إلى النمو

الإحباط جزء من الوجود الإنساني. لكنه، مع التوقع الواعي، يتحول إلى معلم. نيتشه يذكّرنا: «ما لا يقتلني يجعلني أقوى». وفولتير يرى أن قيمة الإنسان ليست في رد فعل الآخرين، بل في صموده.

وفي تجربة اجتماعية حديثة، وُجد أن الأشخاص الذين يستوعبون الخيانة أو الجحود كتجارب متوقعة، لا يفقدون قدرتهم على العطاء. بينما الذين يدخلون الحياة بانتظارات مثالية، يتحولون إلى قساة بعد أول جرح.



الطيبة الزائدة: بين البراءة والألم

يقول غابرييل غارسيا ماركيز: «لو كان بيدي أن أمحو لمحوتُ سنواتٍ من الطيبة الزائدة عن الحد، والسذاجة التي تصل إلى الاعتقاد بأن كل الناس أنقياء».

هذه العبارة تكشف وجهاً آخر من الحقيقة: الطيبة حين تتجاوز حدودها تتحول من فضيلة إلى ضعف يستغله الآخرون. البراءة المفرطة ليست ضمانًا للسلام، بل قد تكون جسرًا للألم.

علم النفس الاجتماعي يفسر ذلك بآلية “الإسقاط”: إذ يظن الإنسان أن الآخرين يملكون نفس نقائه الداخلي، فيُفاجأ بخيبات لا تنتهي. هنا تتجلى الحكمة: ليس المطلوب أن نمحو الطيبة من قلوبنا، بل أن نوازنها بوعيٍ يحمي الروح من الانكسار.

بهذا المعنى، تكون التوقعات الواقعية هي السياج الذي يحفظ الطيبة من أن تتحول إلى سذاجة، فتظل فضيلة مشرقة لا عبئًا يترك الندوب في القلب.



التطبيقات العملية
• تمرين الصباح: قبل الخروج من البيت، قل لنفسك: قد أواجه جحودًا أو استعلاءً أو خيانة، لكنني سأبقى هادئًا.
• إعادة الصياغة: حين يحدث موقف سلبي، لا تقل «خاب أملي»، بل قل «تعلمت درسًا».
• التأطير العقلي: ضع الحدث في إطار أوسع، ليتحول من كارثة إلى تجربة.

ماركوس أوريليوس لخّص ذلك بقوله: «لا شيء يحدث لأي إنسان إلا ما هو مستعد له بالطبيعة». والرومي أعاد صياغتها شعريًا: «لا تظن أن الطريق ممهّد، ففي العوائق أسرار الطريق».



قبل أن أنهي مقالي هذا أرغب بأن أذكركم بأن النوايا الطيبة تظل وردة تنمو في أرض الواقع الصلبة. التوقعات الواقعية هي الماء الذي يحفظها من الذبول، والظل الذي يحميها من لهيب الخيبات. من يتوقع المثالية المطلقة يهيئ نفسه للانكسار، أما من يتوقع ضعف البشر، فإنه يظل قادرًا على الحب والعطاء.

وهكذا، تتلاقى الحكمة القديمة مع العلم الحديث، ليؤكدا أن التوقع ليس تشاؤمًا، بل هو درع يحمي القلب من الصدمات. في عالم يموج بالضغوط، تصبح التوقعات الواقعية حارس النوايا الطيبة، فلا تتحول إلى يأس، بل تبقى قادرة على أن تُزهر حتى في أصعب البيئات.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرضا الذاتي: السيادة على النفس ومعنى الحرية الداخلية
- حين تكشفنا الكلمات… من مزحة مارك توين إلى ثعبان الاجتماعات
- راسبوتين: أسطورة راهب أو مشعوذ يتراقص فوق حافة عرش يترنّح؟
- ومضات من حياة تولستوي
- الخيانة: بين الوعي والقرار والأثر النفسي
- لوحة الطوفان: صراع الإنسان بين الماضي والمستقبل.. نقد تحليلي ...
- قراءة في خرفان بانورج: بين السخرية والمجتمع في ملحمة رابلي ا ...
- كذبة الكناري ووصيّة الحمار الوحشي
- الجنس عبر الحضارات: من طقوس الخلق إلى ثورات الحرية
- النخب العربية بين الوعي والتخاذل: مأساة أمة تعرف الطريق ثم ت ...
- الإخوة كارامازوف: ملحمة النفس البشرية بين الإيمان والشك
- خرفان بانورج: بين سيكولوجية القطيع وتميّز العقل الحر
- نظرية الكون 25: حين تتحول الجنة إلى مقبرة
- نظرية -الضفدع المسلوق-: كيف يقتلنا التكيف المفرط مع الأوضاع ...
- فن القيادة الصعبة: بين بصيرة القائد وتحدي القرارات
- الشركات والدول المستفيدة من الإبادة الجماعية في غزة
- الكاهن والشيطان: جحيم دوستويفسكي فوق جدران الزنزانة
- المستشار: بين هيبة الصلاحيات وفقدان الفحولة
- انتقام أولجا من الدريفليان: تشريح الغضب المُبرَّر والدهاء ال ...
- الفرق بين القانون والأخلاق في فلسفة إيمانويل كانط


المزيد.....




- رأي.. إردام أوزان يكتب: عندما تقصف إسرائيل حليفًا للولايات ا ...
- رئيس وزراء قطر لـCNN: هجوم إسرائيل -إرهاب دولة-.. وتعرضنا لل ...
- ما مصير كبير مفاوضي حماس بعد هجوم الدوحة؟ رئيس وزراء قطر يوض ...
- هل يشكّل الصراع داخل المعارضة التركية نقطة تحوّل في ديمقراطي ...
- هل يلقي الهجوم الإسرائيلي على قطر بظلاله على التحالف الأمريك ...
- ثالث رئيس وزراء فرنسي في عام واحد.. سِباستيان ليكورنو يعد بـ ...
- إسرائيل - قطر: لماذا خيار القوة؟
- فرنسا: أية -قطيعة- يعد بها رئيس الوزراء الجديد؟
- نيبال: الجيش يعلن السيطرة على العاصمة بعد احتجاجات دامية دفع ...
- مطعم بواشنطن يستقبل ترامب بهتافات -الحرية لفلسطين- والمنصات ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - التوقعات التي تحمي النوايا الطيبة من الصدمات