أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - الرضا الذاتي: السيادة على النفس ومعنى الحرية الداخلية














المزيد.....

الرضا الذاتي: السيادة على النفس ومعنى الحرية الداخلية


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8460 - 2025 / 9 / 9 - 21:13
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لا تظن أن الفرح في كثرة ما تملك؛ الفرح في أن ترى قلبك حراً من التعلّق. الفرح في أن تبتسم وأنت جائع، وتطمئن وأنت مريض، وتحب وأنت مجروح. تلك هي السيادة الحقيقية: أن تكون ملكاً على نفسك، لا عبداً لشهواتك. هذه الكلمات المنسوبة لشمس التبريزي ليست عبارة عابرة، بل هي مفتاح لفلسفة عميقة حول الرضا والحرية الداخلية.

منذ فجر التاريخ، عرف الإنسان طريقين: طريق جمع الثروات والجاه والمتاع، وطريق السيطرة على النفس والتحرر من التعلّق. الأول يلمع في كالذهب في أعين الناس لكنه يفضي في الغالب إلى عبودية جديدة؛ أما الثاني، فيمنح صاحبه سيادة على المغريات لا يكمن أن تُنتزع من نفسه الرضا. هذا هو لبّ ما قصده التبريزي: أن تكون ملكًا على نفسك حتى لو خَسرت ما يملكه الآخرون.

الرضا ولا أعرف لماذا نسبه المتصوفين لهم عندما قالوا بأنه مقام من مقامات السالكين، لا يبلغه إلا من جرّب الصبر والتوكل. وفي الفلسفة الرواقية القديمة، كتب الفيلسوف اليوناني ماركوس أوريليوس: “سعادة الإنسان تعتمد على نوعية أفكاره”. أما تلميذ الرواقية إبكتيتوس فقال: “لست عبداً إذا لم تخضع لرغباتك”. وفي حكمة الصين القديمة، قال لاوتسه: “من يرضى بما لديه هو الغني حقاً”. كلها أصوات متباعدة في الجغرافيا لكنها تلتقي عند معنى واحد: أن الرضا هو السيادة الداخلية على الذات عندما تريد الروح أن تنجو.

والقصص الواقعية خير شاهد. الطبيب النفسي النمساوي فيكتور فرانكل عاش تجربة الاعتقال في معسكرات النازية، ومع ذلك كتب: “يمكن أن يُسلب من الإنسان كل شيء إلا حرية اختيار موقفه”. وسط الجوع والبرد والمهانة، كان يجد في الرضا قوة تجعله حراً داخل قفص. لقد جسّد عملياً مقولة التبريزي: أن تبتسم وأنت جائع، وتطمئن وأنت محاصر بالموت.

في قصص الأنبياء نجد أعمق صور الرضا. نبي الله أيوب، الذي ابتُلي بالمرض أعواماً طويلة، ظل صابراً لم يفقد الطمأنينة. ويوسف، وهو في السجن ظلمًا، لم يسلم قلبه للكراهية. الرضا هنا ليس سلبياً ولا هروباً من الواقع، بل هو طاقة تجعل الإنسان أكبر من محنته.

وحتى من التاريخ القريب يطلّ المهاتما غاندي، الذي قاوم الاستعمار البريطاني بلا سلاح ولا جيش. سُجن مراراً وأُهين لكنه كان يرى في معاناته طريقاً للحرية. قال مرة: “يمكن أن يسلبوا مني كل شيء إلا إيماني بنفسي”. وفي إحدى رحلاته بالقطار، سقطت فردة حذائه على السكة، فما كان منه إلا أن خلع الفردة الأخرى وألقاها بجانبها. سأله الناس بدهشة: لماذا فعلت ذلك؟ فأجاب: “الرجل الذي سيجد فردة واحدة لن يستفيد منها، أما إذا وجد الاثنتين فسيرتديهما”. هنا يتجلى الرضا في أصفى صوره: فهو بكل نفس راضية قرر تحويل الخسارة الشخصية إلى فائدة عامة لغيره.

ويأتي من جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا شاهداً آخر. قضى 27 عاماً في السجن، لكنه خرج بروح حرة، رافضاً أن يكون عبداً للكراهية. قال: “حين خرجت من الباب متجهاً إلى الحرية، عرفت أنني إن لم أترك خيباتي ومرارتي خلفي، فسأظل في السجن”. الرضا كان مفتاحه للحرية الداخلية، حرية أكبر من أسوار السجن.

وفي حياتنا أمثلة أخرى لا تقل عمقاً. العالمة الفرنسية ماري كوري، التي قضت حياتها في المختبرات وسط مخاطر الإشعاع، لم ترضَ بالقليل من المعرفة لكنها رضيت بالصبر الذي يتطلبه طريقها الطويل. الرضا هنا لم يكن استسلاماً بل قبولاً لشروط السعي.

ومن القصص المؤثرة التي تكثّف معنى الامتنان والرضا ما قاله الأديب التركي عزيز نيسين: “أدفع كل ما أملك مقابل ما طرّزت يدا أمي.” لم يكن نيسين يتحدث عن المال أو الشهرة، بل عن قيمة لا تُقاس: يد أمّ صنعت بالحب ما يفوق كل ثروة. هذه العبارة تجسّد أن الرضا لا يكون فقط بقبول ما لدينا، بل بامتناننا العميق لمن وهبونا أسباب الوجود.

ومن أقوال هيلين كيلر — الشاعرة والكاتبة الأمريكية التي فقدت بصرها وسمعها — قولها: “لقد بكيت يوماً عندما لم يكن لدي حذاء، لكنني توقفت عن البكاء عندما رأيت رجلاً كان بلا قدمين. الحياة مليئة بالنعم والبركات، لكننا أحياناً لا نقدّرها. لذا قَدِّر ما لديك في الحياة دون شكوى.” شهادة كهذه من امرأة عاشت أقسى الحرمان تؤكد أن الرضا ليس خيالاً بل واقعاً ممكناً.

وفي التجربة الشعرية المعاصرة، نجد محمود درويش يكتب “جدارية” وهو على حافة الموت: “هذا هو اسمك”. واجه الفناء لا باستسلام بل بكرامة ورضا، مثبتاً أن الإنسان قادر أن يمنح لمعاناته معنى حتى في أقسى لحظات حياته.

أما جبران خليل جبران، الأديب اللبناني، فقال: “أعظم القلوب تلك التي نزفت كثيرًا ولم تيأس”. جملة قصيرة لكنها تلخص عمق الرضا: أن يكون القلب مفعماً بالحب رغم نزيفه.

هذه كلها شواهد على أن الرضا ليس استقالة من الحياة، بل هو تولّي قيادتها من الداخل. هو يقظة وليست كسلاً، قوة وليست ضعفاً. الرضا لا يبرر العجز لكنه يمنحنا سكينة في مواجهة ما لا نستطيع تغييره. هو أن نوقّع صلحاً مع الجوع دون أن نمدح الفقر، أن نصافح المرض دون أن نتمنّاه، أن نعترف بالجرح دون أن نسكن فيه.

والخاتمة لا تكون أجمل بدون هذه الآيه العظيمة من القرآن الكريم:

﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 5]

بهذا يتجلى المعنى الذي قصده شمس التبريزي: أن الفرح الحق ليس في كثرة ما نملك، بل في أن نرى قلوبنا حرة من التعلّق، فنكون سادة على أنفسنا.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تكشفنا الكلمات… من مزحة مارك توين إلى ثعبان الاجتماعات
- راسبوتين: أسطورة راهب أو مشعوذ يتراقص فوق حافة عرش يترنّح؟
- ومضات من حياة تولستوي
- الخيانة: بين الوعي والقرار والأثر النفسي
- لوحة الطوفان: صراع الإنسان بين الماضي والمستقبل.. نقد تحليلي ...
- قراءة في خرفان بانورج: بين السخرية والمجتمع في ملحمة رابلي ا ...
- كذبة الكناري ووصيّة الحمار الوحشي
- الجنس عبر الحضارات: من طقوس الخلق إلى ثورات الحرية
- النخب العربية بين الوعي والتخاذل: مأساة أمة تعرف الطريق ثم ت ...
- الإخوة كارامازوف: ملحمة النفس البشرية بين الإيمان والشك
- خرفان بانورج: بين سيكولوجية القطيع وتميّز العقل الحر
- نظرية الكون 25: حين تتحول الجنة إلى مقبرة
- نظرية -الضفدع المسلوق-: كيف يقتلنا التكيف المفرط مع الأوضاع ...
- فن القيادة الصعبة: بين بصيرة القائد وتحدي القرارات
- الشركات والدول المستفيدة من الإبادة الجماعية في غزة
- الكاهن والشيطان: جحيم دوستويفسكي فوق جدران الزنزانة
- المستشار: بين هيبة الصلاحيات وفقدان الفحولة
- انتقام أولجا من الدريفليان: تشريح الغضب المُبرَّر والدهاء ال ...
- الفرق بين القانون والأخلاق في فلسفة إيمانويل كانط
- لم أخنك حتى في أفكاري: دوستويفسكي والحب كمرآة للوجود


المزيد.....




- إطلاق سراح باحثة إسرائيلية اختطفتها ميليشيا عراقية تدعمها إي ...
- إطلاق سراح طالبة إسرائيلية روسية كانت مختطفة في العراق
- الاتحاد العام لعمال مصر.. بيان تاريخي يدين العدوان على قطر و ...
- الحرب على غزة مباشر.. قطر تندد بالهجوم الإسرائيلي وترامب يؤك ...
- ساعات قبل إبحاره.. ماذا بحوزة أسطول الصمود لكسر حصار غزة؟
- الجزائر تطلب عقد اجتماع لمجلس الأمن بعد ضربات إسرائيل في قطر ...
- مواجهة وشيكة بين أميركا وفنزويلا قد تشعل حربًا كبرى
- طهران تعتبر الهجوم الإسرائيلي على الدوحة تصعيدا يستهدف السيا ...
- الثمن الباهظ لمغامرات قيس سعيد
- خبراء أميركيون: الهجوم الإسرائيلي أغلق الباب أمام أي مفاوضات ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - الرضا الذاتي: السيادة على النفس ومعنى الحرية الداخلية