أوزحان يشار
الحوار المتمدن-العدد: 8478 - 2025 / 9 / 27 - 14:27
المحور:
كتابات ساخرة
الحفرة الأولى
منذ فجر الأساطير، والفيلة تمشي في الغابة واثقة من خطاها. ضخمة، متينة، تعرف أنها الأقوى بين الوحوش، لا يقف في وجهها أحد. لكن عندما أراد الصيادون أن يُخضعوا فيلاً لا يُقهر، لم يلجؤوا إلى القوة المباشرة، بل إلى الحيلة: حفرة عميقة بقدر جسده، مغطاة بفروع وأعشاب خادعة. يقع الفيل المسكين في الحفرة، عاجزًا عن الحركة، متألمًا من وزنه الذي صار عبئًا عليه. عندها يبدأ العرض الكبير: قسم من الصيادين يرتدي الأحمر، ينهال عليه ضرباً وإرهاباً وعذاباً، بينما يأتي القسم الآخر بالأزرق، يربّت على ظهره، يقدم له بعض الماء والحبّ، ويطرد الأشرار المزعومين. الفيل لا يدري أن الأزرق والأحمر من فريق واحد، وأن الحفرة صُنعت خصيصاً كي يتعوّد على فكرة الخضوع.
أليس هذا ما يحدث لشعوب العالم المغلوبة على أمرها؟ من الغابات الإفريقية إلى سهوب آسيا، ومن غابات الأمازون إلى الصحارى العربية، تُرمى الشعوب في حفر من الحروب، الانقلابات، العقوبات، أو الفوضى المُدبرة. يأتي “الطيّب” بالوعود والمساعدات، فيما “الشرير” يلوّح بالثورة، الإرهاب، العقائد المتطرفة، أو حتى بتسونامي قادم من المريخ. هذه القصة الأفريقية القديمة عن ترويض الفيل ليست مجرد حكاية طريفة، بل هي استعارة حية لكيفية إخضاع الشعوب في إفريقيا، آسيا، أمريكا الجنوبية، والعالم العربي. الفيل هنا هو رمز للأمم: قوية في إمكاناتها، غنية بمواردها، لكنها تُساق إلى حفر متتالية من الصراعات، حيث يلعب الصيادون – قوى إقليمية أو دولية – دوراً مزدوجاً بين التهديد والإنقاذ. والنتيجة؟ فيل مروّض، يرقص في سيرك السياسة العالمية، يشكر جلاده ويعتبره صديقاً.
الأزرق والأحمر… ألوان السياسة
في السياسة الدولية، تغيّر الألوان مسألة ثياب فقط. مرّة يرتدي الصياد بذلة زرقاء أنيقة، يتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومرة يلبس الأحمر الصارخ، فيهدد بالإرهاب العابر للحدود أو بمدّ عقائدي يخترق العروش. وفي الحالتين، يبقى الفيل هو الفيل: ضخم، لكنه في الحفرة، ينتظر منقذه المزيّف. هذا التبادل بين الأزرق – الذي يمثل القوى الغربية أو الليبرالية المزعومة – والأحمر – الذي يجسد التهديدات الإيديولوجية أو الإرهابية – هو أساس الكوميديا السوداء في مسرحيتنا السياسية. الأزرق يأتي دائماً كالمخلص، يحمل معاهدات السلام والمساعدات الاقتصادية، بينما الأحمر هو البعبع الذي يُستدعى لإثارة الرعب.
هل نحتاج مثلاً إلى دليل حين يُخيف الناس من “المد الشيعي” في مناطق التوتر؟ فجأة يصبح شبح المذهبية أشبه بالفيل الأحمر الغاضب، يثير الرعب في العروش، في حين يخرج “الأزرق” ليعرض الحماية: تحالفات، قواعد، صفقات أسلحة بالمليارات. الصياد الأحمر يلوّح بصواريخ وخطب ثورية، فيما يهرع الأزرق ليبني قواعد عسكرية، مقابل عقود نفطية أو موارد طبيعية. والفيل، محاصر في حفرة التوترات الطائفية، يشكر الأزرق على “الحماية”، متناسياً أن تلك القواعد تحولت إلى أداة للضغط عليه في أزمات لاحقة.
ثم لا يلبث السيناريو أن يتبدل: يطل علينا البعبع الإسلاموي، بعمامته المهيبة وشاربه المُهيّأ للكاميرا، فيُحذَّر الناس من “إرهاب التنظيمات المتطرفة” التي تريد خطف الدولة. ومرّة أخرى، يأتي “الأزرق” ليقول: نحن هنا لحمايتكم من الظلاميين، فقط وقّعوا على هذه الاتفاقية الصغيرة – التي بالمناسبة بحجم جبل! كانت التنظيمات الإسلاموية تُصوّر كصياد أحمر يهدد بالفوضى، فأتى الأزرق ليؤيد تغييرات سياسية، مقابل اتفاقيات اقتصادية وأمنية. والشعب، كالفيل، يتلقى الضربات من كلا الجانبين، ثم يُقنع بأن الخضوع هو الطريق الوحيد للخروج من الحفرة.
وفي عقود مضت، ارتدى الصياد الأحمر قبعة ماركسية وهو يهتف: “الاشتراكية قادمة، سنزلزل العروش!”، ليركض الأزرق بذات السرعة ويقول: “اطمئنوا، نحن سندافع عنكم من المدّ الأحمر، لكن بالمقابل… افتحوا أسواقكم وودائعكم”. كان المد الماركسي – مدعوماً من قوى عالمية – يُستخدم كعصا حمراء لزلزلة العروش، فأتى الأزرق ليبني تحالفات مع أنظمة محلية، مقابل قواعد ونفوذ اقتصادي. واليوم، بعد عقود، نرى كيف تحولت تلك “الإنقاذات” إلى حفر جديدة من الديون والتبعية في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.
من يحفر الحفرة؟
الحفرة نفسها ليست قدراً منزلاً. إنما هي من صنع الصياد، بخبرة هندسية عالية. الحفرة قد تكون حرباً أهلية تُدار عبر شاشات الفضائيات، أو انهيار عملة، أو حتى حملة تضليل إعلامي تجعل الناس يقتتلون حول هوياتهم بينما تُنهب مقدراتهم. حُفرت الحفرة عبر دعم متضارب للأطراف: الصياد الأحمر (المد العقائدي أو الإرهاب) يثير الرعب، فيما الأزرق يقدم المساعدات العسكرية، لكن النتيجة هي دمار يستمر سنوات، وفيل شعبي يعاني الجوع والحصار، شاكراً المنقذين الذين حفروا الحفرة أصلاً.
ثم يبدأ العرض المسرحي المكرر: صرخات، قنابل، بيانات عاجلة، صور دامية على الشاشات. كل هذا هو “العصا الحمراء”. بعدها يدخل الملاك الأزرق، بابتسامة هوليوودية، يحمل بعض أكياس الأرز أو دولارات مشروطة، ويقول للفيل: “انظر، نحن أنقذناك من المجزرة”. والفيل يصدّق. هذا التحليل السياسي يكشف عن آلية الإخضاع: ليس بالقوة الغاشمة فحسب، بل بالتلاعب النفسي. الفيل يتعلم أن الحرية خطيرة، والخضوع آمن.
الفيل الذي أحب جلاده
المفارقة أن الفيل – بذكائه الطبيعي – لا يسأل نفسه: لماذا لم يُخرجني الأزرق من الحفرة منذ اليوم الأول؟ لماذا تركني سنوات أتلقى الضربات ثم يدّعي إنقاذي؟ في السياسة، هذا السؤال يكاد يكون محظوراً. فالمحللون والخبراء على الفضائيات يرددون: “لولا تدخل القوى العظمى لكنا اليوم في ظلامٍ دامس”. ولا أحد يسأل: ومن الذي صنع الظلام أساساً؟ كان الإرهاب (الأحمر) يُستدعى لتبرير التدخل الدولي، فأتى الأزرق ليُسقط أنظمة أو يدعم أخرى، لكن النتيجة كانت فوضى مستمرة، وشعب يشكر “المنقذين” رغم أن الحفرة أصبحت أعمق.
هكذا يحب الفيل جلاده، ويكتب له الأغاني الوطنية، ويمنحه عقود النفط، المعادن، أو الغاز، بل ويستدعيه ليبني السجون الجديدة “بأحدث المعايير الإنسانية”. يُصوّر المد العقائدي أو الإرهاب كتهديد أحمر، فيما الأزرق يقدم الحماية عبر صفقات أسلحة، والفيل يرقص في حفلات التنمية المستقبلية، متناسياً أن الرقص يتم داخل الحفرة.
حفلات الرقص على حافة الحفرة
ما يثير الضحك – والبكاء معاً – أن بعض الفيلة بدأت تعتقد أنها شريكة في اللعبة. تراها تقيم المؤتمرات، ترفع الشعارات، وتتباهى بأن الصياد الأزرق صديقها الحميم. في الحقيقة، هي لا تزال في الحفرة، لم تتحرّك خطوة، سوى أن العصا الحمراء اليوم أقسى من الأمس. كان “زلزلة العروش” (الأحمر) يُستخدم لتبرير الدعم الدولي، فأتى الأزرق بقروض مشروطة، والشعب يرقص في سيرك الديمقراطية المزيفة، بينما الاقتصاد ينهار.
خذ مثالاً: حين يلوّح أحدهم بخطر الإرهاب العابر للحدود، تُفتح صفقات السلاح وكأننا مقبلون على غزو من المريخ. وبعد سنوات، تُكشف الحقائق: كثير من الأسلحة التي اشتريت لم تُستخدم، أو استُخدمت ضد شعوب المنطقة نفسها. كان الإرهاب (كأحمر) يُستدعى، فأتى الأزرق ليُعاد بناء جيوش، لكن النتيجة كانت تبعية مستمرة في إفريقيا وآسيا.
وفي مثال آخر: يُحذَّر النظام من خطر الانقلابات أو “زلزلة العروش”. فإذا بالشعوب نفسها تُعاقَب بتقييد الحريات، بحجة أن “المرحلة حساسة”. كانت التنظيمات المتطرفة (أحمر) تُستخدم لتبرير القمع، والأزرق يقدم الدعم الاقتصادي، والفيل يشكر الجميع.
الكوميديا السوداء
المشهد الكثر طرافة مؤلمة أن الصيادين يغيّرون الألوان كما يغيّرون ربطة العنق. اليوم أحمر، غداً أزرق، بعد غد ربما أخضر باسم البيئة، أو أصفر باسم التجارة الحرة. وفي كل الأحوال، يبقى الفيل في الحفرة، يتلقى الصفعات، ثم ينتظر “المخلّص” الذي يطبطب عليه. كان المد الماركسي القديم يتحول إلى إرهاب (أحمر)، فأتى الأزرق بدعم المعارضة، ثم ترك الحفرة تتسع، والشعب يعاني من رقصة الموت.
وأحياناً يكتشف الفيل متأخراً أنه جُرّد من أنيابه (موارده)، وقُصّت أذناه (سيادته)، وصار يرقص في السيرك العالمي بمهارة، والجمهور يصفّق له لأنه تعلم رفع قدميه في الوقت المناسب. هذه الكوميديا السوداء تكشف عن عبثية الواقع: الشعوب تُخدع مراراً، وتستمر في الشكر.
سؤال بلا إجابة
ما غاب عن بال الفيل – وما نغفل عنه نحن – أن الصياد الأزرق الذي أخرج الفيل من الحفرة، كان قادراً منذ البداية على إنقاذه، لكنه لم يفعل. لأنه ببساطة لا يريد فيلاً حراً، بل فيلاً مروّضاً، يتبعه بخضوع وامتنان. كان الإرهاب (أحمر) يُستخدم لتبرير الاحتلال، والأزرق يقدم “عمليات السلام”، لكن الحفرة تبقى.
الحكاية الأفريقية عن ترويض الفيل ليست مجرد قصة طريفة، إنها مرآة لواقع شعوب إفريقيا، آسيا، أمريكا الجنوبية، والعالم العربي. تُساق هذه الشعوب من حفرة إلى أخرى، من تهديد إلى آخر، بين أحمر يبطش وأزرق يُنقذ، بينما الصياد هو نفسه، لا يغيّر سوى لون ثيابه. ولعل الكوميديا السوداء في المشهد أن الشعوب – مثل الفيلة – ما زالت تشكر الصياد، وتغني له، وتعتبره المنقذ. مع أن الحقيقة الساطعة تقول: لو لم يكن هو الصياد، لما كانت هناك حفرة أصلاً. ربما حان الوقت لأن يتساءل الفيل: متى أخرج نفسي بنفسي؟ لكن في مسرحيتنا، يبدو أن العرض مستمر، والجمهور – نحن لا نرغب في شيء سوى – الضحك والضحك حتى البكاء..
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟