أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8472 - 2025 / 9 / 21 - 23:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
التفاوض كمهارة إنسانية في عالم يغلب عليه الاعتقاد بأن التفاوض يرتبط بالسياسة أو النزاعات العسكرية، يبرز التفاوض كمهارة أساسية في الحياة اليومية. نحن نتفاوض عشرات المرات يومياً، سواء مع المدير في العمل حول زيادة الراتب، أو مع الأبناء حول مواعيد النوم، أو مع الشريك في الحياة على تفاصيل بسيطة مثل اختيار وجبة العشاء، أو حتى مع البائع في السوق على سعر سلعة.
التفاوض ليس مجرد أداة للكسب المادي، بل هو وسيلة لإدارة العلاقات الإنسانية بطريقة تحقق التوازن بين الرغبات المتنافسة والمصالح المشتركة. إنه يعكس قدرتنا على التواصل والتفاعل بشكل بناء، بعيداً عن الصراعات التي قد تدمر الروابط.
وبخلاف الاعتقاد السائد بأن التفاوض عملية صدامية تعتمد على الغلبة والفوز على الآخر، تثبت التجارب الإنسانية أنه مهارة تعاونية في جوهرها. كتاب Getting to Yes لروجر فيشر وويليام يوري، الذي يُعتبر مرجعاً أساسياً في مجال التفاوض، يؤكد أن “التفاوض ليس لعبة محصلتها صفر، بل عملية بحث عن مصالح مشتركة”. هذا النهج يحول التفاوض من معركة إلى شراكة، حيث يسعى الجميع لتحقيق مكاسب مشتركة.
⸻
المعرفة أولاً
أحد أهم القواعد في التفاوض هو الإعداد المسبق. يقول فيشر ويوري: “التفاوض الجيد يبدأ قبل الدخول إلى الغرفة.”
لا تدخل أي مفاوضات دون معرفة كاملة بالقضية، فالجهل بالتفاصيل يجعلك عرضة للخداع أو الضغط من الطرف الآخر. إذا لم تكن مستعداً، اطلب تأجيلاً للنقاش حتى تدرس الملف جيداً. حاول أن تضع نفسك مكان الخصم: ما هي الحجج التي قد يطرحها؟ ما هي نقاط قوته وضعفه؟ هذا التخيل المسبق يمنحك ثقة ومرونة أثناء الحوار.
وليس الحديث عن المفاوضات الكبرى فقط؛ فحتى حين تفاوض صاحب شقة على الإيجار، فإن معرفتك بأسعار السوق وخياراتك الأخرى تمنحك قوة. وعلى المستوى الأسري، حين يعرف أحد الوالدين ميول أطفاله وأسباب عنادهم، يصبح أكثر قدرة على التفاوض معهم بذكاء.
⸻
الإصغاء أكثر من الكلام
غالباً ما يُخطئ الناس في الاعتقاد بأن التفاوض يعتمد على القدرة على الكلام بلباقة، لكن السر الحقيقي يكمن في الإصغاء.
المفاوض المحترف ينصت أكثر مما يتحدث، مما يمنح الطرف الآخر مساحة ليكشف عن أوراقه ودوافعه. كريس فوس، الضابط السابق في الـFBI ومؤلف كتاب Never Split the Difference، يوصي بتقنية “المرآة الصامتة”: تكرار آخر كلمات قالها الطرف الآخر بنبرة تساؤل، مما يدفعه إلى التوسع في الحديث وكشف معلومات إضافية.
خذ مثلاً أباً يفاوض ابنه المراهق على موعد العودة إلى البيت ليلاً. إذا أكثر الأب من الكلام والوعظ، سيصطدم بجدار من الرفض. لكن حين يستمع بصدق، قد يكتشف أن رغبة الابن ليست في التمرد، بل في الشعور بالاستقلال والثقة. وحين يُظهر الأب تفهماً، يمكن أن يتوصلا إلى حل وسط يحفظ كرامة الابن ويطمئن قلب الأب.
وبالمثل، في العمل، الموظف الذي ينصت لمديره قد يفهم أن صرامة المدير ليست رغبة في التحكم، بل انعكاس لضغط يمارسه عليه رؤساؤه. الإصغاء هنا يحول المواجهة إلى تعاون.
⸻
الغموض الإيجابي
في المراحل الأولى من التفاوض، تجنب الوضوح التام لتفادي تقديم التزامات مبكرة. اجعل حديثك غامضاً بما يكفي لإثارة فضول الطرف الآخر، مما يدفعه إلى الكشف عن معلومات أكثر.
فكر مثلاً في عميل يتفاوض مع شركة اتصالات. إن أعلن منذ البداية أنه لا ينوي تغيير مزوده الحالي، فسيُعامل ببرود. لكن حين يظل غامضاً ويترك انطباعاً بأنه قد يغيّر رأيه، سيبادر الموظف بعرض تخفيضات أو مزايا إضافية لكسبه.
حتى في سوق الخضار، من يُظهر غموضاً في اختياره قد يسمع من البائع سعراً أقل لجذبه. الغموض الإيجابي ليس خداعاً، بل مساحة تسمح للطرف الآخر بالكشف عن أوراقه.
⸻
اللغة أداة قوة
التفاوض بلغتك الأم يمنحك ميزة، فاللغة وعاء للهوية والثقة. إذا تحدثت بلغة ضعيفة، ينشغل ذهنك بالنحو أكثر من الجوهر. وحتى لو أتقنت لغة الطرف الآخر، يمكنك استخدام الترجمة لكسب وقت للتفكير.
هذا ينطبق حتى في حياتنا اليومية. طالب جامعي يحاول التفاوض مع أستاذه على موعد لتسليم مشروع قد يجد صعوبة في الدفاع عن موقفه بلغة أجنبية، بينما في لغته الأم يستطيع أن يعبر بجرأة ووضوح.
الكلمات أداة قوة، ومن يتقنها يملك سلاحاً إضافياً في أي تفاوض.
⸻
مهارة التوقيت
لا تتعجل في القبول أو الرفض؛ الزمن جزء من المعادلة. خذ وقتك لإعادة قراءة العروض، فقد تكتشف ثغرات تحولها لصالحك.
تخيل موظفاً يريد التفاوض على ترقية. إن طلبها في لحظة ضغط أو فشل إداري، فغالباً سيلقى الرفض. أما إن اختار التوقيت بعد إنجاز ناجح أو تحقيق أرباح، فسيجد الأرض ممهدة لقبول طلبه.
حتى في العلاقات الشخصية، طلب نقاش جاد مع الشريك بعد يوم مرهق قد يؤدي إلى صدام، بينما الانتظار إلى وقت هادئ يجعل الحوار أكثر سلاسة.
⸻
الحذر من الوعود
الوعود الشفوية خطرة؛ اطلب توثيقها كتابياً أو تحويلها إلى التزامات واضحة.
كم من موظف وُعد بزيادة راتب “قريباً” ولم يتحقق شيء! وكم من مستهلك وُعد بخدمة ما ثم اكتشف عند الحاجة أن الوعود كانت مجرد كلمات.
حتى بين الأصدقاء، الاتفاق على مشروع مشترك يجب أن يترافق مع كتابة بسيطة تحدد الأدوار. ليس لأن الثقة غائبة، بل لأن التوثيق يحمي العلاقة من سوء الفهم.
⸻
المناورة بالمطالب
طرح مطالب مرتفعة أحياناً يكون تكتيكاً مشروعاً. الهدف ليس دائماً الحصول عليها، بل ترك مساحة للتنازل لاحقاً وإظهار مرونتك.
خذ مثلاً شخصاً يتفاوض على شراء سيارة. قد يبدأ بعرض منخفض للغاية، وهو يعرف أن البائع سيرفضه. لكن حين يرفع عرضه لاحقاً، سيبدو وكأنه قدم تنازلاً، بينما وصل في الحقيقة إلى السعر الذي كان يريده منذ البداية.
الأمر نفسه يحدث في المساومة على العقارات أو حتى في الأسواق الشعبية. المهم أن تبقى المناورة واقعية ولا تطيح بالثقة.
⸻
البدائل دائماً
المفاوض الناجح لا يدخل الطاولة بخيار واحد. يجب أن تملك ما يسمى بـBATNA (أفضل بديل عن الاتفاق المفاوض).
فكّر في موظف يتفاوض على راتب مع شركة، وهو يملك عرضاً آخر جاهزاً. مجرد معرفته بوجود بديل يمنحه ثقة أكبر، ويجعله أقل خضوعاً للضغط.
في حياتنا العائلية أيضاً، حين يقترح أحد الزوجين خطة لقضاء العطلة، فإن امتلاك بدائل (رحلة قصيرة بدلاً من سفر طويل مثلاً) يمنع الحوار من الوصول إلى طريق مسدود.
⸻
منطق “الكل رابح”
أسمى صور التفاوض حين يخرج الجميع رابحين. هذا ما تسميه الأدبيات “Win-Win Negotiation”.
خذ مثلاً التفاوض بين طالب وأستاذه حول موعد امتحان شفوي. الطالب يريد التأجيل، والأستاذ يريد الالتزام بالجدول. الحل التوفيقي أن يسمح الأستاذ بتأجيل محدود مقابل أن ينجز الطالب واجباً إضافياً. هكذا يربح الطرفان: الطالب بالوقت، والأستاذ بالالتزام.
حتى بين البائع والزبون، حين يرضى الأول بسعر معقول ويحصل الثاني على سلعة جيدة، فإن كليهما خرج رابحاً.
⸻
التفاوض في الحياة اليومية
النصائح السابقة قابلة للتطبيق يومياً:
• مع الشريك: الإصغاء لمخاوفه وبحث حلول وسط.
• مع الأبناء: تقديم بدائل مثل إنهاء الواجب ثم اللعب.
• مع المدير: عرض خيارات بديلة بدلاً من الرفض المباشر.
• مع البائع: الصمت أحياناً أبلغ من الإلحاح.
التفاوض ليس مجرد مهارة وظيفية، بل وسيلة لتقوية الروابط الإنسانية، حين نديره بروح الشراكة لا بروح العداء.
⸻
التفاوض والذكاء العاطفي
التفاوض يتطلب ذكاءً عاطفياً: قراءة مشاعر الآخر، التحكم في الانفعالات، وإظهار التعاطف.
خذ مثال الأم التي تريد إقناع طفلها بتناول طعام صحي. مجرد الأوامر لن تنجح. لكن حين تُظهر تعاطفها وتربط الطعام بقصص ممتعة أو بهدية صغيرة، فإن الطفل يتجاوب.
الذكاء العاطفي ليس ضعفاً، بل أداة تجعل المفاوضات أكثر إنسانية وفاعلية.
⸻
التفاوض والبعد الأخلاقي
التفاوض ليس خداعاً؛ الأخلاق جزء أساسي. الكذب قد يربح معركة لكنه يخسر علاقة. السمعة الطيبة قوة طويلة الأمد.
حتى في أبسط المعاملات—كشراء قطعة أثاث من بائع محلي—من يحاول استغلال البائع بالتحايل قد يربح القليل، لكنه يخسر احترامه وربما علاقته بالمجتمع. أما من يتفاوض بأمانة، فيربح ما هو أثمن: الثقة.
⸻
خلاصة
التفاوض رحلة عقلية وعاطفية تحتاج إعداداً، إصغاءً، بدائل، ومرونة أخلاقية. وهو انعكاس لشخصيتنا: هل نرى الآخر خصماً يجب كسره، أم شريكاً يمكن البناء معه؟
الجواب يشكل عالمنا: إما صراعات خاسرة، أو شبكة علاقات رابحة.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟