أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - سور الصين العظيم: عندما سقط الجدار من الداخل















المزيد.....

سور الصين العظيم: عندما سقط الجدار من الداخل


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8470 - 2025 / 9 / 19 - 21:36
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


على امتداد التاريخ البشري، ظلّ الإنسان يسعى إلى تشييد معالم تتحدّى الزمن والطبيعة والعدو، تجسّد طموحه في الخلود وتعلن حضوره في وجه الفناء. من الأهرامات إلى المعابد والقلاع، قلّما وجد بناء يجمع بين العظمة المادية والرمزية الروحية مثل سور الصين العظيم؛ ذاك التنّين الحجري الذي التفّ حول حدود الإمبراطورية الصينية ليكون درعها المنيع وحارسها اليقظ وصورة هويتها أمام العالم. ليس السور مجرّد جدار طويل، بل شهادة حيّة على إرادة البشر في مواجهة المستحيل بأدوات بدائية وإمكانات محدودة، وفلسفة صمود ترى أن العمران ليس حجارةً فقط، بل معنى يُشيّد داخل الإنسان قبل أن يُرفع فوق التلال.

بدأت الفكرة في القرن الثالث قبل الميلاد، حين أدرك الإمبراطور تشين شي هوانغ أن بقاء دولته يتعلّق بصدّ غزوات الشمال. أمر بتشييد مقاطع أولية مستخدمًا التراب المضغوط والحجارة، ليربط بين حصون قائمة ويصنع خطوطًا دفاعية متقطّعة. تهدمت أجزاء كثيرة مع مرور القرون، لكن الروح بقيت حيّة تتجدد كلما تجدد التهديد، حتى جاء القرن الخامس عشر فأعادت أسرة مينغ بناء السور على نطاق هائل، بالآجرّ والحجارة الضخمة وأبراج مراقبة متقاربة وأنظمة إشارات بالدخان نهارًا والنار ليلًا. لم يكن جدارًا واحدًا، بل شبكة معقّدة من الأسوار والحصون والخنادق تمتدّ عبر جبال شاهقة ووديانٍ عميقة وصحارى قاحلة؛ عبقرية هندسية تُدخل الطبيعة شريكًا في الدفاع وتحوّلها من تهديد إلى سند.

لكن وراء هذه العظمة تختبئ مأساة إنسانية ثقيلة. مات عشرات الآلاف من العمّال تحت وطأة الإرهاق والجوع والعقوبات القاسية، وتشير روايات إلى أن آلافًا منهم دُفنوا في أساساته، كأن أجسادهم تحوّلت إلى ملاط يربط الحجارة. ومن رحم الألم خرجت الأسطورة الأشهر: منغ جيانغ، الزوجة الشابة التي اقتيد زوجها للعمل في البناء فاختفى ولم يعد. قطعت تلك المرأة مسافات شاسعة تبحث عنه، تسأل القوافل والرعاة، تطرق أبواب المعسكرات والحصون، حتى وقفت أمام السور تبكي بكاءً طويلًا مرًّا. تقول الحكاية إن دموعها انهمرت كالسيل، فارتجّت الحجارة وانهار جزء من الجدار كاشفًا عن عظام زوجها، فعرفته من كسرة ثوبه وخاتمه. سواء كانت القصة أسطورة أو ظلًّا لحقيقة، فإنها تُخرج السور من صمته وتمنحه لسانًا بشريًا: كل حجر فيه محمولٌ على كتف، وكل مدماك خلفه زفرة أمّ أو صرخة زوجة. هكذا يتجاور الخلود المادي والوجع الروحي، وتكتب منغ جيانغ على هامش الجدار درسًا لا يشيخ: أن العظمة الحضارية تُبنى غالبًا على أكتاف المهمَّشين، وأن لكل صرحٍ حسابًا أخلاقيًا لا يسقط بالتقادم.

حيّر السور الباحثين في قياسه: قُدّر قديمًا بنحو 6700 كيلومتر، ثم ارتفع الرقم في مسوحات لاحقة إلى 8850 كيلومترًا، قبل أن تذهب تقديرات حديثة إلى أكثر من واحدٍ وعشرين ألف كيلومتر باحتساب الأجزاء المندثرة والمدفونة. يعرض بين خمسة وسبعة أمتار، ويتراوح ارتفاعه بين خمسة وسبعة عشر مترًا، تعلوه أبراج مراقبة كانت عيونًا يقظة لا تنام. كأننا أمام قارة حجرية ملتوية، حدودها ليست جغرافية فقط بل نفسية أيضًا: شعور جماعي بأن هنالك «داخلًا» يجب حمايته من «الخارج».

ومع ذلك، لم يكن السور عصيًّا على الاختراق. جاءت سنة 1213م لتكتب فصلًا مذهلًا في تاريخ البشرية: بعد حصارين ومحاولات مضنية، لم يقتحم جنكيز خان الجدار بمعاول أو أبراج حصار، ولم يتسلّق جنوده المنحدرات الشاهقة؛ إنما عبروا من بوابة فُتحت لهم برشوة. قيل إن حارسًا ضعيف النفس باع أمانته، ففُتحت الأبواب على مصاريعها، ودخلت القوات المغولية كما يدخل الماء من شقٍّ صغير في سدّ عظيم. لا تحتاج هذه اللحظة إلى مبالغة كي تدهشنا؛ فكل ما فيها قائمٌ على المفارقة: ملايين الأحجار، آلاف الأبراج، قرون من العمل، ثم ينتهي كل شيء على يد إنسان واحد.

هنا يتقدّم السرد من التاريخ إلى الفلسفة. ما الذي يعنيه أن يسقط صرحٌ بهذه الضخامة بخيانة شخص؟ أيّ جدار هذا الذي ينهزم أمام رغبة عابرة؟ ما الفاصل بين حجرٍ يُشيَّد في العراء وحجرٍ يُشيَّد في الضمير؟ لقد اعتقد الناس أن القوة تُقاس بطول الجدران وعلوّها، لكن حادثة البوابة المغولية قالت ما هو أبعد: القوة الأخلاقية هي الجدار الحقيقي، وهي وحدها التي تُبقي الحجر حجرًا والباب بابًا. ذلك أن البنية الفوقية لأي حضارة—قوانينها، مؤسساتها، حصونها—لا تصمد إذا تصدّعت بنيتها التحتية القيمية: عدالة، أمانة، انتماء، وشعور بالمسؤولية أمام الجماعة.

والخيانة، حين تُقرأ فلسفيًا، ليست فعلًا فرديًا فحسب، بل عرضٌ سياسيٌّ وأخلاقيٌّ لمرضٍ اجتماعي: حين تُختزل قيمة الإنسان في راتبٍ أو غنيمة، يصبح الجدار أجرةً مؤقتة لا عهدًا دائمًا. إن ثقب الأمانة أصغر من أن يُرى، لكنه أوسع من أن يُسدّ بالحجارة. ولأن الحضارات تُهاجَم من الخارج بلا انقطاع، فإنها لا تنهار إلا إذا هُزمت من الداخل أولًا: منغ جيانغ بدموعها كشفت جزءًا من السور، أما الحارس المرتشي فكشف هشاشةً الجدران في روح من يحرس السور.

ولكي نفهم مفارقة السور أكثر، لنتأمل ثلاث صورٍ متجاورة: صورة الجدار الممتدّ كظهر تنّين متين يقطع الجبال، صورة المرأة الوحيدة التي تبكي عنده زوجًا مفقودًا فتجعل منه شاهد قبرٍ لا حصنًا فقط، وصورة الحارس الذي يقف على بوابته لسنوات ثم يبيع المفتاح في لحظة واحدة. في الصورة الأولى ينتصر الجسم: حجر فوق حجر. في الثانية ينتصر القلب: دمعة فوق صمت. في الثالثة ينتصر الهوى: شقّ فوق سور. تتصارع الصور الثلاث داخل أي حضارة: إن غلب الجسم على القلب والضمير صارت الحجارة قشرةً يابسة، وإن غلب القلب وحده تلاشت القدرة على الحماية، أما حين يتكافأ القلب والجسم ويُصان الضمير، تُخلق المناعة التي لا تُشترى.

ليس التاريخ الصيني وحده من قدّم هذا الدرس المرّ. الأندلس سقطت بخلافات أهلها قبل أن تطرق أبوابها جيوش قشتالة، والقلاع الأوروبية كثيرًا ما فُتحت أبوابها من الداخل، والملوك العظام لم يسقطوا دومًا بحدّ السيف، بل أحيانًا بضعف الحارس. إن كل سورٍ خارجيٍّ مرهونٌ بصلابة السور الداخلي: جدار المعنى.

ومع تعاقب العصور تبدّل دور السور. أُدرج في قائمة اليونسكو للتراث العالمي عام 1987، ليتحوّل من حدّ عسكري إلى رمز حضاري. ملايين الزوار يتسلقونه كل عام، يتأملون امتداده على التلال كأنهم يمشون فوق ظهر التاريخ نفسه. ولئن شاع أنه يُرى من القمر فقد صحّح العلم الفكرة، وبقيت شهادة بعض رواد الفضاء على إمكانية رؤيته من المدار الأرضي شأنه شأن الأهرامات المصرية. كلاهما يعلن أن الحضارة ليست صدفةً بل إصرارًا، وأن أثر الإنسان أكبر من عمره إذا سكن المعنى حجره.

اليوم، حين نقف أمام سور الصين العظيم ونلتقط صورنا على حافته، يجدر بنا أن نصغي جيدًا: هذا الجدار لا يحدّثنا عن الإمبراطور وحده، بل عن امرأة تبكي، وحارس يتردد، وأمة تتعلّم. يقول لنا: ابنوا ما شئتم من حصون، لكن لا تنسوا أن تبنوا إنسانًا لا يُباع. اجعلوا من العدل جزءًا من الأمن لا ملحقًا به، ومن الكرامة شرطًا للمواطنة لا زينةً لها. فالأمم لا تُحرس بالحجارة، بل تُحرس بالذين يحملون معناها ويدفعون عنها ثمن بقائها.

وهكذا يبقى سور الصين العظيم درسًا يتجاوز زمانه ومكانه: أن الحضارات تُقاس لا بطول جدرانها بل بعمق جدارها الداخلي، وأن لحظة فتح الأبواب للمغول، على بساطتها المادية وفداحتها التاريخية، ليست نهاية الحكاية بل بدايتها الفلسفية؛ بداية سؤالٍ لا ينتهي: من يحرس الحارس؟ وأيُّ سورٍ بنيناه داخل أنفسنا كي لا تُفتح أبوابنا من الداخل؟



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التركي الذي ركب صاروخاً ليتحدث مع المسيح عيسى عليه السلام
- كيف أتصالح مع الجانب المظلم داخلي وأحب ذاتي بصدق؟
- النور الخفي يشع في روح الإنسان… لكن البعض لا يرى سوى العتمة
- حكاية الثعلب الماكر والمزرعة الواسعة
- الذكاء العاطفي وإدارة الأولويات: عندما تقود المشاعر قراراتنا
- غياب الفهم المتبادل: سجن للروح أم حرية في ظل التواصل الإنسان ...
- تركيا الحديثة بين الحقائق والمزايدات: كمال أتاتورك وعصمت إين ...
- توحش الحليف وغدر الصديق: كيف خانت الولايات المتحدة قطر مرتين
- التوقعات التي تحمي النوايا الطيبة من الصدمات
- الرضا الذاتي: السيادة على النفس ومعنى الحرية الداخلية
- حين تكشفنا الكلمات… من مزحة مارك توين إلى ثعبان الاجتماعات
- راسبوتين: أسطورة راهب أو مشعوذ يتراقص فوق حافة عرش يترنّح؟
- ومضات من حياة تولستوي
- الخيانة: بين الوعي والقرار والأثر النفسي
- لوحة الطوفان: صراع الإنسان بين الماضي والمستقبل.. نقد تحليلي ...
- قراءة في خرفان بانورج: بين السخرية والمجتمع في ملحمة رابلي ا ...
- كذبة الكناري ووصيّة الحمار الوحشي
- الجنس عبر الحضارات: من طقوس الخلق إلى ثورات الحرية
- النخب العربية بين الوعي والتخاذل: مأساة أمة تعرف الطريق ثم ت ...
- الإخوة كارامازوف: ملحمة النفس البشرية بين الإيمان والشك


المزيد.....




- تنظيم مسلح جديد في خان يونس يطرح نفسه بديلًا لحماس.. من هي ج ...
- نعيم قاسم يدعو السعودية إلى فتح صفحة جديدة مع حزب الله: لحوا ...
- محكمة العدل الدولية تعلن تلقيها شكوى من مالي ضد الجزائر
- أيام على السابع من أكتوبر
- رئيس ملاوي ومنافسه يتنازعان الفوز بالرئاسة وسط توتر سياسي
- ترامب يمتنع عن المصادقة على مساعدة عسكرية لتايوان
- 5 نساء يتقدمن في العمر بسرعة والعلم يوضح السبب
- -رحاليستا- الليبي يتحدث لترندينغ عن رحلته في صنع المحتوى وزي ...
- إفتهان المشهري .. اغتيال مسؤولة يمنية رميا بالرصاص في وضح ال ...
- محمد قبنض.. اختطاف منتج مسلسل باب الحارة السوري من دمشق والد ...


المزيد.....

- كتّب العقائد فى العصر الأموى / رحيم فرحان صدام
- السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية) / رحيم فرحان صدام
- كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون / زهير الخويلدي
- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - سور الصين العظيم: عندما سقط الجدار من الداخل