أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - ومضات من فن الرسام البحريني علي الموسوي















المزيد.....


ومضات من فن الرسام البحريني علي الموسوي


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8476 - 2025 / 9 / 25 - 21:49
المحور: الادب والفن
    


في عالم يموج بالتحولات السياسية والصراعات العسكرية، برزت شخصيات اختارت أن تحمل لواء السلام عبر أدوات تبدو للوهلة الأولى بسيطة، لكنها في جوهرها أقوى من السلاح وأبقى من السياسة. من بين هؤلاء الفنانين يسطع اسم الرسام البحريني علي الموسوي، الذي جعل من الريشة واللون رسالة إنسانية عابرة للحدود. لم يكن الفن عنده ترفًا جماليًا أو مجرد انعكاس لموهبة فردية، بل صار لغةً عالميةً تنطق بالسلام وتوثّق ملامح البحرين، لتضعها على الخريطة الثقافية العالمية.

منذ بداياته، أدرك الموسوي أن الفن الحقيقي لا يكتفي بتزيين الجدران، بل يخاطب الضمير الجمعي للإنسانية. في لوحاته نلمح البحر والصحراء والمرأة والسوق والطفولة، لكننا نلمح أيضًا ألم الحرب ونداء السلام. وحين اجتاحت المنطقة صراعات دامية، تحوّلت ضربات فرشاته إلى رسائل عاجلة تحمل معنى الحياة في مواجهة الخراب، ومعنى الأمل في مواجهة العبث.

هذا المقال يحاول أن يرسم صورة بانورامية لتجربة الموسوي الفنية والإنسانية، مستندًا إلى شهاداته وأعماله، ومسلطًا الضوء على الأبعاد الرمزية والجمالية التي جعلت منه فنانًا استثنائيًا في الخليج والعالم.



البدايات وبصمة الانتماء

لم يولد علي الموسوي في فراغ، بل نشأ في بيئة بحرينية غنية بالرموز البصرية: الأزقة الضيقة في المنامة، الأسواق المزدحمة، البحر بأمواجه وسفنه، والصحراء بأفقها المفتوح. منذ سنواته الأولى، اكتشف أن الفن وسيلة للتعبير عن الانتماء، وأن اللوحة ليست مجرد انعكاس لما يراه، بل أداة لترجمة ما يشعر به.

في بداياته، انشغل بأربعة محاور أساسية: التاريخ والوجوه، الحيوانات والطيور، البحرين التقليدية، وحياة القرى والشوارع. وقد منحه هذا التنوع أرضية صلبة ليبني عليها لاحقًا رحلته نحو التجريد والرمزية.

ولم يكن انفتاحه على العالم غائبًا منذ وقت مبكر. فقد تأثر بمدارس فنية أوروبية، وخاصة بالانطباعية الفرنسية، حتى أنه صرّح غير مرة بأن كلود مونيه كان معلمه الأثير، قائلاً: “أنا في الغالب انطباعي، ومونيه هو فنانـي المفضل وقد تأثرت به كثيرًا. زرته في حدائق جيفرني ثلاث مرات وشاهدت أعماله في أوروبا، حتى صار بعض الناس يطلقون عليّ لقب مونيه الخليج.”

لكن هذا التأثر لم يكن تقليدًا أعمى، بل تلاقحًا خلاقًا بين البصمة الأوروبية وروح البحرين. وهكذا، خرجت أعماله تحمل في طياتها مسحة عالمية من دون أن تفقد جذورها المحلية.

البحر والصحراء… ثنائية الروح والهوية

يشكّل البحر عند علي الموسوي أكثر من مجرد خلفية طبيعية؛ إنه مرآة للذاكرة ومفتاح للهوية البحرينية. فالبحرين، كما يدل اسمها، ارتبطت منذ القدم بالبحر كفضاء للرزق والحياة والتواصل مع العالم. لكن في لوحات الموسوي، يتجاوز البحر وظيفته المادية ليصبح رمزًا فلسفيًا وروحيًا.

نرى القوارب الصغيرة، أشرعة الصيادين، وامتداد الأفق الذهبي، وكأن الفنان يحاول أن يثبت أن البحر ليس مجرد ساحة للعمل الشاق، بل مجال للصفاء والتأمل والحرية. وقد كتب أحد النقاد أن لوحات البحر عند الموسوي “تجعلك تسمع صرير الخشب تحت أقدام البحارة، ورائحة الملح في الهواء، ولمعان الشمس فوق سطح الماء”. وكأن اللون هنا يتحول إلى حاسة إضافية تلامس الذاكرة الجماعية لسكان الخليج.

لم يكن البحر مجرد جماليات شكلية عنده، بل صار هاجسًا فنياً يتكرر في معظم أعماله. فهو رمز للانفتاح والتواصل بين الشعوب، وفي الوقت نفسه رمز للاضطراب والهدوء، للرزق والخطر، للحياة والموت. وقد وصفته الصحافة بأنه “فنان البحر والسفن”، لأن حضورهما لم ينقطع في لوحاته عبر العقود.

أما الصحراء، فقد احتلت مساحة موازية في أعماله، لكن من زاوية مختلفة. فالصحراء عند الموسوي ليست امتدادًا قاحلًا من الرمال، بل هي فضاء رمزي يمثل الانفتاح والحرية واللاحدود. هو يرى أن الصحراء تحمل معاني الانكشاف والصدق، وأن اتساع الأفق فيها يحفّز الخيال ويحرر الروح. ولذلك، جاءت لوحاته الصحراوية محملة بالألوان الدافئة والرمزية، لتعكس أن الصحراء ليست فراغًا، بل امتلاء بالمعنى.

في هذه الثنائية بين البحر والصحراء، تتجلى شخصية الموسوي البحريني المنتمي لجزيرة صغيرة تتأرجح بين الموج والرمال. البحر عنده مصدر للحياة، والصحراء مصدر للصفاء، والفن هو الجسر الذي يربط بينهما. وربما لهذا السبب نلمس في لوحاته نوعًا من التوازن الداخلي، حيث تتناغم الألوان البحرية الزرقاء مع الألوان الترابية الصحراوية، لتشكل هوية بصرية متكاملة.

ولعل أهم ما يميز هذه اللوحات أن الموسوي لم يقف عند حدود المشهد الطبيعي، بل جعل البحر والصحراء رمزين للتاريخ والإنسان. فالبحر استحضر تاريخ الغوص على اللؤلؤ، بينما استحضرت الصحراء حياة البداوة والقيم الأصيلة. وكأن الفنان يحاول أن يقول: “إن البحرين لا يمكن أن تُختزل في حاضرها فقط، بل هي نتاج صراع البحر مع الصحراء، والذاكرة مع الحاضر، والإنسان مع محيطه.”

المرأة في لوحات الموسوي… من الجسد إلى الرمز

من يتأمل لوحات علي الموسوي لا بد أن يلاحظ أن المرأة تحتل مكانة بارزة فيها، لكنها لا تظهر بوصفها جسداً جمالياً أو موضوعاً زخرفياً فحسب، بل كرمز متجاوز للجماليات التقليدية. لقد سعى الموسوي منذ بداياته إلى أن يتخطى حدود الجسد، ليُبرز في المرأة قوة الشخصية وعمق الروح وكرامة الحضور.

فنراه يرسم النساء في القرى وهنّ يغسلن الملابس عند عيون الماء، أو وهنّ يحملن الجرار فوق الرؤوس بخطوات ثابتة، أو جالسات يتبادلن الأحاديث في الساحات الشعبية. هذه المشاهد البسيطة تحمل في طياتها قوة هائلة من الإنسانية، فهي ترسم صورة للمرأة كحاملة للحياة اليومية، وركيزة أساسية في بنية المجتمع.

لم يكن هدفه أن يستعرض تفاصيل الجسد، بل أن يعكس الكرامة والقوة والرمزية. ولذلك قال عنه أحد النقاد: “المرأة عند الموسوي ليست موضوعاً للزينة، بل موضوعاً للفلسفة، فهي تختزن في تفاصيلها معنى الاستمرار والصبر والقدرة على احتواء الصراع.”

وهذا البعد الرمزي ينسجم مع طبيعة مشروعه الفني الأشمل، الذي أراد من خلاله أن يتواصل مع الإنسان البسيط. ففي إحدى شهاداته قال:
“منذ البداية، كان واضحاً لي أن الفن لا بد أن يخاطب الناس بلغة يفهمونها.”
ولذلك جاءت صور النساء في لوحاته واضحة، مألوفة، تعكس حياة الناس اليومية، دون تكلف أو استعلاء نخبوي.

وفي مقابل هذه البساطة الظاهرية، نجد أن لوحات المرأة عند الموسوي تنطوي على تعدد دلالي: فهي رمز للأرض التي تُروى بالماء، ورمز للخصوبة التي تُنبت الأمل، ورمز للأمومة التي تحتضن المجتمع. فالمرأة ليست مجرد عنصر في اللوحة، بل هي في كثير من الأحيان مركزها البصري والرمزي، حيث تدور حولها عناصر المشهد الأخرى.

كما أن هذا الحضور الإنساني للمرأة ارتبط أيضًا بمواقفه من الحرب والسلام. فحين تحدث عن مآسي الصراعات، لم ينسَ أن يشير إلى معاناة النساء والأطفال، مؤكداً أن المرأة هي الأكثر تأثراً بتبعات الخراب. وهكذا تحولت ريشته إلى أداة للدفاع عن الكرامة الإنسانية، حيث جاءت المرأة في أعماله شاهدة على المأساة، وفي الوقت نفسه حاملة لراية الأمل.

إن استحضار المرأة بهذا الشكل يعكس جانباً عميقاً في فلسفة الموسوي: فهو لا ينظر إليها كموضوع منفصل عن الحياة، بل كرمز يجسد جوهرها. إنها تمثل في فنه المقاومة الصامتة، والقدرة على البقاء، والقدرة على تحويل الألم إلى حياة.

الحرب والسلام… حين تتحول اللوحة إلى نداء

قد يتساءل المرء: ماذا يمكن لريشة فنان أن تفعل أمام ضجيج المدافع وأزيز الطائرات؟ لكن تجربة علي الموسوي تثبت أن الفن قادر على أن يكون صوتًا بديلًا للضمير في زمن الخراب. فحين اندلعت حرب الخليج الأولى، وجد نفسه في مواجهة سؤال أخلاقي حاسم: كيف يعبر الفنان عن موقفه من الحرب؟ وهل يكتفي بالصمت والمراقبة، أم يرفع صوته بما يملك من ألوان؟

يقول الموسوي عن تلك اللحظة:
“عندما اندلعت حرب الخليج الأولى، شعرت كفنان أن عليّ أن أبعث برسالة قوية ضد الحرب. وعندما أُعطي صدام حسين مهلة لمغادرة الكويت، قررت أن أمنح نفسي 24 ساعة فقط لرسم لوحة سلام.”

بدأ العمل في الثامنة صباحًا، ولم يتوقف حتى الثامنة من صباح اليوم التالي. كانت النتيجة لوحة حملت نداءً مباشرًا لصدام كي يترك الكويت ويجنيب المنطقة ويلات الدمار. لكن الرسالة لم تجد آذانًا صاغية، واندلعت الحرب، وتكبدت المنطقة خسائر بشرية واقتصادية فادحة. ومع ذلك، ظل الموسوي يشعر أن ما فعله كان مهمًا، لأنه أبرأ ضميره وعبّر عن موقفه بصدق.

لم تكن تلك التجربة استثناءً، بل فتحت أمامه أفقًا جديدًا جعل من الفن وسيلة للتعبير عن قضايا السلام والإنسانية. ففي عام 1998 أنجز عمله الكبير “حلم القرن”، وهي لوحة تجريدية مستوحاة من حلم داخل حلم، تعبر عن رحلة تتجاوز حدود الكون نحو رؤية جديدة للألفية القادمة، رؤية قائمة على السلام والاستدامة والعيش المشترك. اعتبر الموسوي هذه اللوحة تحفته الكبرى، لأنها لم تكن مجرد مشهد بصري، بل كانت مانيفستو فلسفي يدعو الإنسانية إلى التغيير.

ومع اقتراب عام 2000، أطلق مشروعًا فنيًا عالميًا امتد 2000 يوم قبل دخول الألفية الجديدة، وشمل مشاركات من بلدان عدة. كان هدفه أن يحوّل اللحظة التاريخية إلى حوار عالمي عبر الفن. وفي أول أيام الألفية، دعا 2000 طفل إلى “شجرة الحياة” في البحرين، ليعبروا برسوماتهم عن رؤيتهم للمستقبل. وصف الموسوي النتيجة بأنها كانت “مبهجة بشكل استثنائي”، لأنها جسدت براءة الطفولة كبديل عن عبثية السياسة.

إن تجربة الحرب والسلام عند الموسوي تكشف عن بعد إنساني عميق في مشروعه. فهو لا يرى الفن انعزالًا عن الواقع، بل يراه مشاركة في صناعة المستقبل. ولذلك ظل يؤكد أن الفنان لا بد أن يكون شاهدًا على عصره، وأن يترك أثرًا يذكر الناس بقيمة السلام.

ومن هنا يمكن القول إن لوحات الموسوي ليست مجرد أعمال جمالية، بل هي وثائق روحية لموقف إنساني، تسجل التاريخ من زاوية الضمير. فبينما تحكي كتب السياسة عن الهزائم والانتصارات، تحكي لوحاته عن البشر الذين يدفعون الثمن، وعن الأمل الذي لا يجب أن ينطفئ.

من الانطباعية إلى التجريد… رحلة البحث عن الحرية

الفنان علي الموسوي لم يتوقف يومًا عند أسلوب واحد أو صيغة محددة. لقد فهم الفن بوصفه رحلة مستمرة، تتغير ملامحها مع تغير الزمن والنضج والتجربة. ومن هنا جاء تطور أسلوبه الفني انعكاسًا لمسيرة بحث دائم عن الحرية في اللون والشكل والمعنى.

في بداياته، مال إلى الانطباعية، متأثرًا بمدرسة كلود مونيه والفنانين الفرنسيين الذين جعلوا من الضوء محورًا لأعمالهم. كان يلتقط المشهد الخارجي بعين حساسة، ويترجمه إلى ألوان شفافة تفيض بالحيوية. ومن هنا اكتسب لقب “مونيه الخليج”، وهو لقب لم يكن يزعجه، بل كان يراه اعترافًا بقدرة الفنان الخليجي على أن يحاور المدارس العالمية.

لكن مع مرور السنوات، لم يعد الانطباع وحده كافيًا للتعبير عن هواجسه. فانتقل تدريجيًا نحو التجريد والرمزية، حيث صار اللون عنده أكثر تحررًا، والشكل أكثر إيحاءً. وفي إحدى مراحل مسيرته، هيمن اللون الأزرق على لوحاته، كأنه يختصر البحر والسماء والحلم في آن واحد. هذا التحول لم يكن مجرد تغيير تقني، بل كان انعكاسًا لنضج داخلي ورغبة في البحث عن معنى أبعد من المشهد.

وقد اعتاد الموسوي أن يغير أسلوبه تقريبًا كل عشر سنوات. ففي مرحلة ما ركز على البورتريه والواقعية، ثم انتقل إلى الانطباعية، قبل أن يخوض في التجريد والرمزية. وكان يرى أن الفنان إذا جمد على أسلوب واحد، فقد توقف عن الحياة. ولذلك ظل في حالة تجدد دائم، يحاول أن يفتح لنفسه أفقًا جديدًا كلما شعر بالامتلاء.

ومن اللافت أن هذا التنوع لم يُربك هويته الفنية، بل عززها. فالمتأمل لأعماله يجد خيطًا ناظمًا يجمع بين المراحل المختلفة: إنه الإحساس بالإنسان والزمان والمكان. فالواقعية عنده ليست وصفًا جامدًا، بل توثيقًا للناس في أسواق البحرين وقراها. والانطباعية ليست استنساخًا للغرب، بل استحضارًا للبحر والضوء الخليجي. أما التجريد، فلم يكن لعبة شكلية، بل تعبيرًا عن قضايا كبرى كالحرب والسلام وحلم الألفية.

لقد فهم الموسوي الفن باعتباره لغة متغيرة، قادرة على أن تتطور مع تطور التجربة الإنسانية. ولذلك كان دائمًا يردد أن الفن لا يمكن أن يُحصر في شكل صحيح وآخر خاطئ، بل هو انعكاس لعصره وزمنه. ولهذا، لم يكن يخشى الانتقال من المشهد الطبيعي إلى اللوحة التجريدية، أو من البورتريه التقليدي إلى الفلسفة البصرية.

إن رحلة الموسوي من الانطباعية إلى التجريد تكشف عن حيوية الفنان وجرأته في مواجهة المألوف، وعن إيمانه بأن الحرية الحقيقية تكمن في قدرة الفنان على أن يجدد نفسه باستمرار. وهي رحلة تضعه في مصاف الفنانين الكبار الذين لم يتوقفوا عند محطة واحدة، بل جعلوا من الفن مغامرة دائمة.

الفنان المعلّم… حين تتحول الريشة إلى رسالة تربوية

من أجمل ما يميز تجربة علي الموسوي أنه لم يكتفِ بأن يكون رسامًا ينجز لوحاته في عزلة، بل اختار أن يكون معلّمًا وموجّهًا للأجيال الجديدة. كان يؤمن بأن الفن لا يكتمل إلا إذا نُقل من جيل إلى جيل، وأن مهمة الفنان الحقيقية لا تنحصر في اللوحة، بل تمتد إلى تنمية الذائقة الجمالية لدى المجتمع.

وقد اشتهر بمقولته: “مرة معلّم، يظل دائمًا معلّمًا.” هذه العبارة لم تكن مجرد شعار، بل كانت نهجًا في حياته اليومية. فالموسوي أحب أن يفتح أبواب محترفه للشباب، يقدم لهم النصائح، ويشركهم في مشاريعه الفنية. لم يكن يخشى أن يتقاسم معهم أسرار المهنة، بل كان يرى أن المعرفة الفنية إذا حُجبت فإنها تموت، وإذا نُشرت فإنها تتجدد.

ولذلك، كان له حضور واضح في الجامعات والمؤسسات الثقافية، حيث قدّم برامج وورش عمل لتعريف الطلبة بأساليب الفن المختلفة. لم يكن يفرض عليهم قوالب جامدة، بل كان يحفّزهم على البحث عن صوتهم الخاص. وكان يقول دائمًا إن الفنان الحقيقي هو الذي يجد وسيلته الخاصة للتعبير، لا الذي يكرر الآخرين.

وإذا كان عمله مع الشباب يمثل جانبًا مهمًا من رسالته، فإن عمله مع الأطفال كان أكثر دهشة وإلهامًا. ففي مشروع الألفية، حين دعا 2000 طفل إلى “شجرة الحياة” ليعبّروا عن رؤيتهم للمستقبل عبر الرسم، كان يؤكد على إيمانه بأن الفن يبدأ من الطفولة، وأن براءة الأطفال قادرة على تقديم ما تعجز عنه خطابات السياسة. وصف ذلك اليوم بأنه من أكثر لحظات حياته إشراقًا، لأن الأطفال أرسلوا للعالم رسالة فرح وحلم في وقت كان مثقلًا بالقلق.

إن الموسوي في دوره التربوي لم يكن مجرد ناقل للمعرفة، بل كان مُلهِمًا. كان يسعى إلى أن يغرس في طلابه فكرة أن الفن ليس ترفًا، بل هو وسيلة للسلام، وأداة للتغيير الاجتماعي. وهكذا، تحوّل من فنان فردي إلى بذرة جماعية تُثمر في أيدي من تلامسهم تجربته.

لقد جسّد الموسوي في هذا الدور المعنى العميق للفنان الملتزم بقضايا مجتمعه، حيث جمع بين الإبداع والتعليم، بين الجمال والمسؤولية. وكأن ريشته لم تكن ترسم اللوحات فقط، بل ترسم أيضًا ملامح أجيال جديدة من الفنانين البحرينيين والخليجيين الذين سيواصلون المسيرة من بعده.

البُعد العالمي… البحرين على الخريطة الثقافية

لم يكن علي الموسوي فنانًا محليًا بمعناه الضيق، بل حمل في ريشته مشروعًا يتجاوز حدود الوطن الصغير ليخاطب العالم. لقد أدرك منذ وقت مبكر أن البحرين، برغم مساحتها المحدودة، قادرة على أن تحتل مكانة بارزة على الخريطة الثقافية إذا وُجد الفنانون الذين يجيدون مخاطبة الآخر.

ومع انفتاحه على المدارس الفنية الغربية، خصوصًا الانطباعية والتجريدية، تمكن من أن يخلق لغة بصرية مزدوجة: لغة يفهمها أهل بلده لأنها تستمد عناصرها من البحر والصحراء والمرأة والسوق، ولغة يتذوقها العالم لأنها تنتمي إلى تيارات فنية معروفة عالميًا. هذا المزج جعل أعماله قادرة على التحليق خارج الحدود دون أن تفقد جذورها المحلية.

وقد لقيت أعماله حضورًا في معارض عالمية، نُظر إليها بوصفها نافذة على الخليج من خلال عين فنان قادر على اختزال الخصوصية المحلية في رموز إنسانية شاملة. فلوحاته عن البحر لم تعد مجرد تصوير لمشهد طبيعي، بل تحولت إلى رمز للانفتاح والحرية. ولوحاته عن المرأة لم تعد مجرد تصوير لوجه أو جسد، بل صارت رمزًا للكرامة الإنسانية. وهكذا استطاع أن يجعل من المحلي عالميًا، ومن اليومي كونيًا.

لقد عبّر الموسوي في أكثر من مناسبة عن فخره بتمثيل البحرين في المحافل الدولية، مؤكداً أن مهمته ليست فردية بل وطنية، لأنه يرى أن الفنان حين يشارك بلوحاته خارج بلده، فإنه يحمل معه جزءًا من هوية وطنه وثقافته. ولذلك كانت مشاركاته دائمًا مشبعة بروح المسؤولية والانتماء.

كما أن مشاريعه ذات الطابع العالمي، مثل مشروع “2000 يوم للألفية”، أكدت أنه لا ينظر إلى البحرين كجزيرة منعزلة، بل كجزء من عالم متداخل يحتاج إلى أصوات تدعو للسلام والاستدامة. فمشروعه لم يكن خطابًا محليًا، بل كان رسالة كونية، دعوة إلى الإنسانية جمعاء كي تعيد التفكير في مصيرها.

وقد أسهم هذا البُعد العالمي في تكريس صورة علي الموسوي كفنان جسر: جسر بين البحرين والعالم، بين المحلي والكوني، بين التراث والمعاصرة. وبفضله، صارت البحرين لا تُرى فقط عبر اقتصادها أو سياستها، بل أيضًا عبر فنونها وألوانها.

إن تجربة الموسوي تؤكد أن الفنان يمكن أن يكون سفيرًا ثقافيًا أكثر تأثيرًا من كثير من الدبلوماسيين. فلوحاته، بما تحمله من صدق ورمزية، تصل إلى وجدان المتلقي أينما كان، دون حاجة إلى ترجمة. وهكذا، استطاع أن يضع البحرين على الخريطة الثقافية للعالم بريشته وألوانه، مثبتًا أن للفن سلطة أعمق من الجغرافيا وأوسع من الحدود.

الريشة كرسالة حياة

حين نتأمل سيرة علي الموسوي وأعماله، ندرك أننا أمام تجربة تتجاوز حدود الفن بالمعنى الضيق، لتدخل في صميم المسؤولية الإنسانية. فالموسوي لم يرسم ليملأ الجدران، بل ليملأ القلوب بالمعنى، والعقول بالتساؤل، والضمائر باليقظة. لقد حمل البحر والصحراء إلى اللوحة، لكنه حمل أيضًا الحروب والآمال والمرأة والطفولة. جعل من الريشة شاهدًا على التاريخ، ومن اللون صرخةً ضد الحرب، ومن اللوحة وعدًا بالسلام.

في كل مرحلة من حياته، كان يتجدد كما تتجدد أمواج البحر الذي عشقه. مرةً واقعيًّا، ومرةً انطباعيًّا، ومرةً تجريديًّا رمزيًّا، لكنه في كل الأحوال ظل وفيًّا لجوهر رسالته: أن الفن لغة للإنسانية، لا تعرف حدودًا ولا قيودًا. وقد استطاع أن يربط بين المحلية والعالمية، بين البحرين والعالم، مثبتًا أن الفنان يمكن أن يكون جسرًا ثقافيًا يعبر به وطنه نحو المشهد الدولي.

أما على الصعيد التعليمي والتربوي، فقد اختار أن يكون معلّمًا لا ينقطع عطاؤه. لم يكتفِ بأن ينجز أعماله، بل حرص على أن يترك أثرًا في نفوس الشباب والأطفال، مؤمنًا بأن الفن إذا لم يُنقل للأجيال القادمة فإنه سيموت. ولهذا، ظل حاضرًا في الجامعات وورش العمل، يفتح أبواب المعرفة أمام الآخرين، وينقل إليهم خلاصة تجربته بروح سخية.

ولعل أبرز ما يجعل تجربته متفردة هو أنه لم ينفصل عن قضايا عصره. ففي مواجهة الحروب، رسم لوحات سلام. وفي مواجهة القلق، قدّم للأطفال فرصة للحلم. وفي مواجهة عزلة الجزيرة الصغيرة، فتح نافذة على العالم. هذه القدرة على تحويل الألم إلى جمال، والخراب إلى أمل، هي ما تجعل علي الموسوي فنانًا إنسانيًا بامتياز، لا مجرد رسام.

اليوم، وبعد عقود من العطاء، يمكن القول إن علي الموسوي ترك للأجيال إرثًا بصريًا وفكريًا وروحيًا، يؤكد أن الفن ليس ترفًا ولا زينة، بل ضرورة للحياة. وإذا كانت السياسة تصنع الحدود، فإن الفن يصنع الجسور. وإذا كانت الحروب تخلّف الدمار، فإن اللوحات تخلّف الأمل.

إن تجربة علي الموسوي هي رسالة إلى كل فنان وكل إنسان: أن تحمل ريشة سلام، حتى لو دوّت المدافع، وأن تترك أثرًا نقيًا، حتى لو اسودّت الأيام. فهي ومضات لا تنطفئ، بل تبقى شاهدة على أن اللون أقوى من الرصاصة، واللوحة أبقى من الحرب.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قواعد التوفيق الخمسة عشر: طريقك نحو التميز والتفوق
- ومضات من حياة وأدب إدوارد مورغان فورستر
- مهارة التفاوض: سلوك يومي في الحياة لا ساحة معركة حتمية
- سور الصين العظيم: عندما سقط الجدار من الداخل
- التركي الذي ركب صاروخاً ليتحدث مع المسيح عيسى عليه السلام
- كيف أتصالح مع الجانب المظلم داخلي وأحب ذاتي بصدق؟
- النور الخفي يشع في روح الإنسان… لكن البعض لا يرى سوى العتمة
- حكاية الثعلب الماكر والمزرعة الواسعة
- الذكاء العاطفي وإدارة الأولويات: عندما تقود المشاعر قراراتنا
- غياب الفهم المتبادل: سجن للروح أم حرية في ظل التواصل الإنسان ...
- تركيا الحديثة بين الحقائق والمزايدات: كمال أتاتورك وعصمت إين ...
- توحش الحليف وغدر الصديق: كيف خانت الولايات المتحدة قطر مرتين
- التوقعات التي تحمي النوايا الطيبة من الصدمات
- الرضا الذاتي: السيادة على النفس ومعنى الحرية الداخلية
- حين تكشفنا الكلمات… من مزحة مارك توين إلى ثعبان الاجتماعات
- راسبوتين: أسطورة راهب أو مشعوذ يتراقص فوق حافة عرش يترنّح؟
- ومضات من حياة تولستوي
- الخيانة: بين الوعي والقرار والأثر النفسي
- لوحة الطوفان: صراع الإنسان بين الماضي والمستقبل.. نقد تحليلي ...
- قراءة في خرفان بانورج: بين السخرية والمجتمع في ملحمة رابلي ا ...


المزيد.....




- سعيد يقطين: أمريكا توجه دفة الإبادة والتطهير العرقي بدعمها ل ...
- افتتاح مهرجان هولندا السينمائي بفيلم -ناجي العلي- وأفلام عن ...
- -شومان- تستعيد أمجد ناصر: أنا هنا في لغتكم
- افتتاح مهرجان هولندا السينمائي بفيلم -ناجي العلي- وأفلام عن ...
- سطو -سينمائي- بكاليفورنيا.. عصابة تستخدم فؤوسا لسرقة محل مجو ...
- فيلم -ني تشا 2-.. الأسطورة الصينية تعيد تجديد نفسها بالرسوم ...
- تعاطف واسع مع غزة بمهرجان سان سباستيان السينمائي وتنديد بالح ...
- -ضع روحك على يدك وامشي-: فيلم يحكي عن حياة ومقتل الصحفية فاط ...
- رصدته الكاميرا.. سائق سيارة مسروقة يهرب من الشرطة ويقفز على ...
- برتولت بريشت وفضيحة أدبية كادت أن تُنسى


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - ومضات من فن الرسام البحريني علي الموسوي