أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - القراءة بين سيف أرطغرل الصارم ومقص زكي الحلاق الفاهم















المزيد.....

القراءة بين سيف أرطغرل الصارم ومقص زكي الحلاق الفاهم


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8495 - 2025 / 10 / 14 - 00:39
المحور: الادب والفن
    


في ديسمبر 2014، كنتُ في زيارة إلى إسطنبول، أمشي في شوارعها كمن يعبر ذاكرةً ليست له تمامًا، لكنها تهمس له بشيءٍ من الحنين.
اخترتُ منطقة أيوب سلطان، الشعبية الهادئة، لا لأنها أجمل من سلطان أحمد أو الفاتح، بل لأنها تشبهني أكثر — بسيطة، صادقة، وتقرأ بصمت.
المدينة يومها كانت كتابًا مفتوحًا، كل ركنٍ فيها صفحة، وكل وجهٍ تراه سطرٌ من حكاية.
الشباب في المقاهي، في المترو، في الحافلات، حتى في الأكشاك الصغيرة، يقرؤون كما لو أن القراءة جزء من التنفّس، لا مجرّد هواية.
كان بإمكانك أن ترى بائعًا بسيطًا يقلب صفحات كتابٍ وهو ينتظر الزبائن، فيبدو وكأنه يجعل الانتظار ذريعةً نبيلة لانتظار الفكرة والتقاط الكلمة.

كان الكتاب آنذاك كائنًا حيًا يرافق الناس لا قطعة ديكور على الرفوف.
ابتسمتُ، وقلتُ في نفسي:
“كم تشبه إسطنبول ماليزيا في شغفها بالقراءة!”
فقد رأيت هناك المشهد نفسه — شبابًا يقرؤون على الأرصفة، في المقاهي، في القطارات — كأن العالم كلّه قرّر يومًا أن النور يبدأ من الصفحة الأولى.

لكن الأعوام تمضي كما يمرّ الماء في مجراه: يغيّر صوته، ويبقى في جوهره واحدًا.
وحين عدتُ من إسطنبول إلى الجبيل، شعرت أنني أغلقتُ كتابًا صاخبًا وفتحتُ صفحةً من كتابٍ آخر يكتبه البحر بهدوءٍ وصدق.
مدينة هادئة على شاطئ الخليج العربي، بدأت صناعية ثم أصبحت سياحية، لكنها ما زالت تُفكر بصمت وتنمو بسرعة.
كأنها صدفة بحرٍ لا تُحسن البوح، تسكنها الموجات أكثر مما يسكنها الناس.

وهناك، في تلك المدينة التي تتنفس على إيقاع المدّ والجزر، التقيتُ “زكي” — الرجل الذي جعلني أرى العالم من مرآة صالون حلاقة صغيرة.

دخلتُ المحل ذات صباح، فقط لأحلق شعري، لا لأكتشف حكاية تختصر المسافة بين زمنٍ يقرأ وزمنٍ يكتفي بالمشاهدة.
في الداخل، كان التلفاز يحتل الجدار المقابل للمرآة، يعرض مشهدًا من مسلسل “أرطغرل”.
وقف الحلاق هناك، شاب تركي من مدينة أضنة، مقصّه في يد، ونظره مشدود إلى سيف أرطغرل المرفوع على الشاشة.
كان يعيش اللحظة بكاملها، يبتسم حين ينتصر البطل، ويقطب حاجبيه حين يخون أحدهم.

انتظرتُ حتى انتهى المشهد البطولي، ثم التفت إليّ بابتسامةٍ عريضة وقال:
ـ تفضل عمي، أرطغرل كان سيقضي على الخائن الآن، لكن لا بأس… تفضل!

جلستُ على الكرسي وأنا أراقب المقص في يده كما لو أنه امتداد لسيف أرطغرل نفسه.
قلت ممازحًا وأنا أبحث عن بدايةٍ آمنة للحوار:
ـ زكي، ألا تملّ من أرطغرل؟
ضحك وقال بثقةٍ فيها إيمان لا يتزعزع:
ـ عمي، هذا الرجل يُعلّمنا الصبر والشجاعة… من مثله اليوم؟
قلت:
ـ لكنه أيضًا مملّ في غزله لحليمة!
فضحك وقال:
ـ لابد للأبطال أن يكون لهم قلبٌ يعشق يا عمي.

حاولت أن أجرّه من الشاشة إلى الكتاب، من الصوت إلى الفكرة.
ـ وهل تعرف ناظم حكمت؟
هزّ رأسه متسائلًا:
ـ ربما لاعب كرة قدم في بيشكتاش؟
قلت وأنا أكتم ضحكتي:
ـ لا يا زكي، ليس لاعب كرة، بل شاعرٌ جعل الكلمة وطنًا حين خانته الأوطان.
ـ آه، لا أعرفه، أنا أحب أرطغرل لأنه لا يخون وطنه.
ـ وأليف شفق؟
ـ يمكن ممثلة؟
ـ وعزيز نيسين؟
ـ أكيد واحد من جماعة أرطغرل!

ضحكت، لكن ضحكي لم يكن استهزاءً، بل دهشة أمام هذا العالم البسيط الذي يعيش فيه زكي دون أن يشعر بأنه فاته شيء.
قلت له:
ـ يا زكي، لو تقرأ قليلًا، ربما تكتشف أن ناظم حكمت علّمنا كيف نحلم ونحن بلا حرية، وأن أليف شفق جعلتنا نحبّ بلا خوف، وأن جلال الدين الرومي تحدّث عن الله بلغة العاشقين.
رفع حاجبه وقال بخفّةٍ ساخرة:
ـ عمي، الكتب تتعب الرأس، أما أرطغرل يُسلّي القلب.

ـ لكن القراءة عمل راقٍ، تفتح القلب والعقل معًا.
ـ عمي، قلبي مفتوح من دون كتب.

ثم عاد لينظر إلى الشاشة، كأنه وجد فيها ما يعجز الكلام عن منحه.
حاولتُ أن أستدرجه مرةً أخيرة:
ـ اسمعني يا زكي، لو قرأت قليلًا، ربما صرتَ مثل عزيز سنجار، العالم التركي الحاصل على نوبل في الكيمياء.
ابتسم بثقةٍ غريبة وقال:
ـ والله يا عمي يمكن يعرف أرطغرل، لأن كل الأتراك يحبونه، لكن ما أعرف عزيز سانغار!

ضحكت، فضحك معي، ثم انقطع الضحك فجأة كأننا اكتشفنا في الوقت نفسه حجم المسافة بين عالمينا.
قلت له:
ـ زكي، القراءة ليست تعاليًا، هي طريقة أخرى لفهم نفسك والعالم.
صمت لحظة، ثم قال ببطءٍ كمن يسترجع وجعًا قديمًا:
ـ عمي، ثلاثة معلمين حاولوا معي وأنا طفل ولم ينجحوا، ولهذا أنا هنا… وكما ترى، زكي الحلاق.

كانت الجملة ثقيلة كأنها خرجت من عمق تعبٍ طويل.
نظرت إلى وجهه، فوجدت فيه ملامح الغربة أكثر من الإرهاق.
غربة لا تشبه غربة المهاجرين عن أوطانهم، بل غربة عن الفكرة، عن المعنى الذي لم يُمسك به يومًا.
زكي لم يقرأ عن العالم، فصار يعيش غريبًا فيه، يحلق للناس كل يوم كأنه يقصّ جزءًا من غربته الخاصة.

قلت له وأنا أبتسم لأخفف وطأة الصدق:
ـ لكنك ذكي يا زكي، ألا تشعر أنك كنت تستطيع أن تكون شيئًا آخر؟
رفع المقص قرب رأسي وقال ضاحكًا:
ـ عمي، لو كنت قرأت، ما كنت هنا. لكن الله كتب لي المقص بدل القلم.

كانت الجملة كطلقةٍ من ضوء.
لم تكن شكوى، بل تسليمًا هادئًا لقدرٍ فهِمه أكثر مما خضع له.
تأملته وهو يتحدث، فشعرت أنه أكثر حكمة مما يظهر.
زكي يقرأ الناس لا الكتب، يتعلّم من المواقف لا من الصفحات.
هو ابن الحياة مباشرة، لا أحد وسَط بينه وبين التجربة.

حين انتهى من الحلاقة، قال ضاحكًا وهو ينظر إليّ في المرآة:
ـ نعيماً يا عمي، هل شاهدت كيف صار المقص يفهمني أكثر من الكتب؟
قلت مبتسمًا:
ـ ربما لأنك تتحدث معه كل يوم.
فأجاب بجديّةٍ نادرة:
ـ الكتب لا تردّ عليك، لكن المقص يسمعك حتى لو لم يفهمك.

في تلك اللحظة، أدركتُ أن في داخله بصيرة لا تحتاج إلى قراءة، بل إلى إنصات.
خرجتُ من المحل، ورائحة المعقّمات تختلط برائحة البحر القريب.
كنت أتمتم كمن يقرأ آخر سطرٍ من رواية حزينة:
“لقد فشل معي ثلاثة معلمين كي يجعلوني أقرأ، ولهذا أنا هنا… زكي الحلاق.”

ضحكت وأنا أرددها في طريقي، والبحر يلمع تحت شمس الجبيل كمرآةٍ أخرى تضحك بدورها.
زكي لا يقرأ الكتب، لكنه علّمني درسًا في الحياة: أن الغربة لا تُقاس بعدد الكيلومترات، بل بعدد الصفحات التي لم نفتحها، وأن بعض الناس يعيشون ببساطةٍ تفضح تعقيدنا نحن الذين نظن أننا نفهم.

ربما لأن الله كتب له المقص بدل القلم، لكنه علّمني أن بعض المقصّات تكتب بحدّها ما لا تكتبه آلاف الأقلام.
تذكّرتُ يوم كانت حياتنا كتابًا مفتوحًا قبل شاشات الموبيل وقبل شاشات التلفاز، وقلتُ في نفسي:
ربما صارت القراءة اليوم حدثا تاريخيا منقرض بين سيفٍ صارم ومقصٍ فاهم.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ومضات من حياة لازلو كرازناهوركاي: رسول الخراب الجميل
- حقيبة الملابس .. من مذكّرات الكاتب التركي عزيز نيسين
- الصراع على نوبل للسلام 2025: ترامب مقابل ثونبرغ.. من يستحق ل ...
- إنهم يصطادون طرابيش الصغار .. عندما طار طربوشي من فوق رأسي
- الأرض الأم: ومضات من حياة الفنانة وو شانغ وتحليل رمزية الخلق ...
- صناعة الوعي المغيّب… من نقد المعرفة إلى فلسفة الكلمة عند هاب ...
- حين يُدار العمل بعُقدة النقص: كيف تُنتج الإدارات غير المؤهلة ...
- الأمراض في البحرين والطب الشعبي: رحلة الشفاء عبر العصور من د ...
- ومضات من حياة زهرة اليابان: الشاعرة أكيكو يوسانو
- ومضاتٌ من حياة “جحا التركي” عزيز نيسين: أيقونة الأدب التركي ...
- الذئب الذي صار إنسانًا… والإنسان الذي صار ذئبًا
- أدوات وآليات التأثير بين الفن والسلطة: كيف نصنع أثرًا يبني و ...
- الكلام مهارة والإصغاء فن: بين الفهم والرد
- الفيل القابع في الحفرة بين الأزرق والأحمر
- التهذيب مرآة الحضارة عبر ثقافات الأمم.
- ومضات من فن الرسام البحريني علي الموسوي
- قواعد التوفيق الخمسة عشر: طريقك نحو التميز والتفوق
- ومضات من حياة وأدب إدوارد مورغان فورستر
- مهارة التفاوض: سلوك يومي في الحياة لا ساحة معركة حتمية
- سور الصين العظيم: عندما سقط الجدار من الداخل


المزيد.....




- السينما في مواجهة الخوارزميات.. المخرجون يتمردون على قوانين ...
- موسكو تستعد لاستضافة أول حفل لتوزيع جوائز -الفراشة الماسية- ...
- مهرجان الجونة السينمائي 2025.. إبداع عربي ورسالة إنسانية من ...
- تنزانيا.. تضارب الروايات حول مصير السفير بوليبولي بعد اختطاف ...
- باقة متنوعة من الأفلام الطويلة والقصص الملهمة في مهرجان الدو ...
- حريق دمر ديرا تاريخيا في إيطاليا وإجلاء 22 راهبة
- الإعلان عن 11 فيلما عربيا قصيرا تتنافس في مهرجان البحر الأحم ...
- هنا يمكن للمهاجرين العاملين في الرعاية الصحية تعلم اللغة الس ...
- قطر تطلق النسخة الدولية الأولى لـ-موسم الندوات- في باريس بال ...
- الممثل توني شلهوب يقدّم إكرامية بنسبة 340? إلى عربة طعام.. ش ...


المزيد.....

- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - القراءة بين سيف أرطغرل الصارم ومقص زكي الحلاق الفاهم