أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - إنهم يصطادون طرابيش الصغار .. عندما طار طربوشي من فوق رأسي














المزيد.....

إنهم يصطادون طرابيش الصغار .. عندما طار طربوشي من فوق رأسي


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 08:52
المحور: الادب والفن
    


من ذكريات الطفولة يرويها الكاتب التركي الساخر عزيز نيسين، حيث تمتزج براءة التعلّم الأولى بسخرية الوعي المتأخر.

ترجمة/ أوزجان يشار
22-06-2001

تمّ تسجيلي في مدرسة الجيران التي كانت تبعد كثيرًا عن بيتنا. كنت أسير على امتداد الطريق الطويل، ثم أستدير يسارًا نحو مركز الشرطة، ومن هناك أواصل السير صعودًا حتى أصل إلى الجبل المقابل للبقالة اليونانية الواقعة على اليمين. كانت مدرسة الجيران تلك منزلًا قديمًا تحوّل إلى قاعة للدروس، وكانت معلمة المواد الدينية امرأة من التتار "الشيشان"، لها ثلاث بنات ناضجات يبدين في نظري جميلات جدًا.

كان ذلك زمن هجرة الروس البيض إلى إسطنبول. وأعرف تلك المرحلة من علامتين راسختين في ذاكرتي: الأولى أن أبي أحضر يومًا إلى البيت أوراقًا نقدية ضخمة الحجم، مطبوعة بأرقام لاتينية وعلى أطرافها أصفار كثيرة، ثلاثة أو خمسة أو حتى ستة أصفار. كانت تلك عملة روسية فقدت قيمتها بعد الثورة، حين بدأ الفارّون من الروس البيض يهرّبون أكياس النقود معهم إلى الخارج. اشترى أبي ورقتين أو ثلاثًا منها، شأنه شأن كثيرين من الذين ظنّوا أن القيصر سيعود يومًا وأنهم سيصبحون من أصحاب الملايين بتلك الأوراق الميتة. وما زال بعض الناس يحتفظون بها آنذاك كمن يحتفظ بحلمٍ مؤجلٍ تحت وسادته.

وكانت المعلّمة الثانية امرأة روسية جميلة استقرّت في المدرسة نفسها. كانت موهوبة، تصنع ظلالًا لقبعات مطرزة بخيوط الحرير. كنّا نحن الأطفال نحدّق في تلك الظلال الكبيرة المنعكسة على السقف بدهشة لا تنتهي، كأننا أمام سفينة فضاء تهبط في عالمنا الصغير.

وكما في سائر مدارس الجيران، كنّا نجلس على الأرض بأرجلٍ مطوية أمام طاولات خشبية منخفضة للكتابة، وعلى رؤوسنا طرابيش صغيرة تميّز تلاميذ القرآن. لبستُ أول طربوش في حياتي يوم ذهبت إلى تلك المدرسة.

تعلّمنا أولًا كيف نضمّ حرفًا إلى آخر، ثم كيف نحفظ آيات الصلاة. كنا نتلو سورًا من القرآن الكريم من السورة الثامنة والسبعين حتى آخر المصحف. وكان الكتاب الذي نقرأ منه بالعربية يُعدّ آنذاك كتابًا للقراءة العامة أيضًا. وكنا نبدأ حصة الكتابة بدعاءٍ نحفظه دون أن نعرف معناه:

«رَبِّي يَسِّرْ وَلَا تُعَسِّرْ، رَبِّي تَمِّمْ بِالْخَيْرِ».

نرتله بالعربية، ثم نردده بالتركية ترجمةً له، دون أن يخطر لنا أن نسأل يومًا عمّا يعنيه حقًا.

وجاء اليوم الذي طُلب مني فيه أن أقف أمام السبورة لأقرأ. بدأت أترنّح بخوف من جانب إلى آخر، ثم نطقت:

«ألم نشرح لك صدرك…»

علمت لاحقًا أن اسمها سورة الشرح، لكننا آنذاك كنّا نحفظها دون أن نفقه منها حرفًا، ولا أن نفهم ما تحمله من رسالة. كان الكبار يملؤون عقولنا الصغيرة بكلمات غريبة عن لغتنا لا تضيء فينا سوى الارتباك.

كنا في الخامسة من العمر حين حفظنا:

«ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك، ورفعنا لك ذكرك، فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا، فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب.»

ربما يثير فضولك معناها بالتركية، فهي تقول باختصار:

«يا محمد، ألم نشرح لك صدرك؟ نعم، قد شرحناه، ورفعنا عنك الحِمل…»

لكننا لم نتعلم معناها في دروسنا أبدًا. هل كان السبب لأن التركية أصعب من العربية؟ أم لأن الفهم لم يكن مطلوبًا منا أصلاً؟

وذات مرة، كنت أرتّل السورة أمام المعلمة، وما إن بلغت الآية الأخيرة: «وإلى ربك فارغب»، حتى طار طربوشي فجأة! نظرت إلى الأعلى مذعورًا، فإذا به عالق في مؤخرة عصا المعلمة. لم أفهم كيف طار الطربوش من رأسي واستقر هناك.

لكن يبدو أنني حين قلت «فارغب»، استجابت المعلمة لتلك الرغبة على طريقتها الخاصة: فأخذت الطربوش من فوق رأسي.

تجمّدت مكاني، لا أعرف ماذا أفعل. لم أجرؤ على طلبه منها، وكنت أعرف أن أمي ستوبخني إن عدت إلى البيت بلا طربوش. ولو قلت إن المعلمة أخذته، هل كانت لتصدقني؟ في تلك الأيام، كان شراء طربوش جديد يشبه في صعوبته اليوم شراء جهاز موسيقي ضخم.

عدت إلى البيت باكيًا، لكني مسحت دموعي قبل أن يراني أحد. اعترفت لأمي أخيرًا:

«يا أمي، المعلمة أخذت طربوشي!»

قبلتني أمي بسرور وقالت:

«ما شاء الله، ما شاء الله!»

ولم أفهم السبب، حتى علمت لاحقًا أنها كانت عادة معروفة: فعندما يتمكّن الولد من تلاوة القرآن، ويتقن سورة الانشراح وينطق كلمة فارغب، تمسك المعلمة بعصاها وتنتزع الطربوش من رأسه. كانت تلك إشارتها إلى الأهل بأن الولد قد نجح — أشبه بشهادة تقدير في عالمنا اليوم.

بعدها على الأهل أن يرسلوا إلى المعلمة صينية من باسطة الجبن أو بالعسل كي تُعيد الطربوش إلى صاحبه. حملت أمي صينية متواضعة من الجبن الرخيص، وقدّمتها للمعلمة، فعادت إليّ بطربوشي. كانت حزينة لأنها لم تستطع أن تقدّم شيئًا أغلى، لكن لا أظن أن أحدًا من أطفالي اليوم سيفهم معنى ذلك الحزن القديم.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأرض الأم: ومضات من حياة الفنانة وو شانغ وتحليل رمزية الخلق ...
- صناعة الوعي المغيّب… من نقد المعرفة إلى فلسفة الكلمة عند هاب ...
- حين يُدار العمل بعُقدة النقص: كيف تُنتج الإدارات غير المؤهلة ...
- الأمراض في البحرين والطب الشعبي: رحلة الشفاء عبر العصور من د ...
- ومضات من حياة زهرة اليابان: الشاعرة أكيكو يوسانو
- ومضاتٌ من حياة “جحا التركي” عزيز نيسين: أيقونة الأدب التركي ...
- الذئب الذي صار إنسانًا… والإنسان الذي صار ذئبًا
- أدوات وآليات التأثير بين الفن والسلطة: كيف نصنع أثرًا يبني و ...
- الكلام مهارة والإصغاء فن: بين الفهم والرد
- الفيل القابع في الحفرة بين الأزرق والأحمر
- التهذيب مرآة الحضارة عبر ثقافات الأمم.
- ومضات من فن الرسام البحريني علي الموسوي
- قواعد التوفيق الخمسة عشر: طريقك نحو التميز والتفوق
- ومضات من حياة وأدب إدوارد مورغان فورستر
- مهارة التفاوض: سلوك يومي في الحياة لا ساحة معركة حتمية
- سور الصين العظيم: عندما سقط الجدار من الداخل
- التركي الذي ركب صاروخاً ليتحدث مع المسيح عيسى عليه السلام
- كيف أتصالح مع الجانب المظلم داخلي وأحب ذاتي بصدق؟
- النور الخفي يشع في روح الإنسان… لكن البعض لا يرى سوى العتمة
- حكاية الثعلب الماكر والمزرعة الواسعة


المزيد.....




- الكاتب المجري لاسلو كراسناهوركاي يفوز بجائزة نوبل للأدب
- تامر حسني يعيد رموز المسرح بالذكاء الاصطناعي
- رئيس منظمة الاعلام الاسلامي: الحرب اليوم هي معركة الروايات و ...
- الدكتور حسن وجيه: قراءة العقول بين الأساطير والمخاطر الحقيقي ...
- مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني ...
- مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني ...
- صدور كتاب تكريمي لمحمد بن عيسى -رجل الدولة وأيقونة الثقافة- ...
- انطلاق مهرجان زاكورا السينمائي في المغرب
- كل ما تحتاج معرفته عن جوائز نوبل للعام 2025
- -سلام لغزة-.. الفنانون العرب يودّعون الحرب برسائل أمل وتضامن ...


المزيد.....

- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - إنهم يصطادون طرابيش الصغار .. عندما طار طربوشي من فوق رأسي