أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 19:13
المحور:
الادب والفن
«كل لوحة هي حوار بين الأرض وذاكرتي، بين الضوء وما يُخفيه الطين من أسرار.»
— وو شانغ
⸻
الفنانة وو شانغ: سيرة الضوء المتجذر في التراب
ولدت الفنانة التايوانية وو شانغ في التاسع من آذار (مارس) عام 1988 في مدينة تايبيه، ونشأت بين رائحة البحر وأنفاس الحقول، في بيئةٍ تمتزج فيها الزراعة بصفاء الأفق، والضباب بالجبال التي تحرس سهل لانغيان كأمٍّ رؤوم. منذ طفولتها، كانت وو شانغ تميل إلى الصمت المضيء؛ إلى مراقبة الأشياء وهي تتحول في الضوء، إلى الإصغاء للنسيم وكأنها تستمع إلى حديثٍ خفيٍّ بين الأرض والسماء.
درست في جامعة تايوان الوطنية للفنون، ونالت فيها درجة الماجستير في الرسم والخط عام 2015، وهناك بدأت رؤيتها تتبلور: الفن ليس مهنة بل نوعٌ من التأمل، والرسم ليس تسجيلًا للواقع بل إعادة ولادةٍ له.
تأثرت بالفلسفة الطاوية في نظرتها إلى الانسجام بين الأضداد، فكانت ترى أن اللون هو وسيلة توازن بين الكيان والكون، وأن الخط هو نبضٌ للعقل قبل أن يكون مسارًا للعين.
قدّمت وو شانغ معارض فردية أصبحت علامات في تجربتها الفنية؛ أبرزها معرض «البحر المائل» (2018)، الذي عالج العلاقة بين الإنسان والماء كمرآةٍ للزمن، ومعرض «نسيج المسافة» (2014)، الذي تناول فكرة الذاكرة كنسيجٍ غير مرئي يتقاطع فيه الحضور بالغياب. كما شاركت في معارض جماعية مهمة مثل «من الخلفية إلى المقدّمة: تحولات المناظر الطبيعية» عام 2016، الذي بحث في تطور النظرة إلى الطبيعة في الفن التايواني، ومعرض «السنوي التايواني للفنون» عام 2017، الذي يجمع أبرز الأصوات التشكيلية في الجزيرة.
نالت خلال مسيرتها جائزة تشين جين للفنون الشرقية عام 2010 عن أعمالها في الغواش والخط الصيني، تلتها جائزة دا دون الكبرى للفنون تقديرًا لرؤيتها التي تمزج بين الحس المحلي والروح الكونية. غير أنها لم ترَ في الجوائز تتويجًا بل مسؤولية؛ إذ كانت تقول:
«الفن لا يُكرّم، بل يُتذكّر، لأنه يذكّر الإنسان بما نسيه من ذاته.»
وو شانغ اليوم تعدّ من أبرز الوجوه النسائية في الفن التايواني الحديث، إذ استطاعت أن تجمع بين التجريب الحديث والروح الشعبية، وأن تحوّل المشهد الريفي إلى رمزٍ فلسفيٍّ للوجود.
⸻
ميلاد اللوحة: الأرض الأم كمرآة الخلق والهوية
في عام 2025، قدّمت وو شانغ في الموسم الفني لمدينة ييلان لوحتها الكبرى «الأرض الأم – مصدر لانغيان»، التي عُدت تتويجًا لمسيرتها الفنية. لم تكن اللوحة مجرد مشهدٍ طبيعي، بل رؤية تأملية للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، بين الأم والأرض.
في مقدمة المشهد، تجلس امرأة بعباءةٍ زرقاء داكنة، كأنها ليلٌ يحرس الحياة. تنحني برقة نحو أطفالٍ تحيط بهم النباتات الندية، فيما يمتد خلفها أفقٌ أخضر تملؤه الحقول والمياه، وتتعانق فيه الشمس مع البحر في وهجٍ ذهبيٍّ دافئ.
كل شيء في اللوحة يتحرك بهدوء: الضوء، العشب، الأفق، وحتى الهواء الذي يملأ الفراغات بالسكينة.
تحولت الأم إلى رمز للأرض التايوانية ذاتها، إلى كيانٍ كونيٍّ يمنح دون أن يطلب، ويحتضن دون أن يُفصح.
إنها ليست امرأة فحسب، بل صورةٌ للخصب الأبدي، وللقوة الصامتة التي تبني العالم من دون أن تتكلم.
استلهمت الفنانة هذا العمل من حكايات ييلان القديمة، ومن ذاكرة النساء اللواتي كنّ يحرسن الزرع بينما يبحر الرجال في الصيد. ومن هنا جاء توازنها بين الحضور الأنثوي في المقدمة والحركة الذكورية في الخلفية؛ بين من يزرع ومن يرحل، بين الجذر والرحلة.
⸻
في رمزية اللون والضوء: من السطح إلى الجوهر
تبدو لوحة «الأرض الأم» كأنها قصيدة ضوءٍ تُكتب بالريشة.
اللون الأزرق الغامق يهيمن على المشهد كبحرٍ روحيٍّ يمنح التوازن والسكينة، بينما ينساب الأخضر من حوله في تدرجاتٍ دقيقة من النور إلى الظل، كأنه يروي مراحل الحياة من الولادة إلى النضج.
أما الذهبي، فيكاد يُسمع صداه قبل أن يُرى، إذ يحلّ في الأفق كالرجاء، وكأن الشمس لا تغرب بل تتجدد في لحظة الخلود.
لا يأتي الضوء من الخارج، بل ينبع من داخل الشخصيات والأشياء، مما يضفي على اللوحة مسحةً روحيةً تجعلها أقرب إلى الأيقونات الشرقية القديمة.
في هذا السياق، يتجاوز العمل حدوده الجمالية ليصبح تجربة تأملية: فالمشاهد لا يكتفي بالنظر، بل يشعر وكأنه يُستدعى إلى المشاركة في هذا الهدوء الكوني.
⸻
البعد الأدبي والميثولوجي: اللوحة كنصٍّ شعريٍّ للخلق
من الناحية الأدبية، تُقرأ «الأرض الأم» كحكاية ميثولوجية جديدة تعيد سرد قصة الخلق في سياق تايواني.
تستحضر وو شانغ الأسطورة الشرقية القديمة عن الإلهة «نو وا» التي خلقت البشر من الطين، لكنها تُعيد صياغتها بروحٍ محلية، تجعل الأم في اللوحة إلهة الأرض ولانغيان معًا؛ تجمع في أحضانها الأطفال كما تجمع السهول الأنهار والجبال.
الرموز الصغيرة – كسلال الأرز والمحار والطيور البيضاء – ليست تفاصيل زخرفية، بل مفاتيح سردية تفتح أبواب المعنى.
المحار، في صلابته، يرمز إلى الثروة التي تولد من العناء، والأرز رمزٌ للوفرة والرزق، بينما الأطفال هم النبتات الأولى للأمل.
حتى الأفق الواسع ليس مجرد خلفية، بل زمنٌ مفتوح، يمتدّ من الماضي نحو المستقبل، كما لو أن اللوحة تُعيد كتابة الذاكرة بلغة الضوء.
⸻
المرأة كصوت الأرض ومقاومتها الصامتة
في البعد الاجتماعي، تُبرز وو شانغ المرأة كقلب التاريخ التايواني، بوصفها الحارسة الأولى للأرض والذاكرة.
فالرجال في الخلفية يرمزون إلى الفعل الخارجي، بينما الأم تمثل الجوهر الداخلي الذي يحفظ التوازن.
هنا يصبح الحنان فعلًا من أفعال القوة، والصمت شكلًا من أشكال المقاومة.
بهذا المعنى، تتجاوز اللوحة حدود الجمال إلى حدود الرسالة، إذ تذكّر بأن الأرض — مثل الأم — لا تصرخ حين تُنهك، بل تثمر.
ومن خلال هذه الثنائية، تخلق الفنانة قراءة نسوية راقية تُعيد الاعتبار للأدوار غير المرئية في بناء المجتمعات الريفية.
يبدو هذا الطرح امتدادًا للحركات الفنية النسوية في تايوان، لكنه عند وو شانغ يتخذ بعدًا روحيًا لا سياسيًا؛ فهي لا تطالب بالمساواة الصاخبة، بل بالتوازن الهادئ الذي يمنح الكون انسجامه الأبدي.
⸻
الرؤية النقدية: الشعرية كقوة بديلة
نقديًا، تمثل وو شانغ أحد الأصوات التي تجمع بين الانضباط الشرقي والتجريب الغربي.
فهي لا تتبع المدرسة الواقعية ولا التعبيرية تمامًا، بل تستعير منهما ما يخدم رؤيتها التأملية.
قوتها تكمن في قدرتها على إثارة العاطفة من دون دراما، وعلى إشعال الفكر من دون صدام.
يصفها النقاد بأنها “رسّامة الصمت”، لأن أعمالها تحوّل الفراغ إلى لغة.
أما لوحة «الأرض الأم» فهي ذروة هذه اللغة، إذ تجمع بين الرمز والصدق، بين الجمال والفكرة، بين الحسّ والوعي.
قد يُؤخذ عليها ميلها إلى الرومانسية البصرية التي تُجمّل الواقع، غير أن هذا الميل هو ما يمنحها طابعها الإنساني المتفرّد.
فهي لا تحتج على العالم، بل تواسيه بالألوان، ولا تهاجم الفوضى، بل تحاول تذكيرها بصفاء الأصل.
⸻
الأرض كأمٍّ كونية والمرأة كذاكرة الخلق
في النهاية، تظلّ لوحة «الأرض الأم» أكثر من عملٍ تشكيلي؛ إنها بيان بصريٌّ عن قداسة الحياة واستمراريتها، وصلاة لونية تستعيد وحدة الإنسان بالطبيعة.
من خلال هذه اللوحة، تُعلن وو شانغ أن الفن ليس وسيلة تزيين للعالم، بل وسيلة لفهمه.
تُذكّرنا بأن الأرض، مثل الأم، تمنح الحياة ثم تمضي بصمت، وأن الجمال الحقيقي لا يُصنع في المعارض بل في العلاقة بين القلب والتراب.
وو شانغ ليست مجرد فنانة، بل شاعرة الضوء والطين، وريشتها نافذة تفتح على سرّ الوجود.
وبين الأزرق والذهبي، بين الطفل والسنابل، يظلّ نداءها الإنساني واحدًا:
احفظوا الأرض، لأنها وجه الأم الأخير، وصوتها الأول.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟