أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8489 - 2025 / 10 / 8 - 16:13
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في زمنٍ تفيض فيه الشاشات بالضوء المزيّف وتُخنق الحقيقة بضجيج الخطابات، لم يعد تغييب الوعي فعلًا قسريًّا من سلطةٍ فوقية، بل صار صناعةً متقنة تمارسها مؤسسات وأجهزة ومعارف تملك مهارة تشكيل الإدراك الجمعي، لا عبر الكذب المباشر، بل عبر إغراق الإنسان في طوفانٍ من “الحقائق” المتناثرة. هكذا أضحى الإنسان الذي كان مركز المعرفة موضوعًا لها، والمواطن الذي كان يناقش ويختار مجرّد متلقٍّ سلبي في سوقٍ من الآراء المعلّبة.
لقد باتت المعرفة الحديثة تسرع في إنتاج المعلومة، لكنها تتباطأ في إنتاج المعنى.
صار كل شيء معلومًا، ولا شيء مفهومًا. تتدفّق الأخبار كما تتدفّق الإعلانات، فيتحوّل الفهم إلى رد فعل، والنقد إلى انفعال. هنا يولد ما يمكن تسميته بـ“الوعي المغيّب” — ذلك الوعي الذي يظن أنه يعرف، بينما هو يُقاد من حيث لا يدري. ولعل أخطر ما فيه أنه يُنتج طواعيةً، لا قهرًا.
بين هيمنة الصورة واغتراب الكلمة
ليس الوعي المغيّب نتاج الجهل، بل نتاج المعرفة الموجّهة. فالجهل قد يوقظ فضولًا، أما المعرفة التي تُقدَّم في قوالب مغلقة فتُخدّر العقل وتُعطّل السؤال. في عالمٍ تحكمه وسائل الإعلام ومنصّات التواصل، أصبحت اللغة أداةَ سلطةٍ أكثر من كونها وسيلةَ فهم. فالكلمة التي كانت تُنير صارت تُبرمج، والجدال الذي كان يُثري صار يُستهلك.
هنا تبرز أهمية الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (Jürgen Habermas)، الذي كرّس عمره الطويل للدفاع عن اللغة كفضاءٍ للتحرر لا كأداةٍ للهيمنة، وعن العقل التواصلي كجوهرٍ لإنسانيةٍ لم تفقد قدرتها بعد على الإصغاء.
من الطفولة المعزولة إلى الفلسفة النقدية
وُلد هابرماس في الثامن عشر من يونيو عام 1929 في مدينة دوسلدورف الألمانية، ونشأ في بلدة غومرسباخ (Gummersbach) حيث كان والده موظفًا إداريًا في غرفة التجارة والصناعة. وُلد بعيبٍ خَلقيٍّ في الحنك، أُجريت له عمليتان جراحيتان في طفولته، فخلّفتا أثرًا في نطقه وجعلتاه خجولًا ومنعزلًا. لكنه سيعترف لاحقًا أن هذا العيب منحه “وعيًا مبكرًا بأنّ التواصل ليس أمرًا طبيعيًا بل مسؤولية إنسانية”.
انتمى والده إلى جيلٍ ألماني شهد صعود النازية وانهار معه، وكان من “المتعاطفين السلبيين” مع النظام، وهو ما جعل الابن المراهق في نهاية الحرب يعيش الصدمة الوجودية الكبرى لعام 1945 حين اكتشف ما ارتكبته بلاده باسم “العقل والواجب”. تلك التجربة كانت المنطلق الحقيقي لفلسفته النقدية التي سعت إلى مصالحة ألمانيا — والعالم — مع العقل، ولكن العقل الأخلاقي المتحاور لا العقل الأداتي المبرِّر.
من بون إلى فرانكفورت… ميلاد الفيلسوف النقدي
درس هابرماس الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع في جامعات بون وغوتنغن وزيورخ، ثم أصبح في منتصف الخمسينيات مساعدًا في “معهد البحوث الاجتماعية” بفرانكفورت، وهو البيت الفكري لـ مدرسة فرانكفورت النقدية التي ضمّت ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو. غير أنه سرعان ما اختلف مع أساتذته الكبار، إذ رأى في تشاؤمهم من الحداثة نوعًا من الانسحاب من الفعل. بينما هو كان يرى أن العقل، رغم انحرافاته، ما زال يملك القدرة على الإصلاح من الداخل.
عام 1962 أصدر كتابه الأول الكبير «التحول الهيكلي للمجال العام»، الذي حلّل فيه كيف وُلد الفضاء المدني البرجوازي في أوروبا، وكيف تحوّل من ساحة حوارٍ نقدي إلى مسرحٍ تجاري تحكمه الشركات والإعلانات. ثم في عام 1968 نشر «المعرفة والمصالح البشرية»، حيث كشف أن كل معرفة بشرية مرتبطة بمصلحة: تقنية أو عملية أو تحررية. لكن إنجازه الأكبر جاء عام 1981 مع مؤلفه الضخم «نظرية العمل التواصلي»، الذي أعاد فيه تعريف الفعل الإنساني باعتباره حوارًا لا صراعًا.
هابرماس وديوي… الكلمة بوصفها ضمير الأمة
حين كتب هنري ستيل كوماجر عن الفيلسوف الأمريكي جون ديوي أنه “حتى يتحدث البروفيسور ديوي، لا تعرف أمريكا ما تفكر فيه”، لم يكن يتوقع أن يظهر بعد جيلين في ألمانيا من يشبهه في الدور والرسالة. فقد أصبح هابرماس في بلاده ضميرًا فلسفيًا عامًا، وصوتًا يتجاوز حدود الأكاديمية إلى المجال السياسي والإعلامي.
فهو ليس منظّرًا منعزلًا، بل شاهدًا فاعلًا في الحياة العامة. شارك في نقاشات كبرى حول الديمقراطية الأوروبية، ودافع عن التوحيد الألماني بحذر، ووقف في وجه القومية الجديدة، وانتقد بشجاعة كذب السلطة أحيانًا حتى وهو قريب منها.
يشبه ديوي في إيمانه بأن الفيلسوف ليس كاهنًا للحقيقة، بل مشارك في بنائها، وأن التفكير الفلسفي لا يُمارس في الصوامع بل في الساحات. ومع ذلك، فإنّ خلفيته الألمانية التي عايشت الاستبداد جعلت وعيه أكثر حذرًا ومسؤوليته أكثر ثقلاً. كان يرى أن الحرية ليست نداءً بل التزام متبادل، وأن الديمقراطية ليست صندوق اقتراع بل أسلوب تواصلي للحياة.
المثقف في مواجهة السلطة
لم يكن هابرماس صديقًا للأنظمة، ولا عدوًّا معلنًا لها، بل كان دائم الوقوف على الحدّ الفاصل بين الضمير والواقع. وقف ضد محاولات تبرير النازية بالمقارنة مع الستالينية في ما عُرف بـ“نزاع المؤرخين” في الثمانينيات، ودافع عن ضرورة مواجهة الماضي بشجاعة. لكنه أيضًا أيّد أحيانًا تدخلات إنسانية مثيرة للجدل، مثل حرب كوسوفو عام 1999، باعتبارها دفاعًا عن حقوق الإنسان، وهو ما عرّضه لانتقاداتٍ من اليسار.
كان يعتبر أن الأخلاق لا تُختزل في الأيديولوجيا، وأن المثقف الحرّ لا يقيس مواقفه بمزاج الجمهور بل بميزان العقل العمومي.
ورغم صرامته الفكرية، لم يكن هابرماس متعالياً؛ كان يرى أن “اللغة اليومية” — تلك التي يتحدث بها الناس في المقاهي والمنازل — تحمل في طياتها قدرةً على إنتاج الحقيقة أكثر من الخطب السياسية. فالحوار عنده ليس وسيلة لإقناع الآخر، بل رحلة مشتركة نحو الفهم.
الكلمة بين الهيمنة والتحرر
إنّ جوهر مشروع هابرماس هو إعادة تعريف العقل بوصفه تواصلاً. فالفعل التواصلي عنده يقف في مقابل “العقل الأداتي” الذي يسعى إلى السيطرة والنجاح.
في المجتمع الحديث، كما يقول، صارت أنظمة المال والإدارة تُهيمن على حياة الأفراد حتى في لغتهم، فتحوّل الحديث عن العدالة إلى معادلات اقتصادية، والحرية إلى مؤشراتٍ استهلاكية.
لكنّ العقل التواصلي — القائم على الصدق والإصغاء — وحده القادر على استعادة إنسانية الإنسان من هيمنة المنظومة التقنية.
لقد كانت تجربته الشخصية مع عيب النطق رمزًا لهذه الفكرة العميقة: فالتواصل الحقيقي لا يتحقق بالصوت، بل بنية الإصغاء. وربما لهذا ظلّ يؤمن أن “اللغة بيت الكينونة”، وأن من يُخرس صوت الآخر يخرّب أساس الوجود المشترك.
من النقد الاجتماعي إلى الأخلاق التداولية
في التسعينيات، ومع تغير العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، انتقل هابرماس إلى مستوى أعمق من التفكير في الديمقراطية نفسها.
في كتابه «الحقائق والمشروعية» (1992)، أسّس لما يُعرف اليوم بـ“الأخلاق التداولية”، حيث اعتبر أن شرعية القوانين لا تأتي من السلطة، بل من المشاركة المتكافئة في صياغتها. إنها فلسفة تحوّل النقاش إلى سلطة أخلاقية لا تقل وزنًا عن سلطة الدولة.
كما كتب عن دور الدين في المجال العام، داعيًا إلى “ترجمة” القيم الدينية إلى لغةٍ مدنية تسمح بتعايش المؤمنين وغير المؤمنين داخل الفضاء الديمقراطي الواحد. لم يكن ضد الإيمان، بل ضد احتكاره. وهكذا استعاد بعد عقودٍ من العلمانية المتصلبة فكرة أن الإيمان يمكن أن يسهم في النقاش العام ما دام لا يدّعي امتلاك الحقيقة النهائية.
هابرماس الحاضر… صوت العاقل في زمن الفوضى
في عامه السادس والتسعين، ما زال يورغن هابرماس حيًّا، حاضرًا بذكائه الهادئ في النقاش الأوروبي حول الحرية والمواطنة والديمقراطية. حصل على جائزة السلام الألمانية عام 2001، وجائزة كيوتو العالمية عام 2004، إلى جانب عشرات الجوائز الفكرية والجامعية.
ورغم اعتزاله الرسمي التدريس في جامعة فرانكفورت منذ التسعينيات، إلا أن حضوره في الفكر المعاصر لم يتراجع، بل ازداد عمقًا كلما انحدر الخطاب العام نحو التفاهة.
ولعلّ فقدانه لابنته ريبيكا هابرماس، المؤرخة اللامعة التي توفيت في ديسمبر 2023، أعاد إلى فلسفته طابعها الإنساني الدافئ، حين كتب لاحقًا عن “الأثر الصامت الذي يتركه الغياب في اللغة”.
بين الوعي المغيّب والوعي المحرّر
في عالمٍ يغمره فائض من المعرفة السطحية، تبدو دعوة هابرماس أكثر إلحاحًا من أي وقتٍ مضى: أن نعيد للّغة وظيفتها الإنسانية، وأن نحمي الحوار من التحوّل إلى ضجيج. فصناعة الوعي المغيّب لا تحتاج إلى طغاة، بل إلى جمهورٍ ينسى كيف يصغي.
إنّ التحرر الحقيقي يبدأ حين نستعيد وعينا بالكلمة، لا بوصفها أداةً للخطابة بل وسيلةً للفهم، ولا بوصفها سلاحًا بل جسرًا.
إنّ مأساة عصرنا ليست في نقص المعلومات، بل في وفرتها التي تقتل التأمل، وفي يقينٍ مفرطٍ يجعل الإنسان مطمئنًا إلى ما لا يعرف.
ولذلك فإن مقاومة الوعي المغيّب لا تكون بالصراخ ولا بالثورة، بل بالقدرة على طرح الأسئلة الصحيحة، وبالعودة إلى ما دعا إليه هابرماس: الفعل التواصلي، حيث يُبنى المعنى بالاشتراك لا بالإملاء.
خاتمة مفتوحة
من فرانكفورت إلى العالم، من مقاعد الجامعات إلى ساحات السياسة، ظلّ هابرماس يذكّرنا بأن الكلمة يمكن أن تكون أكثر عدلًا من السيف، وأن الصمت ليس دائمًا حيادًا، بل أحيانًا شكلًا من أشكال المشاركة في الخداع.
إنّ الفلسفة التي عاشها — لا التي كتبها فقط — تُعيد إلى الفكر مكانته الأخلاقية في زمنٍ اختلط فيه الذكاء بالحيلة.
وفي وجه صناعة الوعي المغيّب، تبقى رسالته حيّة:
أن نتكلم بصدق، أن نصغي بإنصاف، وأن نؤمن بأن الحوار لا يُهزم ما دام الإنسان قادرًا على النطق بالحقيقة.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟