أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - القرد أولى بلحم غزاله















المزيد.....

القرد أولى بلحم غزاله


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8499 - 2025 / 10 / 18 - 11:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في الغابات الرطبة الممتدة بين سيراليون والكونغو، حيث تتبادل الأشجار الأحاديث عبر ضباب الفجر، وحيث لكل مخلوقٍ حكايةٌ مكتوبةٌ على ظلّه، نشهد واحدةً من أكثر العلاقات الحيوانية غرابةً وإلهامًا — التعاون بين قرود البابون وغزلان المها والكودو والإيمبالا.
مشهدٌ يبدو في ظاهره تناغمًا بيئيًا بديعًا: القرد يراقب من فوق، والغزال يصغي من تحت، وكلاهما يحمي الآخر من الفهد المتربص خلف العشب الطويل.
لكن يا للمفارقة — كل حكايةٍ عن التعاون تخفي في داخلها نيةً مؤجلة، مثل ثمرةٍ تعد بالحلاوة قبل أن تكشف عن طعم المرارة.



الغابة التي تتقن الخداع

حين يلوّح الفهد بذيله استعدادًا للهجوم، تقف الغزلان على حافة القلق. آذانها تلتقط الخطر قبل أن تراه، بينما تصرخ القرود في أعالي الأشجار تحذيرًا للجميع. تبدو الصورة كأنها لوحةٌ لعدالة الطبيعة: كل كائنٍ يؤدي دوره في سيمفونية النجاة.
غير أن شيئًا آخر يحدث في الكواليس، شيءٌ لا تلتقطه عدسات علماء الأحياء — إذ سرعان ما تتحول هذه الكوميديا التكافلية إلى تراجيديا خيانة.

فحين يبدأ الفهد بالانقضاض، تبدأ القرود بمطاردته. مشهدٌ يبدو في غاية النبل، كما لو أن القرد قرر أن يثأر للغزال، أن يقف ضد الافتراس.
لكن الحقيقة أكثر سوداوية: القرود لا تطارد الفهد لإنقاذ الغزال، بل لتُبعد الفهد عن الوليمة حتى تنالها هي.
كأنها تقول في لغتها الصارخة: “القرد أولى بلحم غزاله.”



الأخلاق في الغابة… والمدينة

هذا المشهد ليس عن الغابة فقط، بل عنّا نحن أيضًا. كم مرةً سمعنا عن فهدٍ سياسيٍّ يطارد غزالًا بريئًا في ساحة السلطة، فتظهر القرود الصحفية أو الفكرية أو الأخلاقية، تصرخ وتملأ الأشجار بالضجيج، ثم ما تلبث أن تركض خلف الفهد — لا لتمنعه من الفتك، بل لتطرده حتى تنفرد هي بالغزال!

القرد هنا هو الإنسان حين يتقن تمثيل دور الضحية وهو يتهيأ للانقضاض.
في المدن الحديثة، الغزلان تمشي على قدمين وتضع بدلاتٍ رسمية، والفهود تبتسم في نشرات الأخبار وتوقّع اتفاقيات السلام بأظافر مصقولة.
أما القرود، فهي أكثر ذكاءً مما كنا نتصور — إنها من تحرّك المشهد كله باسم “الوعي” و”الحرية” و”التحالف”.

وتمامًا كما في الغابة، يتبادل الجميع التحذيرات من المفترس، لكن لا أحد يصرّح بأنه هو الآخر المفترس المنتظر.



فلسفة التعاون الماكر

ما نسميه “تعاونًا” هو في جوهره صفقة خوفٍ مؤقتة.
الغزال يعلم أن القرد لا يحبه حقًا، لكنه بحاجةٍ إليه ليكتشف الفهد قبل فوات الأوان.
والقرد يعرف أن الغزال لا يثق به، لكنه يستفيد من عيون الغابة السفلى كي لا يُؤخذ على حين غرّة.
إنها علاقة لا تقوم على الحب، بل على هندسةٍ دقيقةٍ من المصلحة المتبادلة — أشبه بتحالفات الأمم، أو شراكات السوق، أو صداقات البشر الذين يتبادلون الحماية كي لا يسقطوا وحدهم.

التاريخ كله يمكن تلخيصه بهذه المعادلة الحيوانية:

“الغزال يسمع، القرد يرى، والفهد ينتظر حتى ينسى كلاهما دوره.”

لكن في لحظةٍ واحدة، حين يختل توازن الغابة، يصبح التعاون نفسه أداةً للغدر.
فالقرد الذي كان يصرخ تحذيرًا، سيصرخ هذه المرة طمعًا، والغزال الذي كان يهرب من الفهد، سيهرب الآن من القرد.
أما الفهد، فسيقف حائرًا، يتساءل: من المفترس هنا فعلًا؟



مجاز الغابة الكبرى

نعيش اليوم في “غابة الإنسان الحديث” — غابة لا تقل كثافةً عن أدغال الكونغو، لكنها مغطاة بالإعلانات والهاشتاغات بدل الأوراق.
فيها فهودٌ ترتدي ربطات عنق، وغزلانٌ تمارس النعومة حتى الموت، وقرودٌ تمتهن الخطابة والادّعاء.

التحالفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي نراها كل يوم ليست سوى نسخة بشرية من التعاون بين القرد والغزال.
الكل يتحدث عن العدالة والتكافل، لكن حين تقترب رائحة الدم، ينكشف كل شيء.

أحدهم يتظاهر بأنه يحارب الفهد لأنه “يهدد المجتمع”، لكنه في الحقيقة يريد فقط أن يملأ معدته من لحم الغزال.
وآخر يتظاهر بأنه غزالٌ مسالم، بينما يخبّئ في صدره نيةً لافتراسٍ مؤجلٍ حين تتبدل الظروف.

في النهاية، كل كائنٍ في الغابة الحديثة يبرر جوعه بطريقةٍ فلسفية:
الفهد يقول إنه يقتل ليتوازن النظام الطبيعي،
والقرد يقول إنه يخون ليتعلم البقاء،
والغزال يقول إنه يهرب لأن العالم قاسٍ.
وهكذا تتحول الأخلاق إلى غابةٍ من التبريرات، لا ظلّ فيها إلا لمن يختبئ جيدًا.



عندما يصير الغزال مفكرًا

تخيلوا غزالًا يقرر أن يكتب مذكراته.
سيقول فيها: “لقد وثقت بالقرد لأنه حذرني من الفهد، ولم أدرِ أنه كان يحذر الفهد مني.”
في هذه الجملة القصيرة تكمن مأساة الوعي.
فالغزال الذي بدأ يفكر صار أخطر من الفهد، لأنه صار قادرًا على اكتشاف المعنى المقلوب في العلاقة.
وربما لهذا السبب لا يريد القرد أن يفكر الغزال كثيرًا.
يريد منه أن يظل غزالًا: قافزًا، خائفًا، ممتنًا، لا يسأل كثيرًا عمّن يصرخ فوق الشجرة ولماذا.



النهاية التي لا تنتهي

حين تهدأ الغابة بعد العاصفة، وتختفي آثار الدم، يجلس القرد على غصنٍ عالٍ يمسح فمه ويتأمل الغروب، بينما الفهد يلعق جراحه، والغزال الذي نجا يظن أنه تعلم درسًا.
لكن الغابة تعرف — وتضحك بصمتها الأخضر — لأن المشهد سيتكرر غدًا، بنفس التفاصيل، وبنفس الأصوات، وبنفس الأكاذيب.
ذلك لأن “التعاون” في جوهره ليس سوى هدنة بين أنيابٍ لم تجد بعد فرصةً لتغرز نفسها في اللحم المناسب.



القرد أولى بلحم غزاله

من سيراليون إلى قاعات البرلمانات، ومن أشجار الكونغو إلى مكاتب الأبراج الزجاجية، يظل القرد أولى بلحم غزاله.
ليس لأن الغزال طيب، ولا لأن القرد شرير، بل لأن قانون الغابة لا يعرف الفرق بين الخداع والذكاء، بين النجاة والنهب، بين الشراكة والاستحواذ.

———-

في النهاية، الغابة — مثل الحياة — لا تُدار بالغريزة وحدها، بل بالوهم.
كل مخلوقٍ يظن نفسه ناجيًا، بينما يُعدّ طبقًا لوليمةٍ أكبر منه.
وربما لهذا، حين يضحك القرد في نهاية المشهد، لا يدرك أنه هو أيضًا على قائمة الطعام — فهناك ثعبانٌ في شجرةٍ أعلى، يراقب بصمتٍ بارد، ينتظر أن يلتهم الحكمة نفسها.
فالقرد أولى بلحم غزاله… لكن الثعبان، كعادته، أولى بلحم القرد.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كاميل كلوديل… حين نَحَتَتِ العزلةُ وجهَ العشق
- في حضرة عبث الحنين .. حكاية الحاجّ نبيل وأشباح سبورتنج
- القراءة بين سيف أرطغرل الصارم ومقص زكي الحلاق الفاهم
- ومضات من حياة لازلو كرازناهوركاي: رسول الخراب الجميل
- حقيبة الملابس .. من مذكّرات الكاتب التركي عزيز نيسين
- الصراع على نوبل للسلام 2025: ترامب مقابل ثونبرغ.. من يستحق ل ...
- إنهم يصطادون طرابيش الصغار .. عندما طار طربوشي من فوق رأسي
- الأرض الأم: ومضات من حياة الفنانة وو شانغ وتحليل رمزية الخلق ...
- صناعة الوعي المغيّب… من نقد المعرفة إلى فلسفة الكلمة عند هاب ...
- حين يُدار العمل بعُقدة النقص: كيف تُنتج الإدارات غير المؤهلة ...
- الأمراض في البحرين والطب الشعبي: رحلة الشفاء عبر العصور من د ...
- ومضات من حياة زهرة اليابان: الشاعرة أكيكو يوسانو
- ومضاتٌ من حياة “جحا التركي” عزيز نيسين: أيقونة الأدب التركي ...
- الذئب الذي صار إنسانًا… والإنسان الذي صار ذئبًا
- أدوات وآليات التأثير بين الفن والسلطة: كيف نصنع أثرًا يبني و ...
- الكلام مهارة والإصغاء فن: بين الفهم والرد
- الفيل القابع في الحفرة بين الأزرق والأحمر
- التهذيب مرآة الحضارة عبر ثقافات الأمم.
- ومضات من فن الرسام البحريني علي الموسوي
- قواعد التوفيق الخمسة عشر: طريقك نحو التميز والتفوق


المزيد.....




- سحب عملاقة وفيضانات مدمرة واضطرابات اجتماعية.. صور تُظهر مست ...
- موقفنا من تعديلات قانون الإجراءات الجنائية
- حماس تعيد جثة رهينة عبر الصليب الأحمر، والجنائية الدولية ترف ...
- رجلان أوكرانيان ينفيان التورط في مؤامرة لإشعال حرائق استهدفت ...
- إيران تؤكد أنها لم تعد ملزمة بـ-القيود- المرتبطة ببرنامجها ا ...
- زيلينسكي يفشل في إقناع واشنطن بتسليم بلاده صواريخ توماهوك
- محادثات بين أفغانستان وباكستان في قطر سعيا لاحتواء التوتر
- حكومة طالبان تشارك في محادثات مع باكستان في قطر بعد اشتباكات ...
- عودة الحياة تدريجيا إلى قطاع غزة ودعوات لـ-إغراقه بالغذاء-
- ترامب يخفف عقوبة نائب جمهوري سابق مدان بالفساد


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - القرد أولى بلحم غزاله