أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - القمامة والقدر: رحلة (كاري) من سلة المهملات إلى عرش الرعب















المزيد.....

القمامة والقدر: رحلة (كاري) من سلة المهملات إلى عرش الرعب


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8503 - 2025 / 10 / 22 - 18:45
المحور: الادب والفن
    


«ليست كل القمامة نهاية، فبعضها بدايةٌ تتنكّر في ثياب الخسارة.»

في زاويةٍ مظلمةٍ من منزلٍ متواضعٍ في ولاية (ماين) الأمريكية، حيث يلتقي البرد القارس بالأحلام المتجمدة، يقف صندوق قمامة كشاهدٍ صامتٍ على أحد أعظم دروس الفلسفة الوجودية: أن اليأس ليس نهاية، بل استراحة مؤقتة قبل أن يتدخل القدر — أو، في هذه الحالة، زوجة عنيدة لا تؤمن بالهزائم. تخيّلوا معي، أيها النبلاء، ذلك المكان الذي يُدعى «القمامة»، ليس مجرد حاويةٍ بلاستيكيةٍ مليئةٍ ببقايا الطعام والأوراق الممزقة، بل رمزًا فلسفيًا للعدمية. هناك، في أعماقها، رمى (ستيفن كينغ) — ذلك الكاتب الفقير اليائس — روايته الأولى. كانت تلك الرواية تُدعى «كاري»، واسم الزوجة التي انتشلتها من براثن النسيان هو (تابيثا كينغ) — أو «تابي» كما يناديها — وتم نشرها في الخامس من أبريل عام 1974. لكنها ليست مجرد واقعةٍ أدبية؛ إنها حكاية تتجاوز الزمان والمكان، تفيض بالسخرية الكونية والتأملات الفلسفية حول كيف يمكن لقطعةٍ من القمامة أن تتحول إلى إمبراطوريةٍ أدبية تجاوزت مبيعاتها ثلاثمئة وخمسين مليون نسخة حول العالم.

دعونا نعود إلى الزمان: السبعينيات المبكرة، عصرٌ يبدو اليوم كحلمٍ غريبٍ مليءٍ بالشَّعر الطويل، والسيارات العريضة، والرعب الذي ينبعث من الداخل لا من الخارج. كان عام 1973 تحديدًا، حين كان العالم يتعافى من صدمات (فيتنام)، و(نيكسون) يغرق في فضائح (ووترغيت)، والنفط يتدفق بغزارة قبل أزمة 1973 التي جعلت الجميع يعيش في توترٍ يشبه لعبة الروليت الروسية — تلك اللعبة القاتلة التي يُدخل فيها اللاعب رصاصة واحدة في المسدس، يدير الأسطوانة، ثم يضغط على الزناد مخاطِرًا بحياته في كل مرة. في ذلك الزمن، كان (ستيفن كينغ) يعيش في مقطورةٍ صغيرةٍ في مدينة (هيرمان) بولاية (ماين) — مكانٍ يشبه لوحةً فنية لـ(إدوار هوبر)، تملؤه العزلة والصمت الذي يصرخ. (ماين)، تلك الولاية الشمالية الشرقية، حيث الغابات الكثيفة تبتلع الأسرار، والشتاء يستمر تسعة أشهر، كانت المكان المثالي لولادة رواية رعب. تخيّلوا: منزلٌ متنقل، جدرانٌ رقيقة تتسلل منها الرياح الباردة، و(كينغ) يجلس أمام آلةٍ كاتبةٍ قديمة يحاول أن يخلق عالمًا من الرعب بينما يعيش رعب الحياة اليومية. كان الفقر رفيقه الدائم؛ يعمل معلمًا في مدرسةٍ ثانوية، يتقاضى 6400 دولار سنويًا، ويحاول إعالة عائلته الصغيرة. سخرية القدر هنا أن الرجل الذي سيُعرف لاحقًا بـ«ملك الرعب» كان يخاف من فواتير الكهرباء أكثر مما يخاف من أشباحه الخيالية.

في ذلك المكان الضيق، الذي يشبه زنزانةً فلسفيةً لـ(سارتر) — حيث «الجحيم هو الآخرون»، لكن الجحيم الحقيقي هو الشك الذاتي — بدأ (كينغ) يكتب «كاري». كانت القصة مستوحاةً من فتياتٍ حقيقيات قابلهن في المدرسة: إحداهن تعرضت للسخرية بسبب دورتها الشهرية المفاجئة، وأخرى انتحرت. لكنه، بعد ثلاث صفحات فقط، شعر باليأس. «هذا هراء»، قال لنفسه، وألقى الأوراق في القمامة. آه، القمامة! ذلك المكان الفلسفي العظيم، حيث تذهب الأحلام الميتة لتموت مرة أخرى. في فلسفة (نيتشه)، القمامة تمثل «الإنسان الأخير» الذي يستسلم، لكن في قصة (كينغ) كانت بوابةً للقيامة. دخلت (تابيثا)، زوجته ذات الشعر الأحمر وإيمانٍ يشبه الصخر، فرأت الأوراق المتجعدة. لم تكن مجرد زوجة؛ كانت فيلسوفة عملية تؤمن أن القدر ليس مصادفةً بل اختيار. انتشلت الصفحات، مسحت عنها بقايا القهوة أو ربما فتات الخبز، وقالت له: «استمر، هناك شيء هنا». سخرية الزمن أن في عصر كانت فيه النساء يقاتلن من أجل حقوق المرأة، كانت (تابيثا) تقاتل من أجل حق روايةٍ ميتة في الحياة.

الزمان هنا ليس خطًا مستقيمًا كما يقول (هيدغر)، بل دائرةٌ من الإمكانيات. في عام 1973، كان الزمان يبدو متجمدًا لـ(كينغ): أيامٌ تتكرر في روتينٍ قاتل، وليالٍ تفيض كتابةً بلا جدوى. لكن تدخل (تابيثا) جعل الزمان يتدفق نحو المستقبل. أكمل الرواية، وأرسلها إلى دار نشر (دابلداي) في نيويورك — تلك المدينة التي كانت حينها مزيجًا من الأحلام الكبيرة والفوضى الخلّاقة. نيويورك السبعينيات، مدينة الجريمة والانهيار المالي، لكنها أيضًا مهد الثقافة. هناك، في مكاتبٍ مزدحمةٍ بالدخان والأوراق، قرأ المحررون «كاري» وقرروا نشرها. تم النشر في ربيع عام 1974، العام نفسه الذي شهد استقالة (نيكسون) وصعود موجة الديسكو، والرعب الجماهيري لفيلم «الإكسورسيست» الذي صدر قبل عام. سخرية أخرى: الرواية التي بدأت في قمامة مقطورةٍ في (ماين) انتهت على رفوف المكتبات العالمية تُباع بملايين النسخ.

ولا يمكن إغفال المكان كعنصرٍ فلسفيٍّ في القصة. (ماين) ليست مجرد خلفيةٍ جغرافية، بل كيانٌ رمزيٌّ يتكرر في أغلب أعمال (كينغ) لاحقًا. إنها تمثل «اللامكان» في فلسفة (دولوز): فضاء يتغير تبعًا للنظرة. بالنسبة لـ(كينغ)، كانت (ماين) مكان الرعب اليومي — الغابات التي تخفي الأسرار، المدن الصغيرة التي يعرف فيها الجميع بعضهم، والقمامة التي تبتلع الأحلام. أما (تابيثا)، فرأت في المكان ذاته فضاءً للإمكانيات. وهنا يذكّرنا (كانط): الواقع ليس موضوعيًا، بل يُعاد تشكيله عبر الإدراك. (تابيثا) رأت في القمامة كنزًا، بينما رآها (كينغ) فشلًا. وهكذا، تحوّل المكان من سلة مهملاتٍ إلى منصةٍ لإطلاق إمبراطوريةٍ أدبية. اليوم، بعد أكثر من خمسين عامًا، يعيش (كينغ) في قصرٍ بمدينة (بانغور) في (ماين) ذاتها — المكان نفسه الذي تحوّل من منفى إلى مملكة. السخرية الفلسفية هنا أن الفقر الذي دفع بالرواية إلى القمامة هو نفسه الذي منحها معناها، لأن «كاري» تتحدث عن المهمشين وعن الفتاة التي فجّرت غضبها في عالمٍ قاسٍ.

أما الزمن الآن، في عام 2025، فيضحك منا جميعًا. تجاوزت مبيعات كتب (كينغ) ثلاثمئة وخمسين مليون نسخة، وتحولت «كاري» إلى أفلامٍ ومسلسلاتٍ وأيقونةٍ ثقافية. لكن التأمل الفلسفي يبقى حاضرًا: في عصرٍ ينتشر فيه اليأس كفيروسٍ عبر وسائل التواصل، نحتاج إلى «تابيثا» في حياتنا — شخصٍ يؤمن بقدراتنا إلى الحد الذي يجعله يفتش في قمامتنا العاطفية. سخرية الكون: كم من رواياتٍ عظيمةٍ رُميت اليوم في قمامةٍ رقمية، على أقراصٍ صلبة أو في مسودات البريد الإلكتروني؟ يتغير الزمان، لكن الدرس ثابت: اليأس مؤقت، والإيمان أبدي.

وفي النهاية، كم منا، أيها النبلاء، يحتاج إلى شجاعةٍ حمراءَ الشعر مثل (تابيثا) — تلك السيدة التي لم تتردد أن تمد يدها إلى القمامة لتنتشل منها حلمًا يحتضر. السيدة التي أنقذت يأس زوجها لأنها آمنت به، لا بما كتب. فالعالم لا يحتاج إلى مزيدٍ من العباقرة بقدر ما يحتاج إلى امرأةٍ تؤمن بأن بين القمامة والقدر مسافة لا يقطعها إلا الإيمان وبأن في القمامة ثمة أمل ما يستحق الحياة.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على ظهر امرأة: صورة واحدة تكشف ثقل التاريخ
- أندرو جاكسون: الطاغية الذي صنعته السياسة الأمريكية القديمة
- صناعة الجهل وتفكيكه: حين تتحوّل المعرفة إلى قناعٍ للحقيقة
- وسام الحمار
- القرد أولى بلحم غزاله
- كاميل كلوديل… حين نَحَتَتِ العزلةُ وجهَ العشق
- في حضرة عبث الحنين .. حكاية الحاجّ نبيل وأشباح سبورتنج
- القراءة بين سيف أرطغرل الصارم ومقص زكي الحلاق الفاهم
- ومضات من حياة لازلو كرازناهوركاي: رسول الخراب الجميل
- حقيبة الملابس .. من مذكّرات الكاتب التركي عزيز نيسين
- الصراع على نوبل للسلام 2025: ترامب مقابل ثونبرغ.. من يستحق ل ...
- إنهم يصطادون طرابيش الصغار .. عندما طار طربوشي من فوق رأسي
- الأرض الأم: ومضات من حياة الفنانة وو شانغ وتحليل رمزية الخلق ...
- صناعة الوعي المغيّب… من نقد المعرفة إلى فلسفة الكلمة عند هاب ...
- حين يُدار العمل بعُقدة النقص: كيف تُنتج الإدارات غير المؤهلة ...
- الأمراض في البحرين والطب الشعبي: رحلة الشفاء عبر العصور من د ...
- ومضات من حياة زهرة اليابان: الشاعرة أكيكو يوسانو
- ومضاتٌ من حياة “جحا التركي” عزيز نيسين: أيقونة الأدب التركي ...
- الذئب الذي صار إنسانًا… والإنسان الذي صار ذئبًا
- أدوات وآليات التأثير بين الفن والسلطة: كيف نصنع أثرًا يبني و ...


المزيد.....




- الرئيس يستقبل رئيس مكتب الممثلية الكندية لدى فلسطين
- كتاب -عربية القرآن-: منهج جديد لتعليم اللغة العربية عبر النص ...
- حين تثور السينما.. السياسة العربية بعدسة 4 مخرجين
- إبراهيم نصر الله يفوز بجائزة نيستاد العالمية للأدب
- وفاة الممثل المغربي عبد القادر مطاع عن سن ناهزت 85 سنة
- الرئيس الإسرائيلي لنائب ترامب: يجب أن نقدم الأمل للمنطقة ولإ ...
- إسبانيا تصدر طابعًا بريديًا تكريمًا لأول مصارع ثيران عربي في ...
- حين تثور السينما.. السياسة العربية بعدسة 4 مخرجين
- إبراهيم نصر الله يفوز بجائزة نيستاد العالمية للأدب
- لن يخطر على بالك.. شرط غريب لحضور أول عرض لفيلم -بوجونيا-


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - القمامة والقدر: رحلة (كاري) من سلة المهملات إلى عرش الرعب