أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - أوزجان يشار - صناعة الجهل وتفكيكه: حين تتحوّل المعرفة إلى قناعٍ للحقيقة















المزيد.....

صناعة الجهل وتفكيكه: حين تتحوّل المعرفة إلى قناعٍ للحقيقة


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8500 - 2025 / 10 / 19 - 21:32
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


قراءة تأملية في كتاب Agnotology: The Making and Unmaking of Ignorance

في هذا العالم المتخم بالمعرفة، أشعر أحيانًا أن الحقيقة تزداد غموضًا كلّما ازداد وضوحها.
تفيض الشاشات بالبيانات، وتتنافس المؤسسات على إنتاج المعلومة، لكن شيئًا في الجوّ يوحي بأننا نغرق لا في النور، بل في ظلّه.
كأن المعرفة، في زمننا، لم تعد طريقًا إلى الوعي، بل غابة من الضجيج تخفي ما لا نريد أن نرى.

حين قرأت كتاب «صناعة الجهل وتفكيكه» (Agnotology: The Making and Unmaking of Ignorance)، الذي حرّره روبرت بروكتر ولوندا شاينبنغر، أحسست أنني أفتح نافذة على منطقة مسكوت عنها في الفكر الحديث: منطقة الجهل بوصفه فعلاً ثقافيًا وسياسيًا، لا مجرد نقص في العلم.
لقد علّمني هذا الكتاب أن الجهل لا يولد من غياب المعرفة، بل من طريقة توزيعها، من آليات الحجب والانتقاء التي ترافقها في كل عصر، حتى يبدو ما نعرفه كافياً بينما يخفي وراءه عالماً من الغياب المقصود.



العلم الذي يدرس الجهل

الأغنوتولوجيا — وهو الاسم الذي يُطلق على علم الجهل — ليست علمًا في الظلال كما قد يُظن، بل محاولة جذرية لإعادة تعريف المعرفة ذاتها.
إنها تطرح سؤالاً مربكًا:

كيف ولماذا لا نعرف، رغم كثافة ما نعرفه؟

يقول بروكتر إن الجهل لا يحدث بالصدفة، بل يُنتج كما تُنتج المعرفة، عبر مؤسساتٍ وجامعاتٍ وشركاتٍ وإعلامٍ، كلّها تشارك في تحديد ما يَظهر وما يُخفى.
هكذا يغدو الجهل نتاجًا اجتماعيًا: يُصاغ بوعي ويُدار كموارد الطاقة والسياسة.
إنه ليس ثغرة في البناء المعرفي، بل جزء من هندسته.

ومن هنا، يدعونا الكتاب إلى التحول من سؤال المعرفة إلى سؤال السلطة:
من الذي يقرر ما يُنشر وما يُسكت عنه؟
من المستفيد من أن نبقى في الظل ونحن نظن أنفسنا في النور؟



أنماط الجهل

يقترح بروكتر وشاينبنغر ثلاثة أنماط رئيسية للجهل:
1. الجهل الطبيعي: جهل البدايات، الناتج عن محدودية الإنسان أو نقص البيانات، وهو جهل يمكن تجاوزه بالتعلم والبحث.
2. الجهل الانتقائي: حين يختار الأفراد أو المؤسسات تجاهل ما لا يناسبهم أيديولوجيًا أو أخلاقيًا، فيتحوّل الجهل إلى آلية دفاع.
3. الجهل الاستراتيجي: وهو الأشد خطورة، لأنه يُصنع عمدًا لحماية مصالح اقتصادية أو سياسية، فيصبح أداة للهيمنة.

هذه الأنواع لا تنفصل، بل تتقاطع وتتحوّل. ما يبدأ طبيعيًا قد ينتهي استراتيجيًا، وما يبدو نسيانًا بريئًا قد يكون تواطؤًا جماعيًا على اللا-معرفة.



الشك كسلعة

يستعرض الكتاب نماذج ملموسة على هذا «الجهل المصنَّع».
من أكثرها تأثيرًا ما حدث في صناعة التبغ، حيث لم تسعَ الشركات إلى نفي أضرار التدخين بقدر ما سعت إلى إطالة عمر الشك.
أنشأت مؤسسات بحثية تموّل دراسات مشوشة، لا لقول الحقيقة، بل لتأجيلها.
وكان شعارها البليغ: «الشك هو منتجنا».
ذلك الشعار يلخص قرنًا كاملاً من سياسات اللا-يقين التي تموّه القتل بالبحث.

وفي مثال آخر، يقدّم الكتاب دراسة عن الجدل حول تغيّر المناخ، حيث تلجأ الشركات النفطية إلى تكتيك مشابه: تضخيم الخلافات الصغيرة بين العلماء لتبدو كصراعات كبرى، وبذلك يتحوّل الإجماع العلمي إلى رأيٍ بين آراء، ويُهمّش الفعل لصالح الانتظار.
في هذه الحالات، لا يُدار الجهل كغياب للمعلومة، بل كاستثمار في الزمن.
الجهل يصبح سياسة اقتصادية طويلة المدى.



المعرفة المفقودة

لكن الجهل لا يُصنع فقط بالكتمان، بل أيضًا بالنسيان المنهجي.
في مقالةٍ ضمن الكتاب، تتناول لوندا شاينبنغر مثالاً مذهلاً: معرفة النساء في جزر الهند الغربية بالأعشاب المجهضة، التي أُقصيت من التاريخ العلمي الأوروبي لأنّها لا تتفق مع أخلاقيات المستعمر الذكوري.
وحين ضاعت تلك المعرفة، لم تُفقد معلومة فحسب، بل ضاعت طريقة أخرى لرؤية الجسد والخصوبة والحرية.

أما أدريين مايور فتكشف كيف تجاهل العلماء الغربيون على مدى قرون معارف الشعوب الأصلية في تفسير الحفريات.
لم يكن ذلك الجهل ناتجًا عن نقص، بل عن رفضٍ اعترافٍ بثقافة «الآخر».
إنه جهلٌ مؤسسيٌّ يستمد شرعيته من المركزية الثقافية نفسها التي تُنتج المعرفة.

وفي مقال أليسون وايلي، يظهر وجه آخر للموضوع:

ما لا نبحث عنه، وما نعتبره «خارج نطاق العلم»، يحدّد بدقة ما نعرفه فعلاً.

إنّ كل علمٍ هو خريطة، وما يُمحى منها ليس أقلّ أهمية مما يُرسم.



نظريات في الجهل

ينتقل الكتاب في جزئه الثالث إلى المستوى النظري، حيث يناقش مايكل سميثسون كيف يعمل الجهل كآلية اجتماعية تُنظم بها المجتمعات علاقات القوة.
ويضيف تشارلز ميلز بعدًا أخلاقيًا حين يتحدث عن «الجهل الأبيض»: الجهل المتعمد بتاريخ العبودية والاستعمار، الذي يُعاد إنتاجه في المناهج والإعلام حتى يبدو التاريخ وكأنه بدأ من المركز الغربي.
إنه ليس جهلًا عن الماضي، بل سياسة ذاكرة تُعيد تشكيل الحاضر.

وفي دراسة جون كريستنسن عن الإعلام، تتجلى مأساة الحقيقة المعاصرة: حين يقدّم الصحفيون «التوازن» على «الدقة»، فيساوون بين الرأي العلمي والرأي العابر، فينشأ «توازن زائف» يخدم الجهل باسم الحياد.
هكذا يتحوّل الإعلام من أداة تنوير إلى أداة تعمية أنيقة.



الجهل كاختيار إنساني

وأنا أقرأ الكتاب، لم أستطع أن أتوقف عند نقد السلطة وحدها، لأنني شعرت أن الجهل لا يُفرض من فوق فقط، بل يُغذّى من الداخل.
كم مرة تجاهلنا معلومة لأنها تهزّ يقيننا؟
كم مرة اخترنا الصمت لأن الحقيقة تزعج راحتنا؟
الجهل ليس دومًا قيدًا، بل أحيانًا راحة وجودية نختارها عن وعي.
هكذا يتحوّل الجهل من مشكلة معرفية إلى حالة روحية، مزيج من الخوف والرغبة في الاستقرار.

إنّ الأغنوتولوجيا تذكّرنا بأن الجهل ليس ظاهرة خارجية، بل مرآة داخلية، تعكس حدود رغبتنا في الفهم.
ما نرفض معرفته يكشفنا أكثر مما نعرفه.



الشك كفضيلة

لا يدعونا هذا الكتاب إلى الارتياب في كل شيء، بل إلى الشك الواعي الذي يميّز بين سؤال يُفتح لتوسيع الأفق، وسؤال يُستخدم لإغلاقه.
الشك هنا ليس عدوًّا للحقيقة، بل شرطها الأول.
ففي زمنٍ تتحكم فيه الشركات في المعلومة وتعيد السياسة تشكيل العلم، يصبح الشك عملاً أخلاقيًا.
أن تشكّ يعني أن ترفض الجهل المصنوع، أن تقف في منطقة العتمة لتسأل: من أطفأ النور؟ ولماذا؟



من التفكيك إلى الوعي

يُلام الكتاب أحيانًا على أنّه يفكك ولا يبني، لكنه في الحقيقة لا يسعى إلى تقديم بدائل، بل إلى فتح العيون على ما لا نراه.
فالمعرفة التي لا تفكّر في جهلها تُعيد إنتاجه.
ولذلك، فإنّ «تفكيك الجهل» هو في جوهره تربية على الوعي:
أن نعرف أن ما نعرفه محدود، وأنّ ما نجهله ليس دائمًا خارجنا.
إنه دعوة للتواضع الفكري، ولليقظة أمام أنظمة تسوّق الوهم على أنه علم.



الخلاصة

حين أنهيت الكتاب، شعرت أنني أخرج من متاهةٍ لا لأنني وجدت المخرج، بل لأنني أدركت طبيعة الجدران.
الجهل لم يعد فراغًا في الوعي، بل هيكلًا للعالم الحديث، يوزَّع فيه الضوء بقدر الحاجة إلى الطاعة.
ومع ذلك، تبقى الأغنوتولوجيا أكثر من علم: إنها ضميرٌ نقديٌّ للعصر، تذكّرنا بأن الحقيقة لا تُعطى جاهزة، بل تُنتزع من بين طبقات الخداع، وبأن الوعي لا يبدأ حين نعرف، بل حين نعترف بأنّ هناك ما يُخفى عمداً عنا.

هكذا يصبح إدراك الجهل لحظة تحرّر، والشك فعل إيمان، والمعرفة تجربة أخلاقية قبل أن تكون نظرية.
فالجهل، في النهاية، ليس غيابًا عن الحقيقة، بل لغة السلطة التي تُعيد كتابة العالم على مقاسها.
وحين نفهم هذه اللغة، نصبح قادرين على الصمت الحر، لا الصمت المفروض — صمتٍ يعرف أنه يرى الظلّ ويفكّ شيفرته.



المصدر:
Robert N. Proctor (Editor), Londa Schiebinger (Editor).
Agnotology: The Making and Unmaking of Ignorance.
Stanford University Press, 2008.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وسام الحمار
- القرد أولى بلحم غزاله
- كاميل كلوديل… حين نَحَتَتِ العزلةُ وجهَ العشق
- في حضرة عبث الحنين .. حكاية الحاجّ نبيل وأشباح سبورتنج
- القراءة بين سيف أرطغرل الصارم ومقص زكي الحلاق الفاهم
- ومضات من حياة لازلو كرازناهوركاي: رسول الخراب الجميل
- حقيبة الملابس .. من مذكّرات الكاتب التركي عزيز نيسين
- الصراع على نوبل للسلام 2025: ترامب مقابل ثونبرغ.. من يستحق ل ...
- إنهم يصطادون طرابيش الصغار .. عندما طار طربوشي من فوق رأسي
- الأرض الأم: ومضات من حياة الفنانة وو شانغ وتحليل رمزية الخلق ...
- صناعة الوعي المغيّب… من نقد المعرفة إلى فلسفة الكلمة عند هاب ...
- حين يُدار العمل بعُقدة النقص: كيف تُنتج الإدارات غير المؤهلة ...
- الأمراض في البحرين والطب الشعبي: رحلة الشفاء عبر العصور من د ...
- ومضات من حياة زهرة اليابان: الشاعرة أكيكو يوسانو
- ومضاتٌ من حياة “جحا التركي” عزيز نيسين: أيقونة الأدب التركي ...
- الذئب الذي صار إنسانًا… والإنسان الذي صار ذئبًا
- أدوات وآليات التأثير بين الفن والسلطة: كيف نصنع أثرًا يبني و ...
- الكلام مهارة والإصغاء فن: بين الفهم والرد
- الفيل القابع في الحفرة بين الأزرق والأحمر
- التهذيب مرآة الحضارة عبر ثقافات الأمم.


المزيد.....




- بوساطة قطرية تركية.. اتفاق جديد لوقف فوري لإطلاق النار بين ب ...
- مستشفيات غزة: مقتل 36 شخصًا على الأقل في غارات إسرائيلية الأ ...
- هل ستتخلى حماس عن سلاحها يومًا ما؟.. خبيران يوضحان لـCNN
- الإمارات تشتري أرضًا لإقامة سفارة دائمة في إسرائيل
- معرض فرانكفورت للكتاب يكرم مؤرخا ألمانيا منتقدا لبوتين بجائز ...
- 36 مليار دولار في مهب الريح.. نهاية حلم الطاقة النظيفة؟
- تعليم مجاني وبيئة داعمة لأيتام الحرب بمواصي خان يونس
- طابعة حيوية بحجم قرص دواء قد تعالج قرحة المعدة يوما ما
- فهود غرب أفريقيا مهددة بالانقراض بعد انخفاض أعدادها بنسبة 50 ...
- الهجرة الدولية: نزوح 1730 شخصا من منطقتين بالسودان


المزيد.....

- قراءة تفكيكية في رواية - ورقات من دفاتر ناظم العربي - لبشير ... / رياض الشرايطي
- نظرية التطور الاجتماعي نحو الفعل والحرية بين الوعي الحضاري و ... / زهير الخويلدي
- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - أوزجان يشار - صناعة الجهل وتفكيكه: حين تتحوّل المعرفة إلى قناعٍ للحقيقة