أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8514 - 2025 / 11 / 2 - 21:12
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
نمط متكرر في أساسيات السياسة الخارجية الأمريكية
في تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية، يبرز نمط متكرر يعكس استراتيجية الهيمنة العالمية: خلق “أعداء” من خلال دعمٍ أو إهمال، ثم تحويلهم إلى تهديدات درامية مفبركة أو مبالغ فيها لتبرير التدخلات العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية. هذا النمط ليس مجرد صدفة؛ بل هو أداة للسيطرة على مقدرات الشعوب، وفي الوقت نفسه لخدمة أغراض داخلية كتبرير الإنفاق العسكري الهائل — الذي بلغ 877 مليار دولار عام 2022 — وإلهاء المواطن الأمريكي عن أزمات الداخل، مثل تدهور نظام التأمين الصحي، حيث يفتقر 28 مليون أمريكي إلى تغطية صحية كاملة، بحسب تقارير مكتب الإحصاء الأمريكي.
يلعب الإعلام الأمريكي، بدعم من وكالات مثل CIA، دورًا حاسمًا في تسويق هذه “القصص الدرامية”، محولًا الأعداء إلى رموز شر مطلقة، كما في حملات الدعاية خلال الحرب الباردة أو ما بعد 11 سبتمبر.
⸻
أسامة بن لادن: من “بطل الحرية” إلى “الشر المطلق”
بدأ هذا النمط في الحرب الباردة، حين كانت الولايات المتحدة تبني تحالفات مؤقتة مع شخصيات أو جماعات لمواجهة الاتحاد السوفييتي، ثم تتخلى عنها عندما تفقد السيطرة. أبرز مثال هو أسامة بن لادن، الذي تحول من “حليف” إلى “عدو عام رقم واحد”.
في أواخر السبعينيات، خلال الغزو السوفييتي لأفغانستان (1979-1989)، دعمت CIA بن لادن وشبكته “المكتب السياسي الإسلامي” بأكثر من 3 مليارات دولار من خلال عملية “السايكلون”، التي شملت تدريب المجاهدين في معسكرات باكستانية قرب بيشاور، وتزويدهم بصواريخ ستينغر التي غيّرت موازين المعركة بإسقاط المروحيات السوفييتية. كان بن لادن، ابن عائلة سعودية ثرية، يُنظر إليه كبطل إسلامي يقاتل “الكفار” السوفييت، وتلقى دعمًا مباشرًا من الرئيس رونالد ريغان الذي وصفه في خطاب عام 1985 بـ”مقاتلي الحرية”.
لكن بعد انسحاب السوفييت عام 1989، تحول بن لادن إلى عدو. ففي 1996، أصدر فتوى من مخبئه في السودان تُدين الوجود الأمريكي في السعودية، ثم أسس تنظيم القاعدة الذي نفذ هجمات 1998 على السفارات الأمريكية في كينيا وتنزانيا، مما أسفر عن مقتل 224 شخصًا. بلغت الذروة في 11 سبتمبر 2001، حين قتلت هجمات القاعدة 2977 شخصًا في نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا. استغل الرئيس جورج بوش الابن هذا الحدث لإطلاق “الحرب على الإرهاب”، محولًا بن لادن إلى رمز للشر العالمي عبر تغطية إعلامية مكثفة على CNN وFox News، التي بثت تسجيلاته كدليل على “الشر المطلق”.
قُتل بن لادن في 2 مايو 2011 في مخبئه برايواباد، إسلام آباد، باكستان، في عملية “رمح نبتون” بقيادة SEAL Team Six.
⸻
مانويل نوريغا: حارس القناة الذي تحول إلى “ديكتاتور مخدرات”
في أمريكا اللاتينية، تجسدت الاستراتيجية في مانويل نوريغا، الجنرال البنمي الذي كان “عميلًا” ثم “ديكتاتور مخدرات”. في الثمانينيات، دعمته واشنطن كحارس لقناة بنما التي تسيطر عليها أمريكا منذ 1903. تعاون نوريغا مع CIA منذ 1967، مقدمًا معلومات استخباراتية عن كوبا ونيكاراغوا، وتلقى 320 ألف دولار سنويًا كـ”راتب سري” حتى 1986، وفقًا لتقارير لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس. ساعد في دعم المتمردين الكونترا في نيكاراغوا ضد الساندينيين، وكان يُمد بالأسلحة عبر قناة بنما.
لكن في 1989، بعد أن ألغى نوريغا الانتخابات الرئاسية في فبراير واتُّهم بتهريب الكوكايين (رغم أن الولايات المتحدة كانت تتغاضى عن ذلك سابقًا)، غزت القوات الأمريكية بنما في عملية “سبب عادل” (Operation Just Cause) في 20 ديسمبر 1989. شارك 27 ألف جندي أمريكي في الغزو، الذي أسفر عن مقتل 500 إلى 4000 مدني بنمي، وفقًا لتقديرات منظمة هيومن رايتس ووتش. هرب نوريغا إلى السفارة الفاتيكانية في باناما سيتي، حيث استخدمت القوات أصواتًا عالية التردد – من بينها أغاني غنز آند روزز – لإجباره على الاستسلام في 3 يناير 1990. حوكم في ميامي بتهم تهريب المخدرات وحُكم عليه بالسجن 40 عامًا.
⸻
فيديل كاسترو: 638 محاولة اغتيال لم تنجح
أما فيديل كاسترو، فكان هدفًا لأكثر من 638 محاولة اغتيال من قبل CIA بين 1960 و2000، وفقًا لتقارير لجنة تشرش في الكونغرس عام 1975. بعد الثورة الكوبية عام 1959 التي أطاحت بديكتاتورية باتيستا المدعومة أمريكيًا، أصبح كاسترو “عدوًا شيوعيًا” رغم أنه لم يكن يهدد الحدود الأمريكية مباشرة.
في أغسطس 1960، بدأت CIA عملية “زيب” (ZRRIFLE) لاغتياله، بالتعاون مع المافيا التي خسرت كازينوهاتها في هافانا. من أبرز المحاولات:
• سيجار متفجر عام 1960، مصمم ليقتل كاسترو أثناء تدخينه في خطاب تلفزيوني؛
• بدلة غوص ملوثة بالبكتيريا في 1962؛
• محاولة تسميم شيك الموز في فندق ميامي عام 1963، حيث وضعت CIA حبوب سم في ثلاجة صديقته ماريتا لوريدا بيتيستا.
فشلت جميعها، لكن الإعلام الأمريكي، عبر نيويورك تايمز وواشنطن بوست، صوّره بوصفه “ديكتاتورًا شريرًا”، مبررًا الحصار الاقتصادي الذي استمر حتى وفاته عام 2016، وأدى إلى معاناة اقتصادية لـ11 مليون كوبي.
⸻
صدام حسين: من حليف ضد إيران إلى “تهديد دمار شامل”
في الشرق الأوسط، يتجلى النمط في صدام حسين، الذي دعمته أمريكا ضد إيران ثم غزت بلاده لاحقًا. خلال حرب إيران-العراق (1980-1988)، التي أشعلها صدام بغزو إيران في 22 سبتمبر 1980، قدمت واشنطن دعمًا سريًا له رغم استخدامه أسلحة كيميائية في حلبجة عام 1988، التي قتلت ما يقارب 5000 كردي أعزل. زار الوزير الأمريكي دونالد رامسفيلد بغداد في ديسمبر 1983 كمبعوث خاص للرئيس ريغان، ووعد بدعم اقتصادي وعسكري، بما في ذلك بيع أسلحة ومعلومات استخباراتية عن إيران. بلغ الدعم 5 مليارات دولار في قروض، وفقًا لأرشيف الأمن القومي.
لكن بعد غزو الكويت في 2 أغسطس 1990، تحول صدام إلى “عدو”، متهمًا بامتلاك أسلحة دمار شامل (التي ثبت لاحقًا عدم وجودها). غزت القوات الأمريكية العراق في 20 مارس 2003 في عملية “حرية العراق”، بقيادة رامسفيلد نفسه، مبررة بـ”التهديد الوشيك” رغم عدم وجود روابط بين صدام والقاعدة. سقطت بغداد في 9 أبريل 2003، وأُعدم صدام في 30 ديسمبر 2006 بعد محاكمة طويلة. أدى الغزو إلى مقتل 200 ألف مدني عراقي، وفقًا لمشروع تكاليف الحرب.
⸻
معمر القذافي: من “الكلب المجنون” إلى جثة في فيديو عالمي
مع معمر القذافي، كانت الدورة أكثر تعقيدًا، تجمع بين الاغتيال البدني والمعنوي. في السبعينيات، دعمته أمريكا بشكل غير مباشر كحليف ضد الشيوعية، لكنه أصبح عدوًا بعد دعمه الإرهاب، مثل تفجير لوكربي عام 1988. في 15 أبريل 1986، قصفت القوات الأمريكية طرابلس وبنغازي في عملية “إل دورادو كانيون”، ردًا على تفجير ديسكو في برلين الغربية، مما أسفر عن مقتل 45 ليبيًا، بينهم ابنة القذافي الرضيعة. كان الرئيس ريغان يصف القذافي بـ”الكلب المجنون” في خطاب تلفزيوني.
وفي 2011، خلال الربيع العربي، دعمت الولايات المتحدة والناتو الثوار في بنغازي، مبررين التدخل بقرار مجلس الأمن 1973. في 19 مارس 2011، شنت طائرات أمريكية وفرنسية غارات على قوات القذافي، مما أدى إلى مقتله في 20 أكتوبر 2011 قرب سرت، حيث صُورت جثته المشوّهة في مقطع انتشر عالميًا.
⸻
نيكولاس مادورو: خطة خطف في 2024 تُكشف في 2025
اليوم، يتكرر النمط في فنزويلا مع نيكولاس مادورو، الرئيس البالغ 62 عامًا، الذي أصبح هدفًا لـ”خطة خطف درامية” تشبه رواية تجسس. في أبريل 2024، تلقت السفارة الأمريكية في سانتو دومينغو، جمهورية الدومينيكان، بلاغًا عن إصلاح طائرتي “داسو فالكون” الرئاسيتين في مطار لا إيسابيلا الدولي. أثار ذلك اهتمام إدوين لوبيز، جندي سابق في الجيش الأمريكي من بورتوريكو، يعمل في فريق وزارة الأمن الداخلي.
حصل على موافقة رؤسائه للتواصل مع الطيارين الفنزويليين الخمسة، واستهدف العقيد بيتنر فيليغاس، عضو الحرس الرئاسي الشرفي. في غرفة الانتظار الرئاسية، قدم عرضًا: نقل مادورو إلى قاعدة أمريكية مثل غوانتانامو، مقابل ثروة وشهرة. رفض فيليغاس، لكنه أعطى رقمه، وبدأ تبادل رسائل استمر حتى يوليو 2024. وفي سبتمبر 2024، رد فيليغاس بحدة: “نحن الفنزويليون من معدن مختلف”، ثم حظره. أرسل مارشال بيلينغسلي رسالة تهنئة بعيد ميلاد فيليغاس مرفقة بصورته.
في 24 سبتمبر 2024، ظهر فيليغاس في برنامج تلفزيوني حكومي في كراكاس، قدمه وزير الداخلية ديوسدادو كابييو كـ”وطني لا يتزعزع”. كُشفت الخطة في 29 أكتوبر 2025، بناءً على مقابلات أجرتها وكالة أسوشيتد برس، مع تحشد أكبر أسطول أمريكي في الكاريبي، ومكافآت تصل إلى 50 مليون دولار لاعتقال مادورو كـ”إرهابي مخدرات”.
⸻
مشهد مكرر ودورة لا تنتهي من الهيمنة والدعاية
هذه القصص تكشف آلية الهيمنة: خلق أعداء للسيطرة على الموارد — النفط في العراق وليبيا وفنزويلا، القنوات في بنما، والثورات في كوبا وأفغانستان — ثم سحقهم عسكريًا أو معنويًا عبر الإعلام. في الثمانينيات، أنفقت هوليوود ملايين على أفلام مثل “رامبو” لتصوير الشيوعيين كأشرار، مبررة ميزانية الدفاع التي تضاعفت منذ 1980.
اليوم، تُغرق وسائل الإعلام الكبرى شاشاتها بحملات ضد “الديكتاتوريين” لإلهاء الداخل الأمريكي عن واقع 40 مليون إنسان يعيشون تحت خط الفقر.
هكذا، تستمر الإدارات الأمريكية في دورة لا تنتهي: بناء أعداء، سحقهم، ثم البحث عن آخرين، محولة إرادة الشعوب إلى أداة للهيمنة العالمية. هل سينتهي هذا النمط؟ التاريخ يقول لا، فالكاريبي اليوم يشهد أسطولًا جديدًا، ومادورو مجرد فصل آخر في كتاب الدعاية الأمريكية.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟