أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8526 - 2025 / 11 / 14 - 20:53
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
حين تصطدم السماء بالأرض تحدث أبشع المجازر بإسم الله
في قلب العصور الوسطى، حين كان النور محجوبًا خلف أسوار الكنائس، وحين امتزج الإيمان بالسلطان، كانت أوروبا تتنفس تحت ثقل الذهب المقدّس. كانت الكنيسة تملك الأرض والسماء معًا، تمنح الجنة وتبيع الغفران، وتعلن الحروب باسم الرب. هناك، في زمنٍ كانت فيه الحقيقة حكرًا على الكهنة، كانت بذور النور تحاول أن تشقّ طريقها بين الحروب والصلبان.
في ذلك الزمن، ظهر قومٌ غامضون في جنوب فرنسا وشرق أوروبا عُرفوا باسم "الكاثار"، أي "الأنقياء"، وقد أحب الناس أن يلقّبوهم أيضًا بـ "أصدقاء الله" لما عُرفوا به من زهدٍ وسلامٍ وعدلٍ في أسلوب حياتهم. وُلدت حركتهم في القرن الثالث عشر الميلادي، في زمنٍ كان الضمير الإنساني يبحث فيه عن معنى الروح وسط طقوسٍ طغى عليها الجسد والذهب. لم يكونوا ملحدين كما اتُّهموا، بل جماعة من المؤمنين الطهرانيين رأوا أن المسيح لم يأتِ ليُؤسس إمبراطورية بل ليُعلّم الناس المساواة والمحبة.
آمن الكاثار أن المسيح حين تحدّث عن الخبز بأنه جسده كان يتحدث مجازًا لا حقيقةً مادية، ورفضوا العشاء الرباني والقداس والتثليث، ولم يؤمنوا بأن المسيح هو الله أو ابن الله، بل نبيٌّ وسول ومعلم للنور جاء ليحرر الروح من هوس المادة. كانوا يقسمون الطيبات بين الناس بالتساوي، ينبذون العنف، ويعيشون في بساطةٍ تكاد تذكّر بحياة الرسل الأولى.
رأوا أن الباباوات ليسوا خلفاء الرسل بل خلفاء القياصرة، لأنهم يملكون القصور ويكدّسون الثروات بينما المسيح — كما قالوا — «لم يجد مكانًا يضع عليه رأسه». كان ذلك في زمنٍ بدأت فيه ملامح النهضة تتكوّن في جنوب فرنسا، في مدنٍ مثقفة جريئة كـ تولوز وألبي، حيث الفكر يهمس في وجه السلطة، وحيث التناقض بين الروح المتجددة والفساد الأخلاقي لرجال الكنيسة الذي بلغ ذروته.
لكن النور حين يولد في قلب الظلام يُعدُّ جريمة. فبأمرٍ من البابا إنوسنت الثالث، أعلنت الكنيسة حربًا مقدسة على الكاثار عام 1209، أطلقوا عليها اسم «الحملة الصليبية الألبيجنسية». وعد البابا المتطوعين للقتال ضد هؤلاء «الزنادقة» بغفرانٍ كاملٍ للذنوب في الدنيا والآخرة. فاجتمع نصف مليون جندي تحت راية الصليب لإحراق الحقول، وذبح كل من خالف روما بلا شفقة.
بدأت المذبحة الكبرى التي استمرت أكثر من ثلاثين عامًا، قُتل فيها أكثر من مئة ألف إنسان، وتحولت جنوب فرنسا إلى أكوام من الجثث المحروقة. لم ينجُ أحد: لا النساء ولا الأطفال ولا الشيوخ. حتى حين انكسرت المشانق من ثقل الضحايا، قذفوا بزوجة أحد الأمراء في بئرٍ عميقة وأغرقوها بالحجارة، كأن الأرض نفسها تواطأت مع الجلادين. ثم استولت الكنيسة على أخصب الأراضي ونهبت المدن وأحرقتها عن آخرها.
هكذا، في لحظةٍ واحدة، اصطدمت السماء بالأرض. وبينما كانت الكنيسة تحاول «تطهير» الإيمان بدماء المؤمنين، كان التاريخ يتهيأ لولادةٍ أخرى — ولادة العقل من رماد الروح.
المذبحة: حين تكلّم البابا باسم الله
في عام 1209، جلس البابا إنوسنت الثالث على عرش روما وقد تكدست حوله التقارير عن هؤلاء “الأنقياء” الذين يُفسدون الإيمان ببدعتهم. لم يرَ فيهم جماعة مؤمنة بل تهديدًا مباشرًا لسلطة الكنيسة. فأصدر أمرًا بابويًا يقضي بإطلاق “الحملة الصليبية الألبيجنسية” ضد الكاثار في جنوب فرنسا.
كانت تلك أول حرب صليبية تُعلن داخل أوروبا المسيحية نفسها، ضد أناسٍ يحملون الإنجيل ذاته ولكنهم يقرأونه بعيونٍ حرة.
ولأن السيف لا يكفي ما لم يُبارك بالجنة، فقد أصدر البابا صكًّا بالغفران الكامل لكل من يقاتل الكاثار، واعدًا المتطوعين بأن ذنوبهم ستُمحى في الدنيا والآخرة. لقد جعل من القتل عبادة، ومن الإبادة طريقًا إلى الخلاص.
سرعان ما اجتمع نصف مليون مقاتل من أنحاء فرنسا وإيطاليا وألمانيا، يرتدون الصلبان على صدورهم ويحملون رايات مكتوبًا عليها “Deus vult” — الله يريد. وتوجه الجيش الضخم إلى مدينة بيزييه (Béziers)، أول معاقل الكاثار.
حين دخل الصليبيون المدينة، اختلط فيها الكاثار بالكاثوليك العاديين، فاحتار الجنود فيمن يقتلون. فسألوا القائد الروحي المرافق للحملة، رئيس دير سيتو أرنولد أمارك، عن كيفية التفريق بين المؤمنين والزنادقة، فأجاب بجملة صارت خالدة في السجلات البابوية:
“اقتلوهم جميعًا، فالله سيميّز خاصّته.”
وبتلك الجملة، بدأت المجزرة. في يومٍ واحد، ذُبح أكثر من عشرين ألف إنسان، رجالًا ونساءً وأطفالًا، داخل الكنائس وخارجها، حتى امتلأت الشوارع بالدماء التي وصلت إلى رُكب الخيول، كما ورد في سجلات الرهبان أنفسهم.
ثم أمرت الجيوش بإحراق المدينة بكاملها. لم يُبقوا حجرًا على حجر. كانت النيران تلتهم الجدران والمكتبات والمنازل في وقتٍ واحد، حتى غدت بيزييه رمادًا في المساء. من هناك، تابع الصليبيون طريقهم إلى مدينة كاركاسون، التي قاومت بضعة أيام قبل أن تسقط هي الأخرى. طُرد سكانها في حرّ أغسطس اللاهب عراة حفاة، وسُلّمت أراضيهم إلى الإقطاعيين الذين شاركوا في “الحرب المقدسة”.
لم تكن الإبادة مقصودة للناس فحسب، بل للفكر ذاته. فبعد كل معركة، كان الكهنة يفتشون المنازل والكتب ويُحرقون المخطوطات الكاثارية في الساحات العامة. استولى رجال الكنيسة على القلاع والأراضي الخصبة التي كان يملكها الكاثار، واعتُبرت “هبة إلهية” للكنيسة المنتصرة.
كان العنف ممنهجًا إلى حدٍّ شيطاني. في بعض القرى، حين لم يجد الجنود مشانق كافية، أُجبرت النساء على الوقوف فوق أفواه الآبار، وقُذفت عليهن الصخور الضخمة حتى سُحقن داخل الماء. وفي قرى أخرى، جُمعت العائلات داخل الحظائر وأُضرمت فيها النيران وهم أحياء.
استمرت تلك الحملة لأكثر من ثلاثة عقود من المطاردة والقتل والتجويع، من عام 1209 إلى 1244، حين سقط آخر حصون الكاثار في مونتسيغور. حاصرها جيش الكنيسة شهورًا طويلة حتى انهارت، ورفض المدافعون عنها التراجع عن معتقدهم. فأُحرق نحو مئتين من “الأنقياء” دفعة واحدة عند سفح الجبل في نارٍ ضخمة، اختلط فيها دخان الجسد بدخان العقيدة.
انتهت الحرب رسميًا، لكن روحها ظلت تحوم قرونًا. بقيت محاكم التفتيش في الجنوب الفرنسي تُطارد كل من يُتهم بالتعاطف مع الكاثار، وتنبش قبورهم لتُحاكم الأموات بتهمة الهرطقة.
وهكذا، أُحرقت الفكرة مع أجساد أصحابها، لكن رمادهم كان البذرة التي أنبتت أولى أسئلة الحرية في أوروبا.
⸻
المأساة: حين تُحارب الكنيسة أولادها
لم يكن ما حدث في الجنوب الفرنسي مجرّد حرب دينية، بل مجزرة ضد الفكرة ذاتها — فكرة أن الإنسان يستطيع أن يفكر، ويؤمن، ويعيش خارج سلطة الكهنة. لقد أراد الكاثار أن يحرروا الله من الجدران الحجرية، وأن يعيدوا الإيمان إلى مكانه الطبيعي في القلب، فاتهمتهم الكنيسة بالزندقة، وسحقت أجسادهم لتبقي على فكرة أن الخلاص لا يمر إلا عبر بوابة البابا.
غير أن التاريخ له سخرية خفية؛ فكل دم يُسفك من أجل الحقيقة يتحوّل إلى بذرةٍ في الأرض. حين كانت نار محاكم التفتيش تشتعل في الجنوب الفرنسي، كانت في الشمال الأوروبي تشتعل شرارة أخرى، لم تكن نارًا بل ضوءًا. فالأفكار التي حاولت الكنيسة طمسها عادت لتظهر في القرن السادس عشر على لسان مارتن لوثر وجون كالفن وغيرهم من المصلحين الذين واجهوا روما بالكتاب والعقل، لا بالسيف. كان أولئك الإصلاحيون الورثة غير المعلنين للكاثار، حتى وإن لم يعرفوهم، إذ حملوا ذات الفكرة الجوهرية: أن الله لا يُختصر في مؤسسة، وأن الإيمان لا يحتاج إلى وسطاء.
لقد كانت مأساة الكاثار درسًا مبكرًا في فلسفة الحرية. فقبل أن يُولد فولتير أو روسو أو سبينوزا بقرون، كان هناك من جرّب أن يعيش وفق ضميره وحده، ودفع الثمن غاليًا. ومن رماد أولئك، نهضت أوروبا التي ستعرف لاحقًا حرية الفكر وحقوق الإنسان. لذلك لا يمكن قراءة عصر التنوير دون أن نسمع في أعماقه صدى تلك الأصوات التي خُنقت في كهوف الجنوب الفرنسي، وهي تهمس بأن النور لا يُقتل بالسيف، بل يؤجَّل فقط.
في النهاية أيها النبلاء: من رماد النار يولد العقل
في الفلسفة، لا يموت من يُقتَل من أجل فكرة، بل من يرضى بأن يعيش بلا فكرة. والكاثار، وإن طواهم التراب، ظلوا علامة في الضمير الإنساني تذكّر بأن العقيدة حين تُفرض بالسلاح تفقد معناها الروحي، وأن الله، إن كان حيًّا في القلوب، فلا حاجة لقصور ولا تيجان لحمايته.
إنهم لم يخسروا كما ظن معاصروهم، لأن الفكرة التي دفنها رجال الكنيسة تحت الركام كانت البذرة الأولى لنهضةٍ غيّرت وجه العالم. كل ما نعرفه اليوم من حرية الاعتقاد، ومن شجاعة السؤال، ومن ثورة على الاستبداد باسم الدين، له جذور في تلك الأراضي التي احترقت يومًا باسم الرب.
وهكذا، لم تمت الكاثارية — لأنها لم تكن طائفة، بل صرخة إنسانية مبكرة ضد احتكار الحقيقة. صرخة تقول إن الإيمان لا يُباع، وإن الله لا يسكن في خزائن الذهب ولا في أبراج الكنائس، بل في كل نفسٍ ترفض أن تُستعبد باسم السماء.
كما قال المفكر الفرنسي مونتينيه بعد قرون من تلك المذابح:
“إن أكثر الحروب بشاعة هي تلك التي تُشن باسم الله.”
تلك الجملة وحدها كانت كفيلة بأن تعيد الاعتبار لكل من مات في سبيل النقاء الروحي، وتذكّرنا بأن الإنسانية لا تتقدم إلا حين تجرؤ على أن تسأل: من يملك حق الكلام باسم الله؟
ولعل الكاثار، الذين أُبيدوا من أجل هذا السؤال، لم يكونوا ضحايا الماضي فحسب، بل حاملي مشعلٍ خفي، أضاءت ناره طريق الإنسان نحو الحرية والضمير.
المصادر والمراجع:
• René Nelli, La Vie quotidienne des Cathares du Languedoc au XIIIe siècle, Hachette, Paris, 1969.
(المرجع الفرنسي الكلاسيكي الذي قدّم صورة واقعية لحياة الكاثار، طقوسهم، وأسلوب معيشتهم السلمي.)
• Emanuel Le Roy Ladurie, Montaillou: The Promised Land of Error, George Braziller, New York, 1978.
(دراسة تاريخية أنثروبولوجية عميقة عن قرية كاثارية في جنوب فرنسا، تكشف من خلال سجلات محاكم التفتيش البنية الاجتماعية والفكرية لجماعتهم.)
• Malcolm Lambert, The Cathars: Dualist Heretics in Languedoc in the High Middle Ages, Blackwell Publishing, 1998.
(أحد أهم الكتب الأكاديمية الحديثة التي تناولت الجذور الفكرية للكاثارية وصلتها بالفكر الدوالي القديم وبحركات الإصلاح اللاحقة.)
• Mark Gregory Pegg, A Most Holy War: The Albigensian Crusade and the Battle for Christendom, Oxford University Press, 2008.
(بحث تفصيلي في الحملة الصليبية الألبيجنسية من منظور سياسي ولاهوتي، يربط بين السلطة البابوية وبناء مفهوم “الحرب المقدسة” داخل أوروبا.)
• Stephen O’Shea, The Perfect Heresy: The Revolutionary Life and Death of the Medieval Cathars, Walker & Company, New York, 2000.
(عمل سردي تحليلي رائع يعيد بناء مأساة الكاثار كصراع بين الضمير والسلطة، بأسلوب يجمع بين التوثيق التاريخي والعمق الفلسفي.)
• Michel Roquebert, L’épopée Cathare, Éditions Privat, Toulouse, 1970–1987 (خمسة مجلدات).
(أوسع دراسة تاريخية متخصصة في تاريخ الكاثار، تتناول بالتفصيل الحملة العسكرية، والمقاومة، وسقوط قلاعهم في لانغدوك.)
• وثائق الفاتيكان ومحاكم التفتيش:
محفوظة ضمن Archivio Segreto Vaticano، وهي المرجع الأصلي للمراسلات البابوية في عهد إنوسنت الثالث والمتعلقة بإبادة الكاثار (المجلدات 1208–1230).
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟