أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8526 - 2025 / 11 / 14 - 20:50
المحور:
حقوق الانسان
أحيانًا تقرأ خبرًا واحدًا، لكنه يفتح أمامك أبوابًا كثيرة من العتمة الإنسانية ومن محاولة فهم الحدود ما بين الحقيقة والكذب وما بين الحق والباطل وما بين العدل والظلم، حتى تكاد تشعر أن التاريخ ليس سوى سلسلة من التجارب الفاشلة في أن نكون بشرًا أسوياء.
هذا ما حدث معي وأنا أتابع التحقيق الذي فتحه الادعاء العام في ميلانو، حول ما سُمِّي اليوم بـ “سياحة القنص البشري” أو “السفاري البشري” في سراييفو، خلال حصارها في التسعينيات. ليس الخبر مجرد معلومة عابرة، بل صفعة على وجه الضمير، تذكّرنا أن الشرّ لا يسكن فقط في الجنرالات والأنظمة، بل يمكن أن يسكن في رجلٍ ثري لا يعرف كيف يكون سعيدا، جاء من مدينة آمنة، دفع مالًا ليجرّب فقط الإحساس بقتل إنسان آخر لا يعرفه.
أقف أمام هذا المشهد طويلًا:
مدينة محاصرة بين 1992 و1996، أكثر من 10,000 قتيل في واحد من أطول حصارات العصر الحديث. 
وأناس في أماكن أخرى من أوروبا، يحجزون مقعدًا في طائرة، يمرّون عبر ترييستي وبلغراد، ليصلوا إلى التلال المحيطة بسراييفو، لا ليوصلوا دواء ولا طعامًا، بل ليمسكوا ببندقية قنص ويختبروا شعور تصويب “ناجح” على جسد طفل أو امرأة أو عابر طريق. 
ما الذي كسر إنسانيتنا إلى هذا الحد؟
وأي نوع من الظلام يسمح لإنسان أن يدفع 80 أو 100 ألف يورو ليعيش نهاية أسبوع وهو يقتنص أرواحًا حقيقية كما لو كانت أهدافًا ورقية في ميدان تدريب؟ 
⸻
سراييفو: حاضرة في الجغرافيا، محاصرة في الذاكرة
سراييفو مدينة تقع في حوض محاط بالجبال؛ جمالها الجغرافي هو نفسه ما جعل حصارها سهلًا وقاسيًا: مدينة مكشوفة من أعلى، وأهلها يتحركون تحت عيون القنّاصة. 
خلال الحصار، أصبح شارع ميشا سليموفيتش يُعرف باسم “زقاق القنّاصة”، حيث لا يمكنك أن تمشي أو تعبر الطريق أو تركب الترام من دون احتمال أن تتحوّل إلى هدف. نوافذ الحافلات والترام كانت تُثقب بالرصاص، والناس يتحركون بخوف، كمن يسير في حقل ألغام مفتوح في الهواء. 
في قلب هذا الجحيم، لم يكن القنّاصة جزءًا من “استراتيجية عسكرية” فحسب، بل صاروا رمزًا لرعب يومي:
طلقة واحدة يمكن أن تقطع حوارًا بين أم وطفلها، أو تنهى حلمًا بسيطًا لرجل يحاول فقط عبور الجسر إلى الضفة الأخرى.
تتجسّد هذه العشوائية في قصة بوسكو بركيتش وأدميرا إسميتش، العاشقين اللذين عرفهما العالم باسم “روميو وجولييت سراييفو”. قُتلا عام 1993 أثناء محاولتهما عبور جسر، وبقيت جثتاهما في المنطقة الحرام بين المواقع، لا أحد يجرؤ أن يقترب. تحوّلت صورهما إلى أيقونة تعلن أن الرصاص لا يسأل عن دين ولا قومية؛ يسأل فقط: هل هذا الجسد في مرمى البصر أم لا؟ 
⸻
من “سياحة القنّاصة” إلى “السفاري البشري”
ما كشفته صحيفة الغارديان وغيرها من وسائل الإعلام اليوم، ليس مجرد كلام مرسل، بل تحقيق رسمي يقوده الادعاء العام في ميلانو برئاسة المدعي أليساندرو غوبّي، على خلفية شكوى قانونية تقدّم بها الكاتب والصحفي الإيطالي إتسيو غافاتسيني، مدعّمًا بما جمعه من شهادات ووثائق على مدى سنوات. 
القصة كما تتبدى في الوثائق والشهادات هي كالتالي:
• مجموعات من الأثرياء الأوروبيين، بينهم إيطاليون، يُعتقد أنهم من عشّاق السلاح ومن ذوي الميول اليمينية المتطرفة. 
• يدفع الواحد منهم عشرات الآلاف من اليوروهات – وتذكر بعض التقارير أرقامًا بين 80,000 و100,000 يورو – مقابل “باقة حرب” تشمل نقله إلى التلال التي يسيطر عليها قنّاصة صرب البوسنة. 
• هناك، يُمنح بندقية قنص، وتُتاح له فرصة إطلاق النار على سكان سراييفو المحاصرين، تحت حماية القوات الصربية، وكأنها “لعبة” أو “تجربة متطرفة” يتباهى بها لاحقًا. 
وثائقي “Sarajevo Safari” (سفاري سراييفو) الذي عُرض عام 2022، كان الشرارة التي أعادت هذه الاتهامات بقوة؛ فقد تضمّن شهادات لعسكريين سابقين ومتعاقدين تحدثوا صراحة عن أجانب جاءوا ليطلقوا النار على السكان. 
من هناك بدأ غافاتسيني رحلة بحث جديدة، تواصل مع مخرج الفيلم، ثم اتسع تحقيقه، حتى قدّم شكوى للنيابة الإيطالية، مدعومًا أيضًا بتقرير مفصل من عمدة سراييفو السابقة بنيامينا كاريتش، التي كانت قد رفعت بدورها شكاوى في البوسنة وإيطاليا بعد مشاهدة الوثائقي. 
اليوم، يحقق الادعاء الإيطالي في تهم “القتل العمد مع القسوة والدوافع الدنيئة” ضد أشخاص يُقال إنهم كانوا يلتقون في ترييستي، ثم يتجهون إلى بلغراد، ومنها إلى سراييفو ليشاركوا في “السفاري البشري”. 
حتى لو بقيت بعض التفاصيل محلّ جدل، فإن مجرد احتمال صحّة هذه الوقائع يكفي ليهزّ أي وجدان حيّ.
⸻
حين يلبس الشرّ ربطة عنق
أكثر ما يوجع في هذه القضية أن المشاركين – بحسب ما نُقل عن غافاتسيني – لم تكن لهم دوافع سياسية أو دينية. لم يأتوا انتقامًا ولا بغرض “حماية وطنهم”، بل جاءوا من أجل المتعة الخالصة، من أجل “الإثارة” و“التجربة القصوى”. 
هذا النوع من الشرّ مختلف؛
إنه ليس شرًّا يتغذى من أيديولوجيا، بل شرّ مسترخٍ، يذهب في عطلة نهاية الأسبوع إلى حرب ليست حربه، ليُشبِع رغبة دفينة في العنف.
هؤلاء ليسوا وحوشًا في هيئة جيوش منظمة فقط، بل أفراد عاديون ربما يعيشون اليوم حياة هادئة في مدن أوروبية نظيفة، يرتادون المقاهي والمطاعم، وربما يتحدثون عن حقوق الإنسان وهم يحتسون قهوتهم.
هذا التناقض القاتل بين خطاب الحضارة وممارسة الوحشية هو ما يجلعني أشعر بالغثيان عندما أسمع أصواتًا في أوروبا تشيطن المسلمين والمهاجرين، وتقدّمهم كـ “خطر” على القيم الأوروبية، في حين أن أوروبا نفسها لم تُواجه حتى الآن بصدق تاريخها القريب، لا في البوسنة وحدها، بل في أكثر من مكان.
⸻
من سراييفو إلى خطاب الكراهية المعاصر
عندما أقرأ عن أثرياء يدفعون المال ليقتلوا مسلمين في سراييفو، ثم أسمع في الحاضر أصواتًا – مثل سناء متالكة وأشباهها – تبني شهرتها على شيطنة المسلمين والتحريض على المهاجرين، أشعر أن الخيط بين الماضي والحاضر ليس منقطعًا كما نظن.
هؤلاء المهاجرون الذين يُقدَّمون في الخطاب الشعبوي كـ “غزاة”، كثير منهم جاء من بلاد دمّرتها الحروب، والاحتلال، والتدخلات الخارجية، والفساد المحلي الذي تغذّته تلك القوى.
هؤلاء لم يأتوا إلى أوروبا لأنهم “يعشقون رفاهيتها”، بل لأنهم لم يعودوا يجدون مكانًا آمنًا في أوطانهم.
ومع ذلك، نرى من يُصرّ على تصويرهم كتهديد، متجاهلًا أن أوروبا نفسها لم تُطهِّر سجلّها من جرائم الماضي، ولم تُنصف ضحاياها إلى اليوم.
كيف يجرؤ من يسكت عن سفاري قتل البشر في سراييفو أن يعطينا دروسًا في “التطرّف الإسلامي” و“خطر المهاجرين”؟
هناك نفاق أخلاقي عميق:
• أوروبا الرسمية تتحدث عن “القيم” و“حقوق الإنسان”.
• جزء من الإعلام يختزل المسلم في صورة “لاجئ متهم” أو “مشتبه به محتمل”.
• وملفّات مثل ملف سراييفو تُفتح بعد ثلاثين عامًا تقريبًا، وكأن العدالة تجرّ أقدامها جرًّا. 
إنني لا أكتب هذا دفاعًا عن دينٍ معيّن فقط، بل دفاعًا عن فكرة الإنسان نفسها، عن حقّ أي إنسان أن لا يصبح هدفًا في مرمى بندقية، مهما كان اسمه أو لون جواز سفره.
⸻
ماذا نريد من هذا التحقيق؟
لا أريد لهذا التحقيق أن يكون مجرّد قصة تُضاف إلى أرشيف الأخبار.
أريده – كإنسان، قبل أن أكون مسلمًا أو مهاجرًا أو عربيًا – أن يتحوّل إلى محكمة ضمير، حتى لو فشلت المحاكم الأرضية.
أريد:
1. كشف الأسماء والأدوار
أن نعرف من هؤلاء الذين جاءوا إلى سراييفو للسفاري الدموي. أن تُذكر أسماؤهم في التاريخ كما تُذكر أسماء السفّاحين، لا أن يموتوا بهدوء بعد حياة مرفهة. 
2. اعترافًا صريحًا بالضحايا
ليس فقط من خلال التقارير، بل من خلال مناهج التعليم، وأفلام الذاكرة، والنُصُب التذكارية التي تقول: هنا، في هذه المدينة الأوروبية، قُتل مسلمون على يد “سياح” أوروبيين.
3. مراجعة عميقة للخطاب الأوروبي عن المسلمين يجرم الشيطنة مثل قانون العداء للسامية.
لا يمكن لمنظومة لم تواجه جرائم كهذه بجدية أن تستمر في إلقاء التهم الأخلاقية على الضحية، متجاهلة جذور العنف في قلبها هي.
4. حماية الحاضر من تكرار الماضي
اليوم، في حروب جارية وفي بلاد أخرى، هناك دائمًا خطر أن يُعاد إنتاج الفكرة نفسها: أن يتحوّل الدم إلى تسلية، وأن يصبح جسد الإنسان ساحة لخيالات مريضة تحمل جوازات سفر أنيقة وأرصدة بنكية ممتلئة.
⸻
عن الغضب الذي لا أريد أن أُشفى منه
أنا لا أكتب هذا المقال من موقع “المحلّل البارد”، بل من موقع إنسان يشعر بأنه جزء من هذه القصة، حتى لو لم يكن في سراييفو يومًا.
أنا جزء منها لأنني مسلم، ولأنني أنتمي إلى عالمٍ يُراد له أن يبتلع الهزائم بصمت، وأن يقبل رواية الأقوى بلا سؤال.
لكنني لا أريد الشفاء من هذا الغضب.
أريده غضبًا يبقى حيًا، لكن دون أن يتحوّل إلى كراهية عمياء؛ أريده غضبًا يحمي إنسانيتي من أن تنام، ويمنعني من أن أقبل بخطاب تحريضي رخيص يصدر من شخصيات متطرفة ـ تدّعي الإنسانية وهي تروّج للعنصرية ـ على شاشات التلفاز ومنصات التواصل.
كلّما سمعت صوتًا يهاجم المسلمين أو المهاجرين بمنطق التعميم والتجريم، سأستحضر تلك التلال التي أحاطت بسراييفو، وتلك البنادق التي اعتلتها، وتلك “التذاكر” التي دفع ثمنها أناسٌ يشبهون في مظهرهم بعض هذه الوجوه المتحضّرة في الإعلام.
سأقول لنفسي:
من يبرّر الكراهية اليوم، ولو بالكلمة، يفتح الباب لغدٍ يمكن أن يُبرَّر فيه القتل بالتسلية.
⸻
كلمة أخيرة إلى ذاكرة العالم
في النهاية، لست قاضيًا ولا محققًا، لكنني صاحب ذاكرة، والذاكرة هي آخر ما تبقى لنا حين تسقط كلّ الضمانات الأخرى.
أكتب هذا لأقول للعالم، ولنفسي قبله:
• إنّ العدالة المتأخرة ليست عدالة كاملة، لكنها أفضل من صمتٍ أبديّ.
• وإنّ تذكّر ضحايا سراييفو ليس واجبًا على البوشناقيين وحدهم، بل على كل إنسان رفض أن يتحوّل لحم الإنسان إلى برنامج ترفيهي لعطلة نهاية الأسبوع.
• وإنّ من يهاجم اليوم المهاجر والمسلم باسم “حماية أوروبا”، عليه أن يمرّ أولًا من بوابة سراييفو، وأن يواجه الأسئلة التي تطرحها هذه المدينة على قلبه قبل عقله.
كلّ رصاصة أُطلقت من أجل التسلية،
وكلّ طفلٍ سقط لأن أحدهم أراد أن يجرّب “الإثارة”،
هي دين في عنق الإنسانية كلها، لا يسقط بالتقادم.
— أوزجان يشار
⸻
المصادر
• Angela Giuffrida, “Milan prosecutors investigate alleged ‘sniper tourism’ during Bosnian war”، صحيفة The Guardian، 11 نوفمبر 2025. 
• Íñigo Domínguez, “‘Human safaris’ in Sarajevo: Milan investigates 1990s trips where tourists allegedly paid to kill civilians”، El País English، 11 نوفمبر 2025. 
• “The investigation into ‘human safaris’ in Sarajevo: ‘We hope to identify some of those responsible’”، El País English، 12 نوفمبر 2025. 
• “Siege of Sarajevo drew wealthy foreigners to shoot at civilians, say Italian prosecutors”، Arab News، 12 نوفمبر 2025. 
• “Who were the ‘weekend snipers’ of Sarajevo?”، The Week، 13 نوفمبر 2025. 
• “Italy: Prosecutors probe Sarajevo ‘sniper tourism’ charges”، DW، 13 نوفمبر 2025. 
• “Italy probes if its citizens paid to shoot civilians in Sarajevo siege”، Daily Sabah، 13 نوفمبر 2025. 
• “Sarajevo Safari” (وثائقي، 2022)، مذكور في مصادر متعددة منها ويكيبيديا.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟