أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - مظهر محمد صالح - الطبيب حميد تاج الدين رجالٌ عظامٌ من بلادي














المزيد.....

الطبيب حميد تاج الدين رجالٌ عظامٌ من بلادي


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 01:00
المحور: المجتمع المدني
    


(من سلسلة ازمنة لاتموت )
في ذاكرة الأوطان، لا يُخلد الطبيب بقدر ما يخُلد فعله الإنساني. فكم من طبيبٍ عابرٍ في الحياة ترك في أرواحنا بصمةً من الرحمة لا تُنسى، وكم من موقفٍ بسيطٍ يتجاوز مهنة الطب ليصبح درسًا في الأخلاق والضمير.

كانت تلك الفكرة تراودني يومَ غيّب التقاعدُ طبيبَ العائلة في مدينتي الجامعية أبيرسويث في ويلز، الدكتور جون هيوز ، الرجل الذي تحلّت يداه بالعلم، لكن قلبه كان أوسع من عيادته الصغيرة.
كان يعرف مرضاه جميعًا، يبتسم لهم في الطريق قبل أن يروه، وكأن ذاكرته تُدار بنبضٍ لايخبو من المودّة.

ذات ليلةٍ شاقةٍ قضيتها بين أوجاعٍ مبرّحة في إصبع قدمي، قصدتُ عيادته مع طلوع الصباح.
استقبلني بابتسامته الواثقة وقال:
– ما الخطب أيها الشاب القادم من بلاد الشرق؟
ثم ألقى نظرةً فاحصة على موضع الألم، وقال بكلمةٍ واحدة:
– إنه الـ Gout!
وأضاف:
– إنه مرضٌ مزمن، وما عليك إلا أن تتناول الدواء طيلة حياتك.

خرجتُ من عنده مثقلاً بأسئلتي القديمة والجديدة، فتوجهت إلى مكتبة الجامعة أبحث في دائرة المعارف الطبية البريطانية عن هذا الداء الغامض، فوجدت أن أسبابه غير معروفة على وجه الدقة، رغم آلامه الحادة التي تلسع الجسد بحدةٍ تكاد تُفقد التوازن.
وحين علمتُ أنه “داء الملوك”، ابتسمتُ في مرارة، وأدركت أن للملوك عاهةً لا يقيهم منها عرشٌ ولا سلطان، وأن الألم حين يتغذّى على رفاه اللحم والترف، يفضح هشاشة الجسد مهما تعاظم صاحبه.

وفي غمرة الألم، تهادى إلى ذاكرتي طبيب الطفولة في مدينتي العراقية، الطبيب حميد تاج الدين، ذاك الرجل الذي كان يحضر إلى دارنا كلما مرضتُ وأنا طفل، دون أن يُستدعى أو ينتظر مقابلًا.
كان وجهه يفيض بالطمأنينة، وكأن بين يديه سكينةً لا تنتمي إلى زمننا، وكان علمه وأخلاقه قرينين في إنسانٍ واحد.
كنتُ أشعر أن المرض يغادرني حين يضع سماعته على صدري، لأن الرحمة كانت هي الدواء الحقيقي. وتعلمت ان في بعض الوجوه، يسكن الأمل كما يسكن النور في الفجر.
فرحتُ حين علمتُ بعد أعوام أنه بلغ مركزًا أكاديميًا رفيعًا، فقد ظلّ في ذاكرتي رمزًا للطب النبيل في عراق الخمسينيات، حين كان ومازل الطبيب إنسانًا قبل أن يكون موظفًا، ورسولَ عافيةٍ قبل أن يكون ممارسًا لمهنة.

وحين رأيتُ جون هيوز بعد تقاعده يدير حوارًا في إحدى منظمات المجتمع المدني، أحسستُ أن الذاكرة مدّت خيطها بين رجُلين عظيمين التقيا في ضميري:
حميد تاج الدين وجون هيوز، أحدهما من الشرق سكن ضفاف الفراتين والآخر من الغرب سكن ساحل البحر الايرلندي الشرقي ، جمعتهما إنسانيةٌ واحدة لم تعرف الحدود الا مياه النهر والبحر .

في كل زمنٍ، يظل الطبيب الحقيقي هو من يَمسح الألم من الروح قبل الجسد، ويزرع في المريض شعورًا بأن العالم ما زال بخير.
وما بين حميد تاج الدين وجون هيوز تتجلّى حكمةٌ إنسانية عميقة:
أنّ الرحمة هي الوطن الأول للعلم،
وأنّ العظمة لا تُقاس بما نحمله من شهادات والقاب ، بل بما نتركه من أثرٍ طيب في قلوب الناس.. وفي كل يدٍ تمسح الألم، تنبض الحياة بمعناها الحقيقي. في تلك اللحظات من تاريخ الرجال، توهج الضوء بين يدي طبيبين، وظهر فوق رؤوسهم كلمة “الرحمة”كأنها وطنٌ مشتركٌ لا يعرف الحدود.



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خطاب الصمت في الفضاء الرقمي السائل
- منظر دجلة بين طفولتي وكهولتي: الخوف والخجل
- علم النفس التربوي يوم تعثّرت أيديولوجياته في ذاكرة طفولتي
- رغيف الخبز: الأم والوطن والطفولة (من ذاكرة الجمر والقمح)
- قصر النهاية: حين مررنا بالسجن ولم نعد إلى بابل
- الشاي… نباتُ الصين العظيم من قرن الإذلال إلى الحرب التجارية ...
- اقتصاد الدموع : حين يصبح الحنين عملةً رمزية.
- خليجان يحرسهما قمر واحد – من أزمنة لا تموت رحلة تأملية بين ف ...
- السفرة المؤجَّلة: أزمنة لا تموت
- تحت ظلال شجرة النارنج: مدرسة زهاء حديد في بغداد
- جدلية الظل والمصالحة مع الذات : القرين الخفي مرآة ديستوفسكي ...
- بكاء الأمهات على بوابة سجن متخلف..
- البنادق مقابل اللوبستر البحري: مقاربة في الاقتصاد السياسي لم ...
- وزارة الخزانة الأميركية .. قوة إمبراطورية وأسطورة ورقة نقدية ...
- تأميم المصنع الوطني: التاريخ الذي أحزن والدي
- ربطة العنق: متلازمة التعليم والأناقة في بغداد
- حرب السويس تشتعل… وخالتي تبحث عن ابنها
- حكاية خبز .. بين أمستردام ومدينتي
- جون تايلور في بغداد: حين التقت السياسة النقدية بجنرالات اللي ...
- نزار قباني على رصيف الذكرى… ليتني لم أره فرحًا


المزيد.....




- المغرب.. تهم بالاعتداء الجنسي على لاجئين قاصرين تلاحق راهبا ...
- الأمم المتحدة تحذر من تدهور خطير بغابات نصف الكرة الشمالي
- قصة عائلة فلسطينية تلاحقها الاعتقالات منذ 35 عاما
- قصة عائلة فلسطينية تلاحقها الاعتقالات منذ 35 عاما
- اجتماع نادر بين دبلوماسيين أمريكيين وفلسطينيين في الأمم المت ...
- رابطة العالم الإسلامي تطلق نداء عاجلا لإنقاذ الشعب السوداني ...
- الأمم المتحدة تنتظر -بفارغ الصبر- نسخة جديدة من خطة الحكم ال ...
- الأمم المتحدة تنتظر -بفارغ الصبر- خطة المغرب المحدّثة للحكم ...
- عامان على -الفارس الشهم 3-.. الإمارات تواصل إغاثة أهالي غزة ...
- رئيس الوزراء السوداني يكذب تقارير الأمم المتحدة: لا مجاعة في ...


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - مظهر محمد صالح - الطبيب حميد تاج الدين رجالٌ عظامٌ من بلادي