أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رانية مرجية - الفتاة التي سرقت الشمس















المزيد.....

الفتاة التي سرقت الشمس


رانية مرجية
كاتبة شاعرة ناقدة مجسرة صحفية وموجهة مجموعات

(Rania Marjieh)


الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 22:11
المحور: الادب والفن
    


التقيتُ بها في أحد الأزقة التي لا تصلها الكاميرات ولا تعنيها النشرات الرسمية.

كانت ترتجف وهي تمسك قطعة حلوى لم تدفع ثمنها.

نظرت إليّ بعينين واسعتين كأنّهما تبحثان عن مخرجٍ من شيءٍ أعمق من الخطأ، وقالت:

«أنا أسرق منذ كنت في الثالثة… أمي علّمتني هذا».



لم تكن تعتذر. لم تكن تتفاخر. كانت فقط تقول الحقيقة كما لو كانت جملة بيولوجية، مثل أن تقول: “أنا أتنفس.”

في تلك اللحظة، لم أرَ لصّة؛ رأيت ضحايا متوارثين، جيلًا بعد جيلٍ من الأيادي الممدودة إلى اللاشيء.

1. حين تُصبح الجريمة تربية


أمّها — كما قالت — كانت تبتسم كلّما عادت الطفلة بشيءٍ جديد.

لم تكن السرقة عندها فعلًا شريرًا، بل مهارة نجاة.

كانت الأم تُدرّبها على البقاء، لا على الغش.

كانت ترى العالم وحشًا كبيرًا لا يرحم البريئين، فأرادت أن تجعل ابنتها مستعدة لافتراسٍ مبكر.



في عالمٍ يحرم الناس من أبسط حقوقهم، الخطأ يصبح أحيانًا بديلاً عن الفقر، والسرقة تتحول إلى لغةٍ للكرامة المهدورة.

أمّ علّمت طفلتها السرقة ليست مجرمة، بل أمّ فشلت الدولة في تعليمها كيف تعيش دونها.

2. العقل المختلف… المرآة التي نكسرها


الفتاة التي علّمتها أمها الأخذ ليست «مجرمة» بالمعنى الذي نحبه في تقاريرنا.

هي شابة بعمر الثلاثين، بإعاقةٍ تطورية ذهنية تجعلها تفكر كطفلةٍ في جسد امرأة.

وهذا وحده كافٍ ليُدينها المجتمع مرتين: مرة لأنها تسرق، ومرة لأنها مختلفة.



كم من العقول الجميلة دمّرناها لأننا لم نفهم إيقاعها المختلف؟

كم من الأرواح أُطفئت لأننا خفنا من اختلافها بدل أن نقرأه؟

هي تقول ببساطة: «أمي كانت تحبني بهذه الطريقة.»

ونحن، بعُقدنا المتحضّرة، نحاكم الحبَّ حين يخرج عن القوالب.

3. الميراث النفسي للنجاة


ما ورثته هذه الفتاة ليس عادة السرقة، بل فلسفة البقاء: أن تأخذ قبل أن تُؤخذ.

في كل مرةٍ كانت تمتد يدها نحو شيءٍ، لم تكن تمتد بدافع الطمع، بل بدافع الخوف من العودة إلى الجوع القديم.

ولأنّ الخوف أكثر قسوة من الجوع، كانت السرقة بالنسبة لها طقسًا مقدسًا ضدّ العدم.



الأنظمة القانونية لا تفهم هذا النوع من الخوف.

تسجنه، تُعاقبه، تُسميه «سلوكًا منحرفًا».

لكن أي علمٍ هذا الذي لا يرى في الانحراف صرخة إنسانٍ حُرم من البدائل؟

4. عيون المجتمع التي لا ترى


الفتاة التي تسرق تُعرِّي منظومة كاملة.

الشرطة تراها متهمة.

الأطباء يكتبون عنها “محدودة الإدراك”.

المجتمع يراها عبئًا، مادةً للتندر أو الشفقة.

لكن لا أحد يسأل السؤال البسيط الذي يغير كل شيء:

من سرقها أولًا؟



سرقوها حين تجاهلوا أمها الفقيرة.

حين أهملوا تعليمها الخاص.

حين تركوها تكبر بلا علاجٍ ولا احتواءٍ ولا رعايةٍ نفسية.

ثم حين صارت تشبههم — في أخذ ما ليس لها — أسموها لصّة.

5. الفعل الذي تحوّل إلى فن


ذات يوم، عثرت هذه الفتاة على نفسها في ورشةٍ صغيرة لصناعة الدمى.

قالت لي: «هنا، أصبحتُ أستخدم نفس اليد التي كانت تأخذ، لأصنع شيئًا.»

كانت تضحك وهي تمسك إبرة الخياطة كمن يرفع سلاحًا جديدًا ضدّ القدر.



ما تصنعه هناك ليس دمىً فحسب، بل رموزًا للتحول.

هي لا تعرف أن فعلها هذا هو أحد أجمل الدروس في علم النفس:

حين يتحول السلوك القهري إلى إبداعٍ تعبيريّ، تتحول الجريمة إلى شفاء.



يدها الآن لم تعد تسرق الأشياء، بل الضوء نفسه — تسرقه من الظل وتعيده في شكلٍ آخر، على هيئة وجه دميةٍ تبتسم للعالم الذي خاف منها.

6. من الجريمة إلى الفلسفة


حين جلست أكتب عنها، اكتشفت أن هذه القصة ليست عن السرقة أبدًا، بل عن الاختلاف كأعلى درجات الوعي الإنساني.

الفتاة لم تخرق القانون، بل كشفت هشاشته.

لم تسرق الأشياء، بل اختبرت قدرتنا على الفهم.



هي تجعلنا نطرح أسئلة محرّمة:

هل من يرتكب الخطأ دائمًا مذنب؟

هل يمكن أن يكون اللصّ مرآةَ فشلنا الجماعي في بناء العدالة؟

وهل نحن نملك الحق في إدانة مَن لم نمنحه يومًا فرصة الاختيار؟

7. الأم… الجرح الأول والمعلّمة الأولى


كلّ شيءٍ يبدأ من الأم.

هذه الجملة، البسيطة حتى الابتذال، تتحول هنا إلى مأساةٍ أخلاقية.

الأم التي سرقت لتطعم، ربّت طفلةً تسرق لتعيش.

وبين الفعلين خيطٌ واحد: النجاة باسم الحبّ.



في علم النفس، يسمونه “الإسقاط العلاجي”.

وفي الواقع، نسميه ببساطة: “القدر”.

لكن هل القدر هو ما فعلته الأم، أم ما لم تفعله الدولة؟

8. الكتابة كخلاص جماعي


الفتاة اليوم تكتب.

تكتب كما لو أن الكتابة طريقةٌ لتفريغ يدها من الذنب.

تقول: “حين أكتب، لا أحتاج أن أسرق. الكلمات تُشبعني”.

يا له من اعترافٍ يفضح العالم بأسره!

أن تصل إنسانة إلى هذه القناعة يعني أنها وجدت طريق الخلاص الذي عجزت عنه كل مؤسسات “الإصلاح”.



الكتابة كانت علاجها، لا المحكمة.

الدفتر صار علاجًا نفسيًا، بينما ظلت العدالة القانونية عاجزة عن الفهم.

9. ضدّ النسيان


كتبتُ عنها لأني أعرف هذا النوع من الوجع.

ليس لأنّي أبرّر، بل لأنّي أرى خلف الجريمة وجوهًا تُشبهنا حين نُحاصر.

كتبتُ عنها لأقول:

هناك أخطاءٌ لا تُعالج بالعقاب، بل بالحبّ، بالعلم، بالفهم.

هناك لصوصٌ لا يريدون المال، بل دفئًا لم يجدوه في أحد.



هذه القصة لا تدافع عن فعلٍ، بل تدافع عن الحق في الفهم قبل الحكم.

خاتمة: الفتاة التي أعادت الشمس


الآن تعمل تلك الفتاة في ورشةٍ صغيرة.

تصنع دمىً تبيعها في الأسواق.

لكن ما لا يراه الناس أن كل دمية تحمل خيطًا من ماضيها، وأنها حين تطرّز الوجوه بالخيوط، كأنها تُخيط ثقوب روحها هي.



كلما رأيتها، أتذكّر جملتها:

«كنت أسرق الشمس لأدفأ. والآن، أعيدها للسماء بخيطٍ وإبرة.»



ربما، في النهاية، لم تكن السرقة سوى اسمٍ آخر لمحاولةٍ يائسة للحياة.

وربما لم تكن هي التي سرقت الشمس —

بل نحن الذين أطفأناها، ثم تركناها تبحث عن ضوءٍ وحدها.



#رانية_مرجية (هاشتاغ)       Rania_Marjieh#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعب الوعي… حين تصبح الروح ساحة حرب
- غزة… حين تنبعث من قلب الرماد
- لا تحفر لي حفرة
- حين يفكّر الله فينا… ينهزم اليأس
- قراءة في قصيدة -وجع- للشاعرة رانية مرجية بقلم د. عادل جوده/ ...
- حين تتحد الأرواح رغم اختلاف الأسماء
- ‏قراءة ادبية ‏ قي قصسدة ارحمنا يا الله للشاعرة رانية مرجية & ...
- الذين باركوا القتل رواية رانية مرجية 2 ...
- رولا.. الرواية التي تنسج الحلم الفلسطيني بخيوط الوجع والكرام ...
- قراءة في قصة -الصدق أحلى يا أصحابي- للدكتورة سيما صيرفي
- بعد موت أمي
- ‏قراءة الأدبية لرواية -الذين باركوا القتل- ‏ للكاتبة رانية م ...
- قراءة أدبية (( ملحمة الرماد والنبض) ) لرانية فؤاد مرجية بقلم ...
- الذين باركوا القتل – غلاف فارغ
- تنهيدة حرية: حين تكتب المرأة وجعها بالحبر والمقاومة
- «نبضات محرّمة»: حين يكتب القلب ما يحرّمه المجتمع
- تنهيدة حرية… رواية تُعيد كتابة الوجع الفلسطيني بأنفاس النساء
- وصيّة الأرض قبل القيامة
- سِفْرُ الكَلِمَةِ الأُولَى (أنشودة النور الكوني)
- أمهات الأرض


المزيد.....




- -ليلة السكاكين- للكاتب والمخرج عروة المقداد: تغذية الأسطورة ...
- بابا كريستوفر والعم سام
- ميغان ماركل تعود إلى التمثيل بعدغياب 8 سنوات
- بمناسبة مرور 100 عام على ميلاده.. مهرجان الأقصر للسينما الأف ...
- دراسة علمية: زيارة المتاحف تقلل الكورتيزول وتحسن الصحة النفس ...
- على مدى 5 سنوات.. لماذا زيّن فنان طائرة نفاثة بـ35 مليون خرز ...
- راما دوجي.. الفنانة السورية الأميركية زوجة زهران ممداني
- الجزائر: تتويج الفيلم العراقي -أناشيد آدم- للمخرج عدي رشيد ف ...
- بريندان فريزر وريتشل قد يجتمعان مجددًا في فيلم -The Mummy 4- ...
- الكاتب الفرنسي إيمانويل كارير يحصد جائزة ميديسيس الأدبية


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رانية مرجية - الفتاة التي سرقت الشمس