عاهد جمعة الخطيب
باحث علمي في الطب والفلسفة وعلم الاجتماع
(Ahed Jumah Khatib)
الحوار المتمدن-العدد: 8508 - 2025 / 10 / 27 - 07:02
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
المعرفة البشرية ظنية بطبعها وكلما اقتربت من اليقين يطرأ عليها متغير من الشك يعيدها الى دائرة البحث والتمحيص
1) ما طبيعة “الظنّ” في المعرفة؟
الظنّ هنا ليس وهماً، بل درجةُ تصديقٍ راجحة تقف تحت اليقين المنطقي الصارم. في الخبرة اليومية والعلوم التجريبية، معظم أحكامنا ظنية بهذا المعنى: مرجّحة بالأدلة، لا مُبرهَنة نهائياً.
في التراث الإسلامي يُفرَّق بين الظن الراجح واليقين؛ الأول كافٍ للعمل والقضاء أحياناً، والثاني مطلوب في العقليات والرياضيات. هذا التمييز يقي من ثنائيةٍ حادّة بين “كلّي يقين” و“كلّي شك”.
2) لماذا يَظهر الشكّ كلما اقتربنا من اليقين؟
الاستقراء وهيوم: لا شيء يضمن أن المستقبل يُطابق الماضي؛ لذا يبقى الاستقراء ظنياً مهما تراكمت الشواهد.
بوبر وقابلية الدحض: اقتراب النظرية من “النجاة من الاختبارات” يوسّع مجال تجريبها، فتتعرض لاحقاً لمحكٍّ أدق قد يهزّ وثوقنا السابق.
كوهن والبرادايم: داخل النموذج العلمي يبدو اليقين متماسكاً؛ لكن تراكم الشذوذات يخلق أزمة تُعيد المعارف إلى غربال إعادة التعريف.
بايز: كل دليل يحدّث اعتقادنا، غير أن احتمال الخطأ لا ينعدم رياضياً؛ يضيق فقط. كل اقتراب من 1.0 يترك ذيلاً—ولو ضئيلاً—لعدم اليقين.
غودل: حتى في الأنظمة الصورية، الاكتمال اليقيني متعذر؛ ما يذكر بأن “النهائيات” المعرفية موهومة.
3) الشكّ: هادم أم مُنشِّط؟
شكّ منهجي (الغزالي/ديكارت بطريقتين مختلفتين): أداةُ تمحيص لا إقامة. يقوّي البراهين بقدر ما يُسقط الأوهام.
حين نلامس “اليقين العملي”، يظهر شكّ دقيق يسأل عن الفرضيات الخفية، طرق القياس، تحيزات العيّنة، صلاحية الأدوات—فيعيد الدورة: برهنة ← اختبار ← مراجعة.
4) اعتراضات محتملة
الرياضيات والمنطق: أليس فيهما يقين؟ نعم، لكن يقينهما مشروط بقبول المسلّمات وقواعد الاستدلال. اليقين داخليّ للنظام، لا كونيّاً مطلقاً.
التجربة المباشرة: “أشعر بالألم الآن” يقينيّ ذاتياً؛ لكنه لا يترجم بلا وسائط إلى تقريراتٍ عامة عن العالم الخارجي دون درجاتٍ من الظن.
5) تمييزٌ عمليّ مفيد
يقينٌ منطقي/رياضي: داخليّ، برهانيّ.
يقينٌ تجريبيّ: أقرب إلى “اطمئنانٍ عالٍ الاحتمال”، قابل للتخطئة.
يقينٌ أخلاقي/عملي: يكفي للعمل واتخاذ القرار مع إبقاء باب المراجعة مفتوحاً.
6) ثمرة الموقف
يولِّد تواضعاً معرفياً: لا نُطلق الأحكام النهائية، ولا نجمد على نموذج واحد.
ويمنح شجاعةً منهجية: نختبر أقوى قناعاتنا بدلاً من تحصينها ضد النقد.
ويؤسس ثقافة تراكمية: المعرفة الجيدة ليست التي تدّعي العصمة، بل التي تَسْتَوعِبُ ما يدحضها أو يُحسِّنها.
خلاصة
المعرفة البشرية، في أغلب ميادينها، راجحة لا قاطعة. وكل اقترابٍ من اليقين يُحرِّك حوله هالةً من الأسئلة الدقيقة، فتعود المعرفة إلى دائرة البحث والتمحيص. ليست هذه لعنةً تشكيكية، بل محرّك التقدم: يقينٌ مؤقت للعمل، وشكٌّ مُنظَّم للتحسين. هكذا نحافظ على يقين مسؤول لا يُصاب بالغرور، وعلى شكٍّ بنّاء لا ينحلّ إلى عبث.
#عاهد_جمعة_الخطيب (هاشتاغ)
Ahed_Jumah_Khatib#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟