عاهد جمعة الخطيب
باحث علمي في الطب والفلسفة وعلم الاجتماع
(Ahed Jumah Khatib)
الحوار المتمدن-العدد: 8447 - 2025 / 8 / 27 - 13:55
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تكمن السعادة الحقيقية والدائمة حيثما يكون الله حقيقة في وجدانك
تحمل هذه الفكرة شحنة فلسفية وروحية عميقة، ويمكن أن ننظر إليها من عدة مستويات متداخلة: وجودية، معرفية، أخلاقية، وروحية.
1. البعد الوجودي:
السعادة هنا ليست حالة انفعالية عابرة مرتبطة باللذة أو المتعة، بل هي نمط وجودي متأصل في الإنسان عندما يتصل بمصدر الكينونة ذاته؛ أي بالله. فالله ليس فكرة مجردة أو تصوراً عقلياً فحسب، بل هو حقيقة وجودية تتجلى في عمق الوجدان. حين يصبح الله حقيقة في الوجدان، يخرج الإنسان من عبثية الوجود ومن خواء الماديات، ويشعر أن لحياته غاية ومعنى. ومن دون هذا المعنى، تبقى كل لذة ناقصة وكل سعادة مؤقتة محكومة بالزوال.
2. البعد المعرفي:
السعادة الحقيقية تقوم على نوع من المعرفة الوجدانية، لا المعرفة العقلانية وحدها. الفيلسوف الديني ككيركجارد تحدث عن "قفزة الإيمان"، حيث المعرفة العقلية لا تكفي لإشباع الوجود البشري، بل يحتاج الإنسان إلى اختبار وجودي مباشر لله في وجدانه. السعادة هنا ليست نتيجة برهان، بل ثمرة حضور داخلي لله في الإنسان، يبدد شكوكه وقلقه ويحرره من اغترابه.
3. البعد الأخلاقي:
إذا كان الله حقيقة في وجدان الفرد، فإن القيم الأخلاقية تتحول من مجرد أوامر خارجية إلى إلهام داخلي. السعادة إذن تنبع من الانسجام بين السلوك الخارجي والقناعة الداخلية. وحين يغيب الله عن الوجدان، يصبح الإنسان عرضة للانحراف نحو الأنا والأنانية، فيتحقق ما يسميه أرسطو "العيش غير الفاضل" الذي يقود إلى الشقاء. أما حضور الله فيصنع وحدة بين الحق والخير والجمال، وهي العناصر الثلاثة التي رآها أفلاطون أساساً لأي سعادة دائمة.
4. البعد الروحي:
الفلسفات المادية تربط السعادة بالملكية والاستهلاك والنجاح الخارجي، لكن هذه السعادة هشة تتبخر عند أول صدمة. في المقابل، السعادة التي تنبع من حقيقة الله في القلب تتسم بالدوام، لأنها مرتبطة بالمطلق وليس بالنسبي. إنها سعادة "سلام داخلي"، لا تهزها تقلبات الزمن ولا نوائب الدهر. وهذا يفسر لماذا كان الزهاد والمتصوفة يعيشون في قلة مادية لكن في وفرة معنوية.
5. جدلية الحضور والغياب:
الإنسان قد يعرف الله عقلياً ولكنه لا يجده حقيقة في وجدانه، فيعيش تمزقاً بين الفكر والروح. أما عندما يصبح الله حقيقة حيّة في قلبه، يزول الانفصام، ويولد نوع من الطمأنينة الوجودية التي أشار إليها القرآن: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ". هنا تتجسد السعادة كطمأنينة، لا كإثارة أو انفعال عابر.
6. الخلاصة:
السعادة الحقيقية والدائمة إذن ليست في امتلاك الأشياء، ولا في تحقيق الرغبات الحسية، بل في تجذر المطلق في الوجدان الإنساني. حين يصبح الله حقيقة لا غياب لها في القلب، تتحرر النفس من قلق الفناء، وتتجاوز محدودية الزمن، وتغدو السعادة حالة أبدية ممتدة لا يعتريها نقصان.
#عاهد_جمعة_الخطيب (هاشتاغ)
Ahed_Jumah_Khatib#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟