الفلسفة الشاملة للحياة اليومية (TDLP): المفهوم والأسس الجديدة (53)

عاهد جمعة الخطيب
باحث علمي في الطب والفلسفة وعلم الاجتماع
(Ahed Jumah Khatib)

الحوار المتمدن-العدد: 8427 - 2025 / 8 / 7 - 07:20
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

الحياة بين التخطيط والحدوث: قراءة فلسفية لعبارة "الحياة أنشطة تحدث معك خلال انشغالك بتنفيذ خطط أخرى"
الملخص
تتناول هذه المقالة تأملًا فلسفيًا في عبارة "الحياة أنشطة تحدث معك خلال انشغالك بتنفيذ خطط أخرى"، منطلقة من زوايا متعددة تشمل الفلسفة الوجودية، فلسفة الزمن، مفاهيم الإرادة الحرة، ووعي اللحظة في الفلسفة الشرقية. تستعرض المقالة التوتر القائم بين التخطيط والعيش اللحظي، وتناقش حدود سيطرة الإنسان على مجريات الحياة، مقدّمة في النهاية دعوة للانتباه إلى الحياة كما تحدث، لا كما يُخطط لها.
مقدمة
من المألوف أن ينشغل الإنسان بوضع الخطط المستقبلية، ورسم معالم طريقه في الحياة، سواء على المستوى المهني أو الشخصي أو الاجتماعي. غير أن الحياة، بما تحمله من مفاجآت وتقلّبات، كثيرًا ما تتخذ مسارًا مختلفًا. في هذا السياق، تظهر عبارة "الحياة أنشطة تحدث معك خلال انشغالك بتنفيذ خطط أخرى" كمدخل فلسفي عميق لمساءلة مفاهيم الوعي، الإرادة، الزمن، والسيطرة. فهل الإنسان فاعل في حياته أم منفعِل بها؟ وهل قيمة الحياة تُقاس بتحقيق الأهداف أم بعيش اللحظة؟
أولًا: مفارقة التخطيط والعيش الواقعي
تنبع أهمية العبارة محل الدراسة من مفارقتها المركزية: بين ما نخطط له وما يحدث فعلًا. إذ يُظهرها السياق كأنها تقف في وجه النموذج العقلاني الغربي الذي يُقدّس الترتيب والهيكلة والسيطرة. الإنسان في سعيه نحو الإنجاز قد يغفل عن حقيقة أن العيش لا ينتظر اكتمال الخطة. هذا التوتر الفلسفي بين الإرادة والواقع سبق أن عالجه مارتن هايدغر حين تحدث عن الإنسان بوصفه "كائنًا في العالم"، يعيش دائمًا وسط الأحداث لا خارجها.
ثانيًا: من الوجودية إلى العبثية: عشوائية الحياة
ينتمي هذا القول إلى بنية فكرية عبثية تجد في الحياة فوضى دائمة. فبحسب ألبير كامو، يتصادم الإنسان مع واقع لا يقدم أجوبة واضحة لتساؤلاته، ما يجعل الحياة بلا معنى متماسك. من هنا، فإن الانشغال بوضع الخطط، وإن بدا عقلانيًا، قد يكون نوعًا من إنكار الواقع العبثي الذي لا يخضع لقوانيننا ولا لتصوراتنا. فاللحظات التي تطرأ دون تخطيط هي التي تعكس واقع الحياة كما هي، بلا أقنعة.
ثالثًا: فلسفة الزن: الحضور واليقظة
في المقابل، تدعو الفلسفة الشرقية، لا سيما الزن البوذية، إلى ترك وهم السيطرة والانخراط التام في اللحظة الراهنة. التخطيط، بحسب هذه الرؤية، يفصل الإنسان عن ذاته، ويضعه في حالة من الترقّب المستمر الذي يمنعه من تذوّق الحياة. عبارة "الحياة تحدث أثناء انشغالك بالتخطيط" في هذا السياق، هي دعوة للتوقف، للتأمل، وللعيش الآني. فاللحظة الحقيقية لا تنتظر المخطط، بل تكشف ذاتها لمن هو حاضر ذهنيًا ووجوديًا.
رابعًا: سؤال الإرادة الحرة والتحكم
تفترض العبارة تساؤلًا جوهريًا عن الإرادة: هل نحن من نُوجّه حياتنا فعلًا؟ أم أن الحياة، كقوة تتجاوز الفرد، هي التي تُعيد تشكيلنا؟ الفلاسفة مثل ديفيد هيوم وباروخ سبينوزا رأوا أن الإرادة الإنسانية ليست حرّة بالكامل، بل تتأثر بسلاسل سببية وسياقات لا نتحكم فيها. التخطيط هنا يُعد تعبيرًا عن محاولة للهيمنة على المجهول، بينما الأحداث العفوية تكشف عن حدود هذه الهيمنة، وربما عن وهم السيطرة ذاته.
خامسًا: الحياة كهوية في التفاعل
لا يمكن بناء هوية إنسانية متكاملة دون الاعتراف بأن ما يُغيّرنا في العمق هو ما لم نخطط له. الشخصيات التي نصبح عليها تتشكل من علاقات عابرة، أحداث غير متوقعة، تجارب لم تكن ضمن الأجندة. بذلك، فإن اللحظات غير المخطط لها لا تُقلل من قيمة الذات، بل تُعمقها، وتجعل من الحياة سيرورة لا يمكن التحكم فيها كليًا. بهذا المعنى، نحن لسنا فقط فاعلين في حياتنا، بل أيضًا متفاعلين مع مجرياتها.
سادسًا: بين تأجيل العيش ووعي القيمة
غالبًا ما نؤجل "العيش الحقيقي" إلى ما بعد انتهاء التزاماتنا وخططنا ومهامنا. غير أن العبارة قيد الدراسة تكشف خطورة هذا التأجيل. الحياة لا تنتظر "الفراغ" أو "المثالية"، بل تُمارس نفسها في وسط الضوضاء، المسؤوليات، والإخفاقات. لذا فإن وعي الإنسان بقيمة اللحظة، مهما كانت غير مكتملة، هو ما يمنحه المعنى الحقيقي للحياة. هذا ما تؤكد عليه الفلسفة الوجودية عند جان بول سارتر وكيركيغارد.
خاتمة
إن عبارة "الحياة أنشطة تحدث معك خلال انشغالك بتنفيذ خطط أخرى" ليست مجرد تعليق عابر، بل هي موقف فلسفي يعكس نقدًا لثقافة الإنجاز المنفصلة عن الوجود الحقيقي. هي دعوة للتأمل، للوقوف، للعودة إلى اللحظة، والاعتراف بأن الحياة ليست مشروعًا خطيًا يمكن التحكم به، بل تجربة دائمة الحدوث خارج السيناريوهات التي نرسمها.

#عاهد_جمعة_الخطيب (هاشتاغ)       Ahed_Jumah_Khatib#          

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل