عاهد جمعة الخطيب
باحث علمي في الطب والفلسفة وعلم الاجتماع
(Ahed Jumah Khatib)
الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 09:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تفشِّي الأدعياء وندرة القدوات الأصيلة: قراءة فلسفية في أزمة المعنى والقدوة
ربما تكمن الأزمة الأعمق التي تعصف بمجتمعاتنا المعاصرة في هذا التناقض الصارخ بين وفرة الأدعياء وندرة النماذج. فمن الدين إلى التعليم، ومن الثقافة إلى السياسة، تملأ الساحة شخصيات تدّعي الحكمة، تتكلم باسم القيم، وتطرح نفسها أوصياء على الحقيقة، بينما الواقع ينطق بالخذلان والتراجع والفراغ.
لقد شيّدنا آلاف المساجد، وبنينا مئات الملاعب، وأنشأنا جامعات لا تُحصى، ولكننا فشلنا في بناء الإنسان. وهنا لا نعني الإنسان كمجرد كائن بيولوجي يعيش ويتكاثر، بل نعني الإنسان الذي يتكوّن أخلاقياً، ويتبلور وجودياً، فيصبح فاعلاً في مجتمعه، شاهداً في تاريخه، متسقاً مع ضميره. إن التنمية الحقيقية لا تبدأ من البنية التحتية، بل من البنية الداخلية للإنسان.
ووسط هذا الحشد من المتفرجين والمعلقين والمتحذلقين، يغيب النموذج الذي يُحتذى به، ذلك الذي لا يُعلِّم فقط بالقول، بل بالحضور والموقف والمثال. لقد تحولت القدوة إلى صورة قديمة في أرشيف الذاكرة، واستُبدلت بشخصيات مؤقتة، سرعان ما تنهار عند أول اختبار للثبات.
والمفارقة الفلسفية هنا أن المجتمع الذي تكثر فيه الألقاب وتقلّ فيه القامات، سرعان ما يفقد بوصلة المعنى. فالأزمة ليست في عدد المصلّين، بل في غياب الورع؛ ليست في وفرة الكتب، بل في ضياع الحكمة؛ ليست في كثرة الخطابات، بل في قلّة من يُجسّدونها سلوكاً ومعنى.
إن هذا التناقض يعكس ما يمكن تسميته بـأزمة الضمير الجمعي، حيث لم يعد الناس يبحثون عن الحقيقة، بل عن ما يُشبهها؛ لم يعودوا يتطلّعون إلى المثال، بل إلى ما يملأ الفراغ، حتى لو كان زائفاً. ولهذا فإن «الادّعاء» لم يعد عيباً في هذا المناخ، بل أصبح مهارة يُكافأ صاحبها.
فأين هو الإنسان الذي يعيش كما يُؤمن؟ أين هو المفكر الذي لا يخشى التكلّم بصدق؟ أين هو المربّي الذي يربّي بسلوكه قبل كلامه؟ إننا لا نحتاج إلى مزيد من الخطباء ولا إلى مزيد من المؤسسات؛ نحن بحاجة إلى من يعيش القيمة في تفاصيله اليومية، إلى من لا يتكلّم عن النور بل يصير نوراً.
وهنا، يبرز السؤال الأخلاقي والفلسفي العميق: كيف يمكن لمجتمع أن ينهض، إن لم يكن فيه من يستطيع أن يمشي أمامه ويقول: هكذا أكون إذا آمنتُ بما أقول؟
الجواب لا يكمن في تنظير آخر، بل في ميلاد جديد للضمير، للصدق، وللشجاعة الأخلاقية التي تعيد للقدوة معناها، وللحياة اتزانها.
#عاهد_جمعة_الخطيب (هاشتاغ)
Ahed_Jumah_Khatib#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟