مازن صاحب
الحوار المتمدن-العدد: 8500 - 2025 / 10 / 19 - 21:30
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
رغم أن اسم "العراق" برز عنوانا رئيسيا في شعارات معظم التحالفات الانتخابية، إلا أن برامجها لم تحمل من هذا العنوان سوى التسمية، كيف يمكن لشعارات براقة أن تتحول إلى واقع ملموس؟ ولماذا تظل الفجوة واسعة بين الخطاب السياسي والممارسة العملية؟ إن "رؤية عراق 2050" ليست ترفا فكريا، بل ضرورة وجودية، تمثل الأمل الأخير لإنقاذ البلاد مما يعانيه في مختلف القطاعات، فإما أن نعمل جميعاً لتحقيقها، وإما أن نستسلم لدوامة الفشل التي تهدد مستقبل الأجيال المقبلة، اذ تشكل مشروعا استراتيجيا شاملا يطمح تحويل العراق إلى دولة مستقرة ومزدهرة بحلول منتصف القرن، ترتكز على ثلاثة أركان أساسية: اقتصاد متنوع منتج يعتمد على الابتكار والتكنولوجيا بدلا من الريع النفطي، ونظام تعليمي وبحثي متطور يواكب متطلبات الثورة الصناعية الخامسة، وهوية وطنية موحدة في إطار دستوري ديمقراطي يحقق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. في واقع الأمر، لم تكن هذه الرؤية المستقبلية الواضحة حاضرة في البرامج الانتخابية بما يسمح تحويلها إلى سياسات حكومية متفق عليها بعد الانتخابات، حيث تفتقر البرامج الانتخابية إلى الرؤية الشاملة، وتغيب عنها المؤشرات القابلة للقياس والجدول الزمني المحدد وآليات التنفيذ الواضحة، هذا ما أكدته في الكثير من المقالات السابقة حول فلسفة الدولة وإشكالية بناء الدولة العراقية في ظل النظام السياسي القائم. ذلك أن إطلاق الشعارات وبرمجة التعبئة الجماهيرية بأساليب شعبوية تارة، أو بالتباهي بالزعامات تارة أخرى، لا يولد تلك الروافع الاقتصادية والمجتمعية التي تؤسس لاتفاق وطني على بوصلة "عراق واحد وطن للجميع"، يرجع ذلك إلى تعامل هذه البرامج الانتخابية مع مفردات التحشيد فحسب، من دون وضعها في إطار رؤية مستقبلية متفق عليها. فالشعبوية السياسية تنتج خطابا عاطفيا يفتقر إلى الأسس العلمية والمنهجية القادرة على معالجة التحديات الهيكلية التي يعاني منها العراق. هكذا، تستمر دورة دفع صخرة "سيزيف" لمفاسد المحاصصة بعد إعلان نتائج الانتخابات، حيث يقف الجميع مطالبين بحصصهم في سلطة الحكم، لا مستعدين لأدوارهم في بناء الدولة، وبين الموقفين بون شاسع، هذا التراجع في ترسيخ أسس الليبرالية الديمقراطية في ثقافة الحكم الدستوري، تتبين أن المعضلة التي واجهت العراق بعد اتفاق "سايكس بيكو" لم تحل حتى اليوم، وقد أضاعت الأجيال العراقية المتعاقبة فرص التوصل إلى "عقد اجتماعي" دستوري يبني عراقا واحدا وطن الجميع، تنصهر في بوتقته كل المذاهب والأعراق على أساس الهوية العراقية الجامعة أولا. وفق هذه المقاربة، تتعدد معضلات العراق، فمن ناحية، تصر بعض القيادات الكردية على حق تقرير المصير كهدف استراتيجي، ومن ناحية أخرى، تعاني أحزاب الإسلام السياسي من تناقضات جوهرية بين مرجعيتها الدينية ومتطلبات الدولة الدستورية، هذا التناقض ليس جديداً، بل امتداد لإشكالية تاريخية في الفكر السياسي الإسلامي حول طبيعة الدولة وعلاقة الدين بالسياسة. يظهر هذا التناقض جلياً في تضارب تفسيرات الشريعة الإسلامية مع مبادئ الديمقراطية التي ينص عليها الدستور، فقد أثر هذا التعارض سلباً على التشريعات العراقية، كما حدث في الجدل الدائر حول مدونة الأحوال المدنية الجعفرية، حيث برز الخلاف حول مدى ملاءمة هذه المدونة مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة والطفل. يزيد من تعقيد المشهد إخفاق الدورات البرلمانية المتعاقبة في إقرار قوانين أساسية طال انتظارها، مثل قانون مجلس الاتحاد وقانون النفط والغاز. فمجلس الاتحاد، رغم النص عليه في الدستور منذ 2005، لم ير النور بسبب الخلافات السياسية حول صلاحياته وتكوينه، فيما ظل قانون النفط والغاز حبيس الأدراج لما يزيد على خمسة عشر عاما بسبب الخلافات بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان. كما تم تجاهل ملف العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان، حيث تتعارض قوانين العدالة الانتقالية الحالية مع مبادئ المحاسبة والمساءلة، وتكرس ثقافة الإفلات من العقاب، وهذا يستدعي العودة إلى تلك الملفات التي أهملت رغم الدراسات العديدة التي أعدتها لجان التعديلات الدستورية، مما يُطرح سؤال جوهري: لماذا هذا الإهمال المتعمد لأسس بناء الدولة؟ ستجري الانتخابات المقبلة وتعلن نتائجها، ثم تبدأ مفاوضات تشكيل الحكومة، ويبقى السؤال المحوري : ما مضمون برنامج الحكومة المقبلة؟ وكيف نضمن الالتزام به؟ الإجابة عن هذا تتطلب معالجة ثلاث قضايا أساسية :
أولا: يجب أن يتجاوز البرنامج الحكومي مرحلة الوعود الفضفاضة إلى صياغة تطبيقات عقد اجتماعي واضح المعالم، هذا يتطلب إنشاء آلية تشريعية جديدة، ان يقدم البرنامج الحكومي كمشروع قانون إلى البرلمان قبل التصويت على الحكومة، يجب أن يحتوي هذا القانون على مؤشرات أداء قابلة للقياس والمراجعة، وجدول زمني محدد لتنفيذ المشاريع، وآليات تمويل واضحة.
كما ينبغي إنشاء وحدة متخصصة في رئاسة مجلس الوزراء لمتابعة تنفيذ البرنامج، مع صلاحية إعداد تقارير دورية ترفع إلى البرلمان والرأي العام، ويجب أن يتم ربط توزيع المناصب الوزارية بالتخصص والخبرة، وليس بالمحاصصة الحزبية.
ثانياً: لا يكفي وجود برنامج حكومي جيد من دون آليات رقابية فعالة، لذا يجب تطوير اعمال اللجان البرلمانية في أداء مهمات الرقابة، تضم خبراء متخصصين في مجالات التنمية المختلفة، مهمتها مراقبة تنفيذ البرنامج الحكومي وتقييم الأداء. ويجب أن تتمتع هذه اللجان بصلاحية الوصول إلى جميع الوثائق والمستندات الحكومية، وإجراء التحقيقات اللازمة، وإصدار التقارير الدورية امام الرأي العام.
ثالثا: لابد أن يكون البرنامج الحكومي جزءا من خطة وطنية شاملة لتحقيق رؤية 2050، هذا يتطلب إنشاء مجلس أعلى للتنمية المستدامة برئاسة رئيس الوزراء، يضم الخبراء والمتخصصين من مختلف المجالات، يكون هذا المجلس مسؤولا عن وضع الاستراتيجيات الوطنية ومراجعة الخطط الحكومية وضمان اتساقها مع الرؤية الوطنية. كما ينبغي إنشاء مراكز في الجامعات العراقية متخصصة في مجالات الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، تكون مهمتها تقديم الاستشارات العلمية للحكومة وإجراء البحوث التطبيقية التي تخدم تحقيق الرؤية، يتم تمويل هذه المراكز من خلال ميزانية خاصة، على ان تكون لها شراكات مع مراكز البحث الدولية المتخصصة. وفق كل ذلك، يتطلب تحقيق رؤية 2050 مواجهة تحديات كبرى، أبرزها تحويل الاقتصاد من الريعي إلى الإنتاجي، كما يتطلب سد الفجوة بين مؤهلات الخريجين ومتطلبات سوق العمل، خاصة في المشاريع الاستثمارية الكبرى لطريق التنمية، فالتعليم الجامعي في العراق ما زال يعتمد الأساليب التقليدية، ويحتاج إلى إصلاح جذري لمواكبة متطلبات سوق العمل في القرن الحادي والعشرين. وهذا يستلزم تحديث المناهج الدراسية، وتطوير مهارات التدريس، وربط التعليم بسوق العمل. كذلك، تحقيق الانتقال المجتمعي من ثقافة الاستهلاك إلى إنتاج المعرفة يمثل تحديا كبيرا، فالمجتمع العراقي، نتيجة للحروب والعقوبات، أصبح مجتمعا استهلاكيا بامتياز، يتطلب التغيير برامج توعوية وتثقيفية، ودعم البحث العلمي، وتشجيع الابتكار والإبداع.
وهذه المسؤولية لا تقع على الحكومة وحدها، بل تشمل المرجعيات الدينية في ترسيخ التوازن بين الثوابت الدينية ومتطلبات التطور العلمي، فالدين يمكن أن يكون دافعا للتقدم والتنمية، إذا تم فهمه فهما صحيحا يتوافق مع متطلبات العصر المتحول نحو إدارة المعرفة بالذكاء الاصطناعي. كل ذلك يؤكد ان عدم الانطلاق من برنامج حكومي واضح وملزم يعني إضاعة فرص جديدة للأجيال المقبلة، واستمرار دورة الفشل التي لن تتوقف دون إرادة حقيقية للتغيير، لإن تحويل الرؤية الوطنية من حبر على ورق إلى واقع ملموس في حياة العراقيين يتطلب جرأة سياسية ونزاهة إدارية ووعيا مجتمعيا.
#مازن_صاحب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟