مازن صاحب
الحوار المتمدن-العدد: 8469 - 2025 / 9 / 18 - 20:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
على امتداد عقدين من الزمن ظل السؤال يتكرر بإلحاح: ما الفوارق بين النفوذ الأمريكي والإيراني في العراق؟ ورغم محاولات أكاديمية عراقية وعربية لتفكيك هذا السؤال وصياغة مصفوفة حلول تُخرج العراق من دائرة الصراع بين واشنطن وطهران، بقيت الإجابات جزئية أو غير حاسمة، غير أن المعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية "تشاتهام هاوس" قدم في دراسة حديثة نُشرت على موقعه الرسمي تحت عنوان: "لماذا تفشل عمليات بناء السلام وما العمل حيال ذلك؟"، معالجة أكثر عمقا واتساعا لهذا الإشكال البنيوي.
تمثل الدراسة خلاصة جهد بحثي في إطار برنامج "أدلة النزاعات العابرة للحدود"، الذي يسعى إلى فهم أفضل للمناطق التي تعاني من صراعات ممتدة عبر الحدود، واستكشاف ترابط النزاعات وآليات تغذيتها، والعوامل المؤثرة في إنتاج العنف أو السلوك السلمي، بغية صياغة سياسات وتدخلات أكثر فعالية.
وتبرز الدراسة بوضوح "الاقتصاديات غير المشروعة العابرة للحدود"، التي تنمو من خلال شبكات تهريب النفط والذهب والمهاجرين والأسلحة، وتتحول إلى منافع ربح سياسي واقتصادي للفواعل المحليين والخارجيين على حد سواء. كما تشير إلى صعود ظاهرة الفاعلين متعددي الولاء، حيث تتحرك الفصائل المسلحة والجماعات السياسية في تحالفات مرنة متغيرة تبعا للمصالح الآنية بما يخلق ديناميات معقدة تقوض النهج التقليدي في سيادة الدول في الالتزام بالاتفاقات الدولية.
وانطلاقاً من هذه المعطيات، تدعو تشاتهام هاوس" إلى تبني مقاربة براغماتية عابرة للحدود تتجاوز ثنائية "الدولة مقابل اللا-دولة"، مع إيلاء البعد الاقتصادي دورا محوريا، والانخراط الاستراتيجي مع الحلفاء والخصوم على السواء، وتعزيز الشفافية والمساءلة، وتخصيص موارد فعلية لدعم التنفيذ. وتؤكد الدراسة أن الهدف لا يقتصر على وقف النزاعات فحسب، بل يتعداه إلى ترسيخ الاستقرار المستدام وتعزيز قدرة الدولة المؤسسية على مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية المعقدة.
في السياق العراقي، تكشف هذه الرؤية أن العقوبات الأمريكية على إيران لا تُعد تحديا خارجيا معزولا، بل تمثل تهديدا مباشرا للاقتصاد الوطني لاعتماد العراق الكبير على التجارة "غير الرسمية " العابرة للحدود التي تتحكم فيها فصائل مرتبطة بالمحور الإيراني، غير انه على خط مواز يمثل "منافع اقتصادية قصوى" أسست منظومة متعددة الأطراف من المنتفعين بنموذج الاقتصاد غير الرسمي، التعريف الاخر للتهريب واعمال توظيف التربح من تصدير الدولار النفطي العراقي مقابل استيرادات تغرق السوق العراقي بالبضائع الإيرانية وغيرها التي تستورد عبر المنافذ الحدودية الإيرانية غير المسيطر عليها كليا .
تقترح الدراسة إطارا استراتيجيا يتيح للحكومة العراقية التوفيق بين الالتزام الواقعي بالعقوبات الامريكية ومتطلبات حماية استقرار الاقتصاد المحلي، مع تقليص دوائر النفوذ غير الرسمي وتعزيز السيادة الوطنية، وتطرح مجموعة من الحلول العملية التي تستند إلى مقاربة براغماتية، إدراكا لتعقد البنية السياسية والأمنية والاقتصادية في دول مثل العراق، فبدلا من الاكتفاء بالتوصيات النظرية أو الشعارات السيادية، تؤكد الدراسة ضرورة تفعيل آليات ملموسة تراعي توازن القوى الداخلية وتشابك المصالح الإقليمية.
أول هذه الحلول هو إعادة هيكلة أدوات الرقابة المؤسسية، عبر إنشاء وحدة تنفيذية تنسيقية تضم الوزارات الاقتصادية والأمنية المعنية، تتولى جمع المعلومات، مراقبة الشحنات، وضبط حركة الموارد في المنافذ الحدودية. في الحالة العراقية، يمثل هذا حلاً واقعيًا لتقليل التهريب المرتبط بالشبكات الإيرانية، مع توفير إطار يرفع من مصداقية الحكومة أمام شركائها الدوليين.
وهذا ما حاولت تنفيذه حكومات عراقية متعاقبة في فرض السيطرة على المنافذ الحدودية، في مقياس واضح ما بين مزاد العملة في البنك المركزي ومقدار الضرائب المتحصلة من البضائع المستوردة، فضلا عن مكافحة التهريب بكل انواعه وما زالت هذه المحاولات مستمرة.
أما الحل الثاني فيتمثل في تحفيز الاقتصاد الوطني وتقويض الاقتصاد غير المشروع، إذ تشير الدراسة إلى أن العراق، إذا أراد الالتزام بالعقوبات الأمريكية دون الانزلاق إلى أزمة اقتصادية، فعليه تطوير البنية التحتية للطاقة والنقل وتوسيع قدرات المصافي الوطنية، بما يقلل من الحاجة إلى استيراد الوقود الإيراني أو الاعتماد على قنوات التهريب، هذا الحل يتطلب موارد واستثمارات، لكنه يضع الأساس لتحرر تدريجي من هيمنة (الاقتصاد غير الرسمي) الذي يشكل أداة نفوذ إيرانية، الذي تواصل طيلة عقدين ونيف مضت!!
الحل الثالث يتجسد في الانخراط البراغماتي مع الفاعلين المحليين غير الرسميين، أي الفصائل المسلحة المسيطرة على المنافذ، وتدعو الدراسة إلى مقاربة مزدوجة من خلال توفير حوافز اقتصادية وسياسية لهذه الفصائل للاندماج في السوق الرسمي، مقابل فرض آليات مساءلة ومراقبة تضمن تقليص ارتباطها بالشبكات الإقليمية غير القانونية التي تخضع للعقوبات الامريكية، لكن هذا المسار محفوفًا بالتعقيد، لكنه أكثر واقعية من المواجهة المباشرة التي قد تؤدي إلى زعزعة اعدادات العملية السياسية برمتها بسبب وجود اطراف مستفيدة من (الاقتصاد غير الرسمي) وتوظيفه في دعم نفوذهم السياسي والعسكري الموازي لسيادة الدولة الرسمية .
وأخيرًا، توصي الدراسة بضرورة تخصيص موارد مالية وبشرية وتقنية لدعم التنفيذ. وهذا يعني تدريب الموظفين في المنافذ على آليات الرقابة الحديثة، الاستثمار في الأنظمة الرقمية لتتبع الشحنات، وتوفير دعم فني دولي لا يتعارض مع السيادة الوطنية. في الحالة العراقية، مثل هذا الدعم يمكن أن يأتي من مؤسسات أممية أو شراكات إقليمية، بما يتيح تطبيق العقوبات دون تحميل الدولة أعباء مالية مفرطة.
تدل التجربة العراقية خلال العقدين الماضيين على أن إدارة التوازن بين النفوذ الأمريكي والنفوذ الإيراني لم تعد خيارًا سياديًا مطلقًا، بل أصبحت معادلة معقدة تحكمها التداخلات الإقليمية والدولية، فضلا عن هشاشة البنية الاقتصادية المحلية.
إن التزام العراق بالحلول المقترحة في بناء إطار مؤسسي قوي، وتعزيز الرقابة على المنافذ، وتحفيز الاقتصاد الرسمي، والانخراط البراغماتي مع الفاعلين المحليين، وتطوير آليات المساءلة، سيؤدي إلى مكاسب ملموسة على عدة مستويات، فمن الناحية الاقتصادية، يمنح العراق قدرة أكبر على ضبط موارده الحيوية، والحد من الاعتماد على التهريب والشبكات غير الرسمية، ومواجهة بنوك او شركات عقوبات أمريكية، وفتح الباب أمام الاستثمارات الدولية التي تشترط بيئة مستقرة وشفافة.
من الناحية السياسية، يعزز ذلك مصداقية الدولة أمام المجتمع الدولي، ويمنح بغداد هامشا أوسع للتفاوض مع واشنطن من موقع قوة نسبية. أما على الصعيد الأمني، فإن دمج الفصائل ضمن إطار قانوني واقتصادي رسمي سيقلل من احتمالات التصعيد الداخلي، ويعيد شيئًا من التوازن المفقود بين الدولة والمجتمع.
في المقابل، فإن تجاهل هذه التوصيات سيحمل مخاطر جسيمة، فاستمرار العراق في الاعتماد على (الاقتصاد غير الرسمي) وتغاضيه عن نفوذ الفصائل سيؤدي إلى بقاء العراق أسيرا لصراع النفوذ بين واشنطن وطهران، ومن دون أدوات سيادية فعالة سيؤدي إلى تآكل مؤسسات الدولة، وتراجع قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية، وتكريس صورة العراق كدولة تابعة لغيرها أكثر من كونه فاعلاً مستقلا، وظهور قيادات سياسية واقتصادية من رحم الاقتصاد " غير الرسمي" تفرض سطوتها على إدارة السلطة عبر تحالفات برلمانية مقبلة.
إن الخلاصة التي تقدمها دراسة تشاتهام هاوس للعراق واضحة: الواقعية السياسية ليست خضوعا، بل إدارة ذكية للتوازنات عبر حلول عملية تحفظ للدولة ما تبقى من سيادتها، وتفتح أمامها طريقا نحو الاستقرار الاقتصادي والسياسي. وبينما لا يمكن للعراق أن ينفصل تماما عن إيران، ولا أن يخسر دعم الولايات المتحدة، فإن التزامه بخارطة الحلول المقترحة ربما يمثل الخيار الأنجع للخروج من دائرة التبعية إلى أفق السيادة التدريجية والاستقرار المستدام.
#مازن_صاحب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟