مازن صاحب
الحوار المتمدن-العدد: 8461 - 2025 / 9 / 10 - 15:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في ايلول 2025، شهدت المنطقة تصعيدًا غير مسبوقًا جراء الضربة الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مكتب قيادة حركة حماس في العاصمة القطرية الدوحة، في وقت كانت فيه الحركة تناقش الرد على مقترحات وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن التي قدمتها إدارة ترامب. هذه الحادثة لم تعد مجرد تصعيد عسكري محدود، بل تمثل انعكاسًا للتوترات العميقة بين إسرائيل والفلسطينيين، والتحديات الكبيرة التي تواجه الولايات المتحدة في إدارة صراع الشرق الأوسط. الضربة الإسرائيلية تكشف عن أبعاد استراتيجية معقدة تشمل المسار الفلسطيني الداخلي، الدور القطري كوسيط محايد، والقدرة الأمريكية على التأثير على إسرائيل للالتزام بضوابط محددة.
من منظور استراتيجي، يطرح هذا الحدث ثلاثة أسئلة رئيسية: أولًا، هل استمرار العنف الإسرائيلي يخلق بيئة مناسبة لاندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، تكرس المقاومة الشعبية وتعيد تعريف قواعد الصراع؟ ثانيًا، هل هذه العمليات تعكس فشلًا واضحًا لسياسات الرئيس ترامب في الشرق الأوسط الجديد، بما يشمل صفقة القرن واتفاقيات إبراهيم، وتفتح الباب أمام إيران لاستخدام الحادث كذريعة لتعزيز برنامجها النووي؟ ثالثًا، ما هي مصفوفة الاحتمالات المستقبلية التي يمكن أن تنشأ من هذه التطورات، سواء على المستوى الفلسطيني الداخلي، أو في مواقف الدول العربية، أو في أبعاد الصراع الإقليمي والدولي؟
تعتمد هذه الورقة التحليلية على منهجية تقدير الموقف الاستشرافي، من خلال دراسة مواقف الأطراف الفاعلة، تحليل نتائج السياسات الأمريكية والإسرائيلية، واستشراف السيناريوهات المحتملة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
• العنف الإسرائيلي وإمكانية اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة
تمثل الضربة الإسرائيلية الأخيرة على مكتب حماس في الدوحة استمرارًا للتصعيد العسكري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، بما في ذلك العمليات البرية والجوّية المستمرة، وتوسيع الاستيطان، وعمليات القتل المستهدفة لقادة فلسطينيين. هذه السياسات، وفق التحليلات الاستراتيجية، لا تهدف فقط إلى إضعاف القيادات العسكرية والسياسية الفلسطينية، بل تعمل على فرض السيطرة الإسرائيلية على الساحة الفلسطينية بالكامل، مما يولد شعورًا دائمًا بالتهديد والخطر لدى الفلسطينيين.
من منظور فلسطيني، مثل هذه الضربات تُشكل مثيرًا مباشرًا للمقاومة الشعبية، حيث يشعر المجتمع الفلسطيني أن جميع الوسائل الدبلوماسية غير فعالة في مواجهة القوة الإسرائيلية المطلقة، المدعومة أمريكيًا. هذا الوضع يخلق بيئة خصبة لإعادة إنتاج نموذج الانتفاضات السابقة، بما في ذلك الانتفاضة الأولى (1987-1993) وانتفاضة الأقصى الثانية (2000-2005)، لكنها قد تتميز بتنظيم أفضل وأكثر شمولية إذا نجحت حركات مثل حماس والجهاد الإسلامي في توحيد صفوف الفصائل الفلسطينية وتعبئة الدعم الشعبي والإقليمي.
القدرة العسكرية للفصائل الفلسطينية، رغم محدوديتها، لا تقلل من أهميتها الرمزية والسياسية. إذ يمكن أن تشمل الانتفاضة القادمة احتجاجات شعبية واسعة، عمليات كر وفر، إطلاق صواريخ محدودة على مناطق إسرائيلية، واشتباكات في المدن والقرى الفلسطينية. هذه الأنشطة قد لا تحقق توازنًا عسكريًا، لكنها تؤثر على الرأي العام الإسرائيلي والدولي، وتضعف صور إسرائيل كقوة عظمى غير قابلة للردع.
من ناحية أخرى، الضربات الإسرائيلية خارج الأراضي الفلسطينية، مثل الهجوم على قطر، تشكل تحديًا كبيرًا للقيادة الفلسطينية السياسية، لأنها تُفقدها القدرة على التفاوض بحرية وتضع الوسطاء الإقليميين في موقف صعب. هذا يقوي شعور الفلسطينيين بأن الحلول الدبلوماسية غير قابلة للتحقيق إلا بالضغط الشعبي أو المقاومة، مما يزيد احتمالية اندلاع موجة جديدة من الانتفاضة.
كما يجب أخذ عامل الوقت بعين الاعتبار: استمرار العمليات الإسرائيلية، إلى جانب عدم قدرة الإدارة الأمريكية على فرض قيود حقيقية على إسرائيل، يعني أن الانتفاضة الثالثة قد تكون أكثر استدامة وأشد تنظيمًا، خصوصًا إذا ارتبطت بتوسع الاستيطان أو محاولات ضم الضفة الغربية. كما أن أي تصعيد عسكري إسرائيلي إضافي في غزة يمكن أن يؤدي إلى انتقال الانتفاضة إلى الضفة الغربية بشكل أوسع، مما يعقد الوضع الإقليمي أكثر.
يخلق العنف الإسرائيلي المستمر، بما في ذلك الهجمات المباشرة على القيادات الفلسطينية في الخارج، أسبابًا مباشرة لاندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة. الانتفاضة القادمة، إذا اندلعت، لن تكون مجرد احتجاج شعبي عفوي، بل قد تمثل مرحلة جديدة من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، تجمع بين المقاومة الشعبية، العمليات المسلحة المحدودة، والتحركات السياسية الفلسطينية في الداخل والخارج، مع تبعات كبيرة على استقرار المنطقة وإمكانية تحقيق أي تسوية سلمية مستقبلية.
• فشل سياسات ترامب
تعكس الضربة الإسرائيلية الأخيرة على مكتب حماس في الدوحة بوضوح محدودية القدرة الأمريكية على التحكم بسلوك إسرائيل، رغم أن إدارة ترامب كانت تعتبر نفسها ضامنًا لاستقرار المنطقة عبر صفقة القرن واتفاقيات إبراهيم. هذه الحادثة تكشف عن فشل السياسة الأمريكية في تحقيق سلام دائم ومستدام في الشرق الأوسط الجديد، وتبرز الانقسامات العميقة بين الرؤية الأمريكية الواقعية والواقع الميداني على الأرض.
أولًا، صفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية، التي ركزت على التطبيع بين إسرائيل ودول الخليج، لم تحقق أهدافها الاستراتيجية في ضمان الاستقرار الفلسطيني-الإسرائيلي. فالضربات الإسرائيلية الأخيرة على غزة وقيادات حماس خارج فلسطين تظهر أن إسرائيل تعمل خارج أي قيود سياسية أو قانونية، مستغلة الدعم الأمريكي المباشر. هذا الفشل يكشف عن تفاوت بين الطموح الأمريكي والقدرة على فرض التزامات على إسرائيل، مما يزيد من إحباط الفلسطينيين ويضعف مصداقية واشنطن كوسيط نزيه.
ثانيًا، استمرار العنف الإسرائيلي يوفر ذرائع قوية لإيران لتعزيز سياساتها الاستراتيجية، بما في ذلك برامجها الصاروخية والنووية. إيران، التي لطالما اعتبرت إسرائيل تهديدًا وجوديًا مدعومًا أمريكيًا، يمكنها تبرير تسريع تطوير قدراتها العسكرية كوسيلة للردع. الضربة على قطر، كرمز للتصعيد الإسرائيلي، تُستخدم داخليًا وخارجيًا لتعزيز خطاب طهران حول الحاجة إلى التسلح النووي لحماية المنطقة من العدوان الإسرائيلي. هذا يزيد من تعقيد التوازن الإقليمي ويحد من فرص التوصل إلى تسوية سلمية شاملة.
ثالثًا، السياسات الأمريكية، التي كانت تعتمد على الوساطة الدبلوماسية والضغط الاقتصادي، فشلت في الحد من الانحياز الإسرائيلي الفعلي على الأرض. الهجوم على قطر يوضح أن إسرائيل قادرة على تجاوز أي قيود أمريكية على العمليات العسكرية خارج حدودها، ما يجعل قدرة واشنطن على فرض أي استراتيجية سلام محدودة للغاية. هذا الفشل لا يقتصر على المجال العسكري، بل يمتد إلى التوازن الدبلوماسي الإقليمي، حيث فقدت واشنطن مصداقيتها بين الدول العربية والإسلامية التي طالبت بوقف الانتهاكات وحماية الفلسطينيين.
رابعًا، استمرار العنف الإقليمي يضع الإدارة الأمريكية في مأزق أمام المجتمع الدولي، إذ تظهر الولايات المتحدة كداعم لإسرائيل لكنها غير قادرة على منعها من تنفيذ عمليات أحادية ضد الفلسطينيين أو حتى ضد وسطاء إقليميين مثل قطر. هذا الوضع يعكس عدم التناسق بين القوة الأمريكية والنفوذ الفعلي في فرض النظام أو الاستقرار، ويؤكد أن سياسات ترامب في الشرق الأوسط الجديد لم تحقق سوى إنجازات جزئية محدودة، مثل الاتفاقيات الثنائية بين إسرائيل ودول خليجية، دون أي تقدم ملموس تجاه حل القضية الفلسطينية.
يمكن القول إن الضربات الإسرائيلية الأخيرة، إلى جانب استمرار التوترات في غزة والضفة، تضعف السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط الجديد، وتفتح الباب أمام إيران لتقوية قدراتها العسكرية والردعية، بينما الفلسطينيون يشهدون تصعيدًا مستمرًا يضعف فرص التوصل إلى أي سلام دائم. فشل ترامب في فرض أي رقابة فعلية على إسرائيل، إضافة إلى محدودية قدرة واشنطن على حماية الوسطاء الإقليميين، يجعل من الضروري إعادة النظر في استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة، وإدراك أن السلام الدائم لا يمكن فرضه بالقوة أو عبر اتفاقيات جزئية دون معالجة جوهر النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي.
• مصفوفة الاحتمالات المستقبلية المنظورة
الضربة الإسرائيلية الأخيرة على مكتب حماس في الدوحة تمثل حدثًا مفصليًا في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وفي الاستقرار الإقليمي العام. استنادًا إلى التحليلات الاستراتيجية وأصحاب المصالح، يمكن بناء مصفوفة احتمالات مستقبلية تربط بين التطورات الفلسطينية، التحركات الإقليمية والدولية، واستراتيجيات إسرائيل وإيران.
أولًا، الاحتمالات الفلسطينية الداخلية:
أبرز السيناريوهات المحتملة هو اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، تكون أكثر تنظيمًا وأوسع نطاقًا مقارنة بالانتفاضتين السابقتين. هذا السيناريو يعتمد على استجابة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى للضربات الإسرائيلية، وقد يشمل مظاهرات شعبية واسعة، اشتباكات مع الجيش الإسرائيلي، وعمليات صاروخية محدودة. احتمالية أخرى تتمثل في تصعيد محدود يقتصر على غزة، دون امتداد شامل إلى الضفة الغربية، في حال فشلت الفصائل في تنسيق جهودها، أو إذا أعاقت المراقبة الدولية الانتفاضة عبر ضغوط سياسية أو اقتصادية.
ثانيًا، الاحتمالات الإقليمية:
قد تنعقد اجتماعات عاجلة لوزراء الخارجية العرب ومنظمة التعاون الإسلامي لمناقشة الضربة الإسرائيلية، لكن المواقف العملية ستظل غالبًا محدودة، مع التركيز على الإدانات الدبلوماسية والتنديد، وربما فرض إجراءات رمزية مثل تعليق بعض البرامج أو مؤقتات التعاون مع إسرائيل. الخليج قد يعيد تقييم دوره في الوساطة، لكن إجراءات عقابية قوية مثل إلغاء اتفاقيات إبراهيم أو فرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل تبدو غير محتملة في المدى القصير، نظرًا للارتباطات الاقتصادية والسياسية القائمة مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
ثالثًا، الاحتمالات الدولية والدول الكبرى:
الولايات المتحدة، رغم دورها التقليدي في حماية إسرائيل، قد تصدر بيانات تحذير أو تنديد محدود، لكنها غير مستعدة لاتخاذ إجراءات تمنع الهجمات الإسرائيلية مستقبلًا. أوروبا، روسيا، والصين قد تعتمد على الضغط الدبلوماسي والتصريحات الرسمية، مع احتمالية استخدام القنوات متعددة الأطراف في الأمم المتحدة، لكن دون القدرة على فرض عقوبات مباشرة. روسيا والصين يمكن أن توظف الحادث لتقوية نفوذها السياسي والدبلوماسي في الشرق الأوسط، مستغلة تنامي الفجوة بين المصالح الأمريكية والإسرائيلية والفلسطينية.
رابعا، الاحتمالات الإسرائيلية والإيرانية:
إسرائيل من المرجح أن تستمر في سياسات الردع العسكري والهجمات الاستباقية ضد قيادات حماس والفصائل المسلحة، خاصة مع اقتراب العمليات البرية في غزة. إيران، على النقيض، ستستغل الحادث لتعزيز برنامجها النووي والصاروخي، مستغلة الانتهاكات الإسرائيلية لتبرير زيادة قدراتها الدفاعية والهجومية، كما قد تعزز دعمها للفصائل الفلسطينية لتعميق ردعها الإقليمي.
ختامًا، المصفوفة المستقبلية توضح أن المنطقة أمام دورة جديدة من التصعيد والردع، مع محدودية قدرة الوسطاء والدول الكبرى على التحكم في الأحداث. السيناريوهات تتراوح بين تصعيد شامل وانتفاضة فلسطينية واسعة، وصولًا إلى تصعيد محدود يقتصر على غزة، بينما تبقى التحركات الدولية والعربية غالبًا رمزية أو دبلوماسية. هذا يعكس استمرار عدم التوازن بين القوة العسكرية الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا، والقدرة الفلسطينية الرمزية، مقابل التحركات الإقليمية والدولية المحدودة في فرض الاستقرار..
#مازن_صاحب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟