مازن صاحب
الحوار المتمدن-العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 20:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ثمة من يتساءل دائماً، كيف يمكن لدول المحور المناهض للولايات المتحدة وحلف الناتو أن تستفيد من التطورات الأخيرة في سياسة الصين، وأن توظف "روح شنغهاي" في الصراعات الجارية في منطقة الشرق الأوسط، بما فيها العراق؟ يمكن الإجابة على هذا التساؤل بالقول إن قمة منظمة شنغهاي لم تكن مجرد حدث عابر، بل جاءت لتضع النقاط على الحروف بعد مرور ثمانين عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج المنتصرين منها باتفاقات يالطا التي أسست لاحقاً للأمم المتحدة. بهذه الروح، ظهر الرئيس الصيني بالزي الرسمي الذي ارتبط بزعيم الحزب الشيوعي ماو تسي تونغ، وهو زي ظل الرجال والنساء في الصين يرتدونه لعقود طويلة، ليصبح اليوم رمزا للنصر في تحرير الصين من الاحتلال الياباني. وكان الاستعراض العسكري الكبير الذي تلا انتهاء أعمال القمة أحد أبرز الأدلة الاستراتيجية التي تؤكد أن الصين، التي كانت حتى عهد قريب مجرد مقاول لشركات متعددة الجنسيات تنتج بضائعها وتصدرها لصالحها، أصبحت اليوم تفرض نفسها من خلال شركاتها العملاقة المنافسة في أهم صناعات العصر، وهي صناعات الذكاء الاصطناعي. لم تكن قمة منظمة شنغهاي الأخيرة، التي عقدت وسط اهتمام دولي واسع، مجرد اجتماع بروتوكولي اعتيادي بين الأعضاء، بل مثلت مرحلة جديدة في سياسات التعاون الإقليمي والدولي التي تقودها الصين وروسيا، وترتبط "روح شنغهاي" بالقدرة على الجمع بين القوة الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، مع التركيز على التعاون متعدد الأقطاب ورفض منطق الهيمنة أحادية القطب. كما لم يكن الاستعراض العسكري الصيني المصاحب للقمة حدثاً رمزياً فحسب، بل كشف عن قدرات الصين المتقدمة في المجال العسكري، من الصواريخ الأسرع من الصوت إلى المركبات المسيرة تحت سطح البحر، وصولا إلى الصواريخ الباليستية العابرة للقارات وأنظمة الدفاع الفضائي، بين هذا الاستعراض كيف تحولت الصين من مقاول اقتصادي تابع للشركات متعددة الجنسيات إلى قوة صناعية رائدة، تهيمن على صناعات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة، وتستثمر في البحث العلمي والابتكار كرافعة استراتيجية. تظهر البيانات الواقعية أن الصين تتقدم بسرعة في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتطورة، وهو ما يعكس قدرتها على تحويل الاستعراض العسكري إلى قوة استراتيجية حقيقية، وفقاً لتقرير مؤشر الذكاء الاصطناعي الصادر عن جامعة ستانفورد، استحوذت الصين على ما نسبته 70% من إجمالي براءات اختراع الذكاء الاصطناعي العالمية بين عامي 2014 و2023، بإجمالي 38 ألف براءة اختراع، ويقدر عدد خريجي الدكتوراه في مجال الذكاء الاصطناعي في الصين بأكثر من 2000 خريج سنويا، يدعم أكثر من 80% منهم بمنح حكومية وطنية، مما يضمن استمرار الابتكار والتنافسية على المستوى العالمي. ترتبط هذه الإنجازات التكنولوجية مباشرة بتطوير الصناعات الدفاعية، بما في ذلك الصواريخ والمركبات المسيرة والأنظمة الذكية، مما يعزز من قيمة الاستعراض العسكري الصيني كأداة استراتيجية واقعية وليس مجرد عرض رمزي. في المقابل، تخصص الولايات المتحدة ميزانيات ضخمة لتطوير الذكاء الاصطناعي، حيث بلغ إنفاق الشركات الأمريكية 109.1 مليار دولار عام 2024، مقارنة باستثمارات الصين البالغة 9.3 مليار دولار. ومع هذا الفارق الكبير، تظهر الصين قدرة مذهلة على تطوير البدائل والابتكار بسرعة، مما يجعلها لاعباً رئيسياً في سباق التكنولوجيا العسكرية والاقتصادية العالمية، ومع ذلك، لم تتحول هذه الروح تلقائيا إلى سياسات دفاعية مشتركة داخل منظمة شنغهاي، حيث أبدت الهند تحفظا واضحا على أي أطر عسكرية قد تعزز النفوذ الصيني، في حين غادرت بعض الدول مثل تركيا قبل بدء الاستعراض، مما يعكس هشاشة التوافق الداخلي. تؤكد القمة أيضاً على قدرة الصين على الجمع بين القوة الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية، مما يمكنها من المنافسة على مستوى الابتكار الصناعي العالمي، مع استعراض القدرة الدفاعية دون الدخول في صدام مباشر مع الغرب، هذا يمثل نموذجاً حديثاً لمفهوم توازن القوى في القرن الحادي والعشرين. كذلك سلطت القمة والاستعراض العسكري الضوء على التحديات التي تواجه الولايات المتحدة وحلف الناتو، فالصين، رغم قوتها العسكرية والاقتصادية، تتصرف براغماتية، وتحافظ على مصالحها مع واشنطن، وتكتسب هذه الرؤية أهمية أكبر مع القمة المرتقبة بين الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي يتوقع أن تحدد إطار العلاقة بين التعاون والتنافس بين القوتين. في هذه القمة المرتقبة، قد تتوضح حدود التنافس التكنولوجي والاقتصادي، بما في ذلك مجال الذكاء الاصطناعي والاستثمار الصناعي، وتظهر أن العالم يتجه نحو توازن متعدد الأقطاب قائم على التعاون الرمزي والاقتصادي أكثر من المواجهة العسكرية المباشرة.
لذلك، ربما يمكن توقع ظهور "جدار برلين" جديد في السحابة الإلكترونية للذكاء الاصطناعي، أو عقد اتفاقات جديدة على غرار اتفاقية سايكس بيكو قد تفاجئ الجميع في الشرق الأوسط، في سياق الآمال المعقودة على انهيار القطبية الأمريكية الأحادية من خلال النموذج الصيني لـ"روح شنغهاي". كما يمكن الإشارة في هذا السياق إلى أن أي تصور عربي أو شرق أوسطي بأن الصين ستتحرك ضد إسرائيل هو خطأ استراتيجي كبير، بكين تراعي مصالحها التجارية مع تل أبيب، وتتجنب أي مواقف سياسية أو عسكرية قد تضر بعلاقاتها مع واشنطن، مما يجعل أي رهانات على تحولات سياسية لصالح القضايا العربية غير واقعية. في الشرق الأوسط، بما فيه العراق، تظهر القمة والاستعراض العسكري أن دور الصين يقتصر على الاستثمارات الاقتصادية والتقنية، ربما تقدم الصين فرصاً للاستثمار في البنية التحتية والطاقة، لكنها لا تتحرك سياسياً ضد المصالح الأمريكية أو الإسرائيلية. بالنسبة للعراق، ومن وجهة نظر متواضعة، فإن أي محاولة لاستثمار "روح شنغهاي" لتحقيق مكاسب سياسية أو للضغط على الولايات المتحدة ستكون غير مجدية، على العراق أن يتبنى استراتيجية واقعية تعتمد على التعاون الاقتصادي والتكنولوجي، والاستفادة من استثمارات الصين، مع إدراك حدود النفوذ السياسي الصيني. ومن المهم الحذر من الانخداع بأوهام دعم بكين للقضايا الإقليمية الحساسة، فهي موجودة عبر شركاتها بقوة في عقود النفط الاستخراجية وفي بناء المدارس والمستشفيات، وهي أنشطة مقاولات يمكن لأي دولة القيام بها. وليس من المجدي توجيه بوصلة الاستثمارات العراقية نحو الصين لأسباب سياسية بحتة، خاصة وأن الصين لن تستطيع تزويد العراق بالأسلحة الدفاعية أو الهجومية، ولن يتمكن العراق من الخروج من نظام "سويفت" للتبادل النقدي إلى أي نظام تابع لمحور قمة شنغهاي، لأسباب تتعلق بحماية عوائد النفط تحت سلطة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وهي مسألة حيوية تحتاج إلى عناية عراقية بالغة. في ضوء ما تقدم، يمكن القول إن الصين قوة صاعدة عسكريا وتكنولوجيا، ذات قدرات كبيرة في الذكاء الاصطناعي والابتكار الصناعي، لكنها تتحرك بحذر، وتتجنب الصدام المباشر مع الولايات المتحدة. وهذا يؤكد أن "التعاون الإمبريالي" بين واشنطن وبكين محتمل وواقعي في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا، ويشكل الأساس لتوازن القوى العالمي المستقبلي، لذلك، على كل من يحتفل بالانتصار الصيني المزعوم على الولايات المتحدة أن يعلم أن ثقافة الإمبريالية واحدة، وقد تظهر غداً تحت عنوان "الشيوعية الماوية الإمبريالية". فهم يطحنون شعوب الشرق الأوسط طالما أن ركيزة الصهيونية العالمية في إسرائيل الاستيطانية قائمة على أرض فلسطين وتتمدد عبر الاتفاقات الإبراهيمية، هذه هي المعادلة للإجابة على السؤال المطروح. ومن لا يعرف طبيعة العلاقات الحميمة بين إسرائيل والصين، عليه مراجعة محركات البحث، حيث سيجد الكثير من الإجابات التي لا يمكن أن يتباهى بها المحتفلون بالاستعراض العسكري الصيني وتداعياته المزعومة على سقوط الإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط الجديد.
#مازن_صاحب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟