أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - في ذكرى المجزرة..مدرسة بلاط الشهداء وجريمة إيران














المزيد.....

في ذكرى المجزرة..مدرسة بلاط الشهداء وجريمة إيران


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8495 - 2025 / 10 / 14 - 12:27
المحور: قضايا ثقافية
    


في فجرٍ رماديّ مائلٍ إلى العدم، كانت الأرواح الصغيرة تتهيأ لدروسها الأولى في الحساب والأمل، وكان صوت الجرس أشبه بصلاةٍ يومية للطفولة. هناك، في مدرسةٍ تدعى “بلاط الشهداء”، كان الحلم يكتب سطره الأول على سبّورةٍ بيضاء، قبل أن تهبط صواريخ الكراهية من الشرق، تحمل توقيعًا إيرانيًّا بلون الدم، لتجعل من الأبجدية رمادًا، ومن الدفاتر كفنًا جماعيًا لأطفالٍ لم يعرفوا بعد معنى العداء ولا خريطة الحقد. لم تكن تلك المدرسة هدفًا عسكريًا، بل كانت رمزًا للإنسان في أنقى حالاته، لكنّ المجرمين لا يعرفون رمزية النقاء، بل يخافون منها كما يخاف الليل من النهار.
في لحظةٍ خاطفة، انقلب الصفّ إلى مقبرةٍ مصغّرة، وتحوّلت المقاعد إلى نعوشٍ خشبية صغيرة، وسالت الألوان المائية من دفاتر الرسم لتختلط بالدماء على الأرض، كأنها لوحةٌ رسمها القدر بيدٍ مرتجفة. الأطفال الذين كانوا قبل دقائق يتهجّون أسماءهم، صاروا أسماءً تتهجّاها الأمهات في المقابر. في تلك اللحظة، فهمنا أنّ إيران لا تحارب الأعداء، بل تحارب الضوء، وأنها لا تبحث عن نصرٍ عسكري، بل عن هزيمةٍ للبراءة.جريمة بلاط الشهداء ليست حدثًا عابرًا في دفتر المآسي، بل مرآةٌ داكنة تعكس وجه السياسة حين تتجرد من الأخلاق، وحين يتخذ الموتُ هيئة مشروعٍ مقدّسٍ يرفع شعارات الخلاص وهو يغرس الخناجر في خاصرة الإنسان. ما فعلته إيران لم يكن حربًا ضد العراق فحسب، بل ضد الفكرة نفسها التي تقول إن الطفل مقدّس، وإن المدرسة وطنٌ صغير لا يجوز اقتحامه. لقد استخدمت الدين غطاءً لقتل الحياة، ورفعت راية الطفّ لتذبح من جديد كل طفلٍ يحاول أن يتعلم معنى الحرية.العالم كله رأى الجريمة، لكنه صمت. ذلك الصمت ليس حيادًا، بل مشاركة في الجريمة بطريقةٍ أكثر لؤمًا. فالذين لم ينطقوا كانوا شركاء في المذبحة، والذين اكتفوا بالشجب كانوا يغسلون ضمائرهم ببياناتٍ باردة. إنّ الإنسانية اليوم لم تعد تُقاس بعدد ما نُعلن من تعاطف، بل بما نكتم من جبن. مدرسة بلاط الشهداء لم تُقصف بالصاروخ وحده، بل بصمت العالم الذي جعل من موت الأطفال مشهدًا مألوفًا في نشرات الأخبار.ومن بين الركام، تنهض الفلسفة بوجهها المكلوم، لتسأل: ما معنى الطفولة في أرضٍ تعيش على أنين الأمهات؟ وهل يبقى الدين دينًا حين يتحوّل إلى ذريعةٍ للقتل؟ في تلك اللحظة التي انطفأت فيها أعين الأطفال، اشتعل السؤال الأكبر: كيف نؤمن بإنسانيةٍ تسمح أن تُباد مدرسةٌ باسم الله؟ إنّ الذين صنعوا تلك المجزرة لم يقتلوا الأطفال وحدهم، بل قتلوا المعنى، وأغلقوا آخر نوافذ الأمل في وجه الشرق الذي ينهض كل مرة من رماده ليُذبح من جديد.مدرسة بلاط الشهداء لم تكن مجرد مكانٍ للتعليم، بل كانت فلسفةً مصغّرة للحياة: فيها يبدأ الإنسان رحلته نحو الوعي، وفيها يُزرع أول حبٍ للحقيقة. لذلك كانت هدفًا سهلاً لطغاةٍ يخافون من المعرفة أكثر مما يخافون من الجيوش، ويخشون من كتابٍ أكثر مما يخشون من بندقية. أرادوا أن يقولوا للعالم إن المستقبل لهم، لكنهم نسوا أن المستقبل لا يولد من فوهة المدفع، بل من ضوء السبّورة ومن دفء القلم في يد طفلٍ يحلم بالوطن.ربما كانت مدرسة بلاط الشهداء درسًا أخيرًا لم يفهمه العالم بعد، درسًا في معنى الإنسان حين يُغتال في أكثر أماكنه براءة. فالموت في الحرب مفهوم، والموت في المعركة متوقّع، لكنّ الموت في مقعد الدراسة هو موت المعنى ذاته. حين تُقصف مدرسة، لا يُقتل الأطفال فحسب، بل تُمحى الذاكرة الجمعية للأمة، ويُسحب الحلم من بين أصابعها كما يُسحب الضوء من المصباح في آخر الليل. إنّ جريمة إيران لم تكن موجهة ضد العراق وحده، بل ضد الفكرة الإنسانية التي تقول إن الطفل حقّ مقدّس، وضد روح الحضارة التي كانت ذات يوم تُعلّم الناس أن الحرف أكرم من السيف. في بلاط الشهداء، اصطدم الحبر بالبارود، وانهزم العالم أمام سؤالٍ بسيط: كيف يمكن لأمةٍ تتوضأ بالدم أن تزعم الطهر؟هؤلاء الأطفال لم يعودوا أرقامًا في بيانٍ رسمي، بل صاروا شهودًا أبديين على زمنٍ سقط فيه الضمير من معجم السياسة، وصارت الجريمة وجهًا جديدًا للتقوى. في وجوههم البريئة نقرأ وصية الأجيال القادمة: أن لا خلاص لأمةٍ تقدّس القاتل وتنسى المقتول، وأن لا مستقبل لأرضٍ تُخيف أطفالها أكثر مما يُخيفها عدوها. من رماد المدرسة ينهض السؤال كطائرٍ من نار: هل ما زال للإنسانية مكان في عالمٍ يُبرّر القتل بالآيات؟ وهل يبقى الدين دينًا حين يُستعمل كأداةٍ لخرق كل وصايا الرحمة؟ إن الفلسفة الحقيقية لا تبدأ في الجامعات، بل في مدرسةٍ أُحرقت من أجل أن لا يتعلم طفلٌ معنى الحرية.وإذ نقف اليوم على أنقاض "بلاط الشهداء"، لا نقرأ التاريخ بل نراه يتكرر أمامنا. كل حجرٍ هناك يقول إن الحضارة لم تُبنَ بالعقيدة وحدها، بل بالضمير، وإنّ أقسى الهزائم ليست في المعارك، بل في اللحظة التي نصبح فيها قادرين على التفرّج دون أن نغضب. سلامٌ على كل من حمل كتابه ولم يعد، سلامٌ على الطفولة التي قُتلت واقفة، وسلامٌ على العراق وهو يعلّم العالم من جديد أن الحبر، مهما اختنق بالدخان، لا يموت.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق.. حلم اللقاء المتحقق في مرايا النفط والسياسة
- عطرُ حضوركِ
- ريما… الجنون الذي أحببتُه بلا حدود
- اعذريني يا بنت الحرير-
- سامي آغا شامي الجيزاني.. ابن البصرة الذي كتب المنافي على جدا ...
- العراق.. جمهورية الجسور المكسورة
- حين بدأ الحب يتفتّت بصمت
- لماذا نجعل دائمًا من هزائمنا انتصارًا؟
- -الخنجر المتكرر… سردية الغدر عبر العصور-
- غزة: أنين الروح المحاصرة
- أنتخبهم… حتى يُباع الوطن في سوق الوهم
- البستان الذي ينام في الخراب
- ريما...
- حين يتكلّم الركام ويصمت العالم
- عندما تعزف طبول الحرب لحن الفلسفة
- إياد الطائي.. حين يترجّل المسرح عن صهوته
- -الأحلام التي لم تعشها البيوت المهجورة-
- أساطيل الحديد وأشباح البحر
- أتعس الخونة من يبيعون الوطن باسم الوطنية
- العراق بين عقدة الماضي وامتحان المستقبل


المزيد.....




- الرئيس التنفيذي لآبل يتلقى دمية لابوبو وهاتف آيفون في الصين. ...
- ترامب: -المرحلة الثانية- من اتفاق غزة بدأت لكن -المهمة لم تن ...
- قوافل مساعدات تنتظر دخول غزة وإسرائيل تسمح فقط بنصف العدد ال ...
- حماس تعزز انتشار قواتها الأمنية في غزة وتحكم قبضتها على القط ...
- الصليب الأحمر يتسلم جثامين 45 أسيرا فلسطينيا
- الفقد والإبعاد يبدد فرحة عائلة الروم بتحرير أسيريها عماد وجه ...
- فيديو جديد يُظهر لحظة إشعال رجل النار في قصر شابيرو حاكم بنس ...
- غزة تدخل أخطر مراحل ما بعد الحرب.. سلام على حافة الهاوية؟
- قوافل مساعدات تنتظر دخول غزة وإسرائيل تسمح فقط بنصف الكمية
- إيران ـ أحكام سجن طويلة بحق فرنسيين بتهم -التجسس والتعاون مع ...


المزيد.....

- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - في ذكرى المجزرة..مدرسة بلاط الشهداء وجريمة إيران