أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - البستان الذي ينام في الخراب














المزيد.....

البستان الذي ينام في الخراب


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8488 - 2025 / 10 / 7 - 20:55
المحور: قضايا ثقافية
    


لم يكن الشارع القديم سوى بقايا ذاكرةٍ تنهار، حجارة متآكلة، أبواب صدئة، جدرانٌ تقف بصعوبة كالعجائز الذين أثقلهم العمر. كنتُ أمشي بين أنقاضه بلا يقين، كأنني أبحث عن نفسي في مدينةٍ لم تعد تتذكر اسمي. كل حجر كان يروي سراً دفنته الأزمنة، وكل نافذة موصدة كانت تلمح إلى حياةٍ مضت ولم يعد منها إلا الغبار. وفجأةً، وفي لحظة تشبه المعجزات، انهار جدارٌ من الجدران، فانفتحت أمامي فسحة لم يتوقعها عقلي: بستانٌ مخفيّ، لمسته يد الغيب أكثر مما لمسَته يد البشر.كان البستان مدهشاً، كأن الخراب كلّه قد انحنى ليكشف عن قلبٍ نابض بالحياة. أشجاره أوراقها كالصفحات البيضاء، إذا هبّت الريح تكلّمت بأصواتٍ بشرية، همسات من ماتوا ومن عاشوا ومن أحبوا حتى آخر دمعة. المياه تجري فيه كأحلامٍ متكسّرة، والنسيم يحمل عطراً غريباً، كأنه مزيج دموعٍ وضحكاتٍ مؤجلة. وفي وسطه طاولة حجرية عليها كتاب ضخم، مفتوح على صفحات بلا حروف، كأنما ينتظر قلماً مجهولاً ليخطّ عليه سرّ العالم.اقتربت وجلست أمامه، وارتجفت يدي حين لامست الصفحة الأولى. ما إن فعلت، حتى انفجرت الكلمات مني كما لو كنتُ أكتب بمدادٍ مستخرج من قلبي. كتبت:"الحب هو البستان الذي يولد في قلب الخراب، هو الدمع حين يتفتح وردة، وهو الوجع حين يتحول إلى قصيدة."ارتجّ المكان، وكأن الأشجار صارت تصفق بدموعها، والنسيم يعزف موسيقى غير مرئية. لم أكن أكتب وحدي، بل كنت لساناً لجيلٍ كامل من الباكين والعاشقين والموجوعين.
الماضي زحف نحوي بوجوه أحبّتي، بطفولةٍ منسية، بضحكاتٍ قطعتها الغربة، بذكرياتٍ لم أجرؤ على البوح بها. وضع يده على كتفي وقال: "لن تهرب مني، فأنا جذر وجودك." والحاضر، ذلك الوحش الرمادي، جلس على الطاولة المقابلة لي، يضحك ساخرًا: "هل تظن أنك ستكتب فداءك هنا؟ إنك تكتب لتنجو لا لتنتصر."أدركت أنني بين قوتين لا تنفصلان: الماضي يجرّني إلى الحنين والندم، والحاضر يدفعني إلى مواجهة القسوة. فكتبتُ صفحاتٍ عن الحب الذي يجعل العاشق يبتسم وهو ينزف، وصفحاتٍ عن الوجع الذي يصير جزءاً من دمك فلا ينفك عنك، وصفحاتٍ عن البكاء الذي لا يذلّ الإنسان بل يطهّره من رماد قلبه. كتبتُ عن الفلسفة التي ليست دروساً جامدة، بل صرخة تبحث عن معنى وسط الصمت.
كلما كتبتُ، تنفتح شجرة جديدة، وتولد زهرة بين الحجارة، حتى بدا لي أن الخراب كله يتفتت أمام قوة المعنى. لقد فهمت أن الكلمة قد تكون بذرة، وأن الوجع قد يكون ماءً، وأن البكاء قد يكون ضوءاً. عندها، صار البستان يتوسع، وصار الخراب ينهزم أمام ولادةٍ غير متوقعة.ولمّا امتلأ الكتاب، أطبقته، فإذا بالصفحات تضيء كأنها مرايا أرواح، تلمع بدموعي وضحكاتي واعترافاتي. نهضتُ من مكاني، والبستان أخذ يختفي شيئاً فشيئاً، يعود إلى الركام الذي كان يخفيه. لكنه لم يمت. كان ينام داخلي، كجمرٍ تحت رماد، ينتظر انهيار جدارٍ جديد ليظهر.
خرجتُ إلى الشارع المظلم، والخراب يلتف من حولي، لكنني لم أكن وحيداً. كنت ممتلئاً بحقيقةٍ لم تفارقني منذ تلك اللحظة: أن الإنسان لا ينجو بما يملك من أشياء، بل بما يتركه من أثرٍ في قلوب الآخرين، وبما يحمله في داخله من بستانٍ سريّ. أن الفلسفة كلها تختصر في درسٍ واحد: أن الحب هو الخلاص، وأن الوجع هو المعلّم، وأن البكاء هو الطريق إلى النور.هكذا انتهت رحلتي، لا بانتصارٍ ظاهر ولا بهزيمة واضحة، بل بارتجافة قلبٍ تغيّر إلى الأبد. ومنذ ذلك الحين، كلما مشيت في شوارع الخراب، كنت أعلم أن خلف كل جدارٍ منهار بستاناً ينتظر، وأن خلف كل وجعٍ حباً يتشكل، وأن خلف كل دمعةٍ ضوءاً يولد.فالحياة كلها، في نهاية المطاف، ليست سوى بستانٍ خفيّ، يزهر حين نجرؤ على أن نكتب وجعنا ونحوّله إلى معنى. والبشرية كلها، على امتداد عصورها، لم تفعل سوى هذا: أن تحوّل الخراب إلى قصيدة، والدموع إلى بساتين لا تذبل.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ريما...
- حين يتكلّم الركام ويصمت العالم
- عندما تعزف طبول الحرب لحن الفلسفة
- إياد الطائي.. حين يترجّل المسرح عن صهوته
- -الأحلام التي لم تعشها البيوت المهجورة-
- أساطيل الحديد وأشباح البحر
- أتعس الخونة من يبيعون الوطن باسم الوطنية
- العراق بين عقدة الماضي وامتحان المستقبل
- انحنى الحجر وظل النور قائماً
- -المذبوحون باسم الله-
- -الطرق التي تبكي تحت أقدام الغائبين-
- دواء الروح بين كأس الحكمة وأفعى المعرفة
- عامل السكراب
- عطر الكتب القديمة… حوار بين الغبار والخلود
- مكتبة الأسرار الكونية
- بغداد حين تعيد للعتمة صوتها.. مسرح الطيب على ضفاف دجلة
- البؤس العربي وفقدان الحياء: صرخة في وجه الرذيلة
- -بين دم الأرض وحديد السماء: تأملات في صراع القوى ومآل الإنسا ...
- نهداكِ… حين يغنّي البنفسج
- تراتيل الرماد فوق معبد اليورانيوم المكسور


المزيد.....




- جعجع: على حزب الله أن -يتعظ- من تجربة حماس ويسلّم سلاحه في أ ...
- المفاوضات تدخل مرحلة الحسم.. ترامب: -قريبون جداً من إنهاء حر ...
- خطة السلام في غزة .. ترامب متفائل والمفاوضات -تراوح مكانها- ...
- بين التضامن والتحفظ.. ما مدى تغير موقف ألمانيا إزاء إسرائيل؟ ...
- السابع من أكتوبر: أي متغيرات دولية وإقليمية؟
- عودة نشطاء أسطول الصمود للأردن وشهادات عن التنكيل بهم في سجو ...
- استجواب وزيرة العدل الأميركية أمام مجلس الشيوخ بتهمة تسييس ا ...
- سمير جعجع: ليس أمام حزب الله إلا تسليم سلاحه
- الإبلاغ عن ميلوني للجنائية الدولية بتهمة التواطؤ في إبادة غز ...
- بعد عامين على طوفان الأقصى…غزة التي غيرت العالم


المزيد.....

- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - البستان الذي ينام في الخراب