أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - دواء الروح بين كأس الحكمة وأفعى المعرفة














المزيد.....

دواء الروح بين كأس الحكمة وأفعى المعرفة


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8480 - 2025 / 9 / 29 - 00:07
المحور: قضايا ثقافية
    


منذ أن بدأ الإنسان يفتّش في الطبيعة عن سرّ شفائه، وهو يمدّ يده نحو العشب، والنبع، والزهرة، والجذر، ليكتشف أنّ لكل مرضٍ دواءً كامنًا في أحضان الأرض. هناك، عند نقطة الالتقاء بين الغيب والواقع، ولدت الصيدلة بوصفها ابنة الحكمة، وجسرًا بين المرض ورجاء الشفاء. لم تكن الصيدلة يومًا مهنة فحسب، بل كانت طقسًا من طقوس الوجود، ورمزًا لإصرار الإنسان على أن يمدّ خيط الأمل في ظلام الألم.
ولعلّ أكثر ما يثير العجب أنّ الحضارات القديمة، رغم تباعد جغرافيتها وتنوّع لغاتها، قد التقت عند فكرة أنّ الدواء لا ينفصل عن الرمز. ومن هنا جاءت صورة الكأس الممسوك في يدٍ تحتضن أفعى متكورة، تلك العلامة التي صارت لغة عالمية للصيدلة. ليست الأفعى هنا مجرد كائن يثير الرعب أو الغموض، بل هي رمز للشفاء والتحوّل. ففي الحضارة الإغريقية القديمة ارتبطت الأفعى بالقدرة على تجديد حياتها بخلع جلدها، وكأنها تعلن أن الشفاء هو ولادة جديدة، وأن المرض لا يُهزم بالقوة بل بالصبر والحكمة. أما الكأس فليس إلا وعاء الحكمة، رمز احتواء العلاج، ومصباح المعرفة التي تُسكب على جراح الإنسان. ومن اجتماع الاثنين وُلد الشعار الذي يتردد في كل صيدلية على وجه الأرض.
الإغريق، بحكمتهم وفلسفتهم، صاغوا هذه الرؤية التي ما زالت حيّة إلى اليوم. فقد عُرف "أسكليبيوس" إله الطب عندهم، وكان يمسك عصاه التي تلتف حولها الأفعى، علامة على أن الحياة والموت يتناوبان كما يلتف الجسد حول الدعامة. وحينما اتصلت هذه الفكرة بالطب الإغريقي، حيث اجتمع العقل الفلسفي مع التجريب العلمي، صارت الصيدلة علماً يزاوج بين الأسطورة والعقل، بين الدعاء والتجريب. ولئن كان الطبيب الإغريقي "هيبوقراط" قد وضع القاعدة الذهبية للأخلاق الطبية، فإنّ الصيدلة تجسّدت كجناحٍ آخر للطب، لا يقوم بدونه.
غير أن الإغريق لم يكونوا وحدهم في هذا المسار. فقبلهم بزمن بعيد، كان السومريون والبابليون في وادي الرافدين يسجّلون على ألواحهم الطينية وصفات علاجية تستند إلى الأعشاب والمعادن. وكانت مصر الفرعونية تستعمل أوراق البردي لتدوين وصفات الأطباء والكهنة، حيث اختلطت العقاقير بالصلوات. وفي الهند القديمة، وُلد "الأيورفيدا" ليؤسس رؤية شمولية تعتبر الجسد والروح والعقل وحدةً متكاملة، لا يُشفى أحدها إلا بشفاء الآخر. أما الصين، فكانت أعشابها، من الجينسنغ إلى الشاي الأخضر، بمثابة كنوز خفية ظلت آلاف السنين أساسًا للطب الشرقي. وهكذا، من وادي النيل إلى وادي الرافدين، ومن جبال الهند إلى سهول الصين، كان للإنسان في كل مكان حدسٌ بأن الطبيعة تحمل سرّ شفائه، وأن الصيدلة هي فن الإصغاء لذلك السرّ.
وعبر الزمن، لم تكن الصيدلة مجرد نقلٍ للنباتات أو تركيبٍ للأدوية، بل كانت علمًا متطوّرًا قاده رجال أفذاذ. ويُذكر أن أول من وُصف بمكتشف علم الصيدلة في معناه المنهجي هو العالم العربي المسلم جابر بن حيان، الذي أسّس قواعد الكيمياء والصيدلة معًا. ومن بعده، جاء ابن البيطار، فجمع في موسوعته آلاف النباتات الطبية، ليمدّ الجسور بين المعرفة الإغريقية والتراث الإسلامي ويورث العالم علمًا متينًا ما زال أثره قائمًا. وهنا تتجلّى عظمة الحضارة الإسلامية التي لم تكتفِ بالتلقي، بل قامت بالتهذيب والإضافة والابتكار.
أما عن الشعار نفسه، فقد استُخدم للمرة الأولى في سياقٍ ديني أسطوري في المعابد الإغريقية، حيث ارتبط بالكاهنات اللواتي يسكبن شراب الشفاء من كأسٍ يعلوه التفاف الأفعى. ثم انتقل، مع حركة الترجمة والاحتكاك الثقافي، إلى الطب الأوروبي في العصور الوسطى، حتى استقر في العصر الحديث رمزًا للصيدلة، يعلو واجهات الصيدليات حول العالم، كذكرى حيّة لذلك الامتزاج العميق بين الأسطورة والعلم.
إنّ الصيدلة ليست علمًا جامدًا يتعلّق بمركبات كيميائية فحسب، بل هي فلسفة وجود. فالأفعى التي ترمز إلى الحكمة والتجدّد، والكأس الذي يرمز إلى المعرفة والاحتواء، ليسا إلا صورة رمزية لرحلة الإنسان في البحث عن الشفاء من كل أوجاعه، الجسدية والروحية على السواء. وفي كل حضارةٍ بصمة، وفي كل زمنٍ أثر، لكنّ الخيط الذي يجمعها واحد: الإيمان بأنّ الإنسان، مهما عظمت آلامه، سيظلّ يبحث في الطبيعة والعقل والرمز عن سبيلٍ إلى الخلاص.
وهكذا، فإنّ الشعار الذي نراه اليوم فوق أبواب الصيدليات ليس مجرد رسمٍ زخرفي، بل هو سجلّ تاريخي، يحمل في طياته آلاف السنين من الحكمة، من سومر وبابل إلى أثينا، ومن بغداد إلى باريس. إنه شهادة حيّة على أن الصيدلة كانت وما زالت رحلة العقل الإنساني نحو النور، وأن الإنسان، حين يرفع الكأس الملتفّة حوله الأفعى، إنما يرفع رمزًا خالدًا: الكأس التي تحتوي سرّ الشفاء، والأفعى التي تعلن أن الحياة قادرة على التجدد رغم كل ما يثقلها من وجع.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عامل السكراب
- عطر الكتب القديمة… حوار بين الغبار والخلود
- مكتبة الأسرار الكونية
- بغداد حين تعيد للعتمة صوتها.. مسرح الطيب على ضفاف دجلة
- البؤس العربي وفقدان الحياء: صرخة في وجه الرذيلة
- -بين دم الأرض وحديد السماء: تأملات في صراع القوى ومآل الإنسا ...
- نهداكِ… حين يغنّي البنفسج
- تراتيل الرماد فوق معبد اليورانيوم المكسور
- أشباح الموت في وطن الطوائف
- دول المذهب وعرش الدم
- كارثة الأشباح والعبيد في عراق الهدر
- ملحمة السيوف والنار… ذكرى الرد العراقي على العدوان الإيراني
- -مهرجان بغداد السينمائي… احتفال بالصدى الفارغ-
- مأساة المبدع بين حياةٍ يُغتال فيها وموتٍ يُستثمر فيه
- موازنة 2025… لمن ذهبت؟ بجيب الفأر أم بجيب الجار
- رحيل داود الفرحان… حين يغادر القلم وتبقى الذاكرة
- العراق: عبث الوجود وفلسفة البقاء
- إلى المجهول… حيث تُساق إيران وحدها
- موتٌ واحد بشرف… ولا حياة بألف خيانة
- حين يغتسل التاريخ في طين الذاكرة


المزيد.....




- -نادرة جدًا-.. غيوم غريبة تتشكل بسماء أوروبا ومصور يوثق اللح ...
- ترامب: خطة إنهاء الحرب في غزة في مراحلها النهائية، ونتنياهو ...
- مولدوفا: فوز الحزب المؤيد للاتحاد الأوروبي في الانتخابات الت ...
- الانتهاكات الروسية لأجواء الناتو – ألمانيا تدعو لرد مدروس
- المغرب: توقيفات جديدة منعا لمظاهرة -جيل زد 212- الشبابية الم ...
- الجيش السوداني يتمكن من تنفيذ إمداد جوي بالفاشر بعد حصار دام ...
- حيل لحل أهم مشاكل آيفون مع -آي أو إس 26-
- كاتب أميركي: لماذا لم تعد روسيا قادرة على تصنيع الطائرات؟
- هل تتزايد شعبية ترامب كما روج البيت الأبيض؟ استطلاعات رأي تك ...
- فيتنام تجلي الآلاف وتغلق المطارات مع وصول إعصار بوالوي


المزيد.....

- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - دواء الروح بين كأس الحكمة وأفعى المعرفة