أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - عامل السكراب














المزيد.....

عامل السكراب


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 13:47
المحور: قضايا ثقافية
    


لم يكن الحديد الصدئ أثقل من قلبي، ولم تكن أكوام السكراب التي تتراكم في الأسواق أقسى من ذاكرةٍ مثقوبة بالدم. كنتُ أرى نفسي في كل قطعةٍ متهالكة، في كل صفيحةٍ محطمة، في كل أنبوبٍ مهمل. الوطن صار سوقًا كبيرًا للسكراب، وأنا أحد باعته، لا بيدي، بل بقدرٍ فرضته عليّ رياح الخراب.كنتُ طفلًا حين بدأت ملامح هذا الوطن تتشقق. كبرتُ سريعًا، كبرتُ على أصوات الانفجارات، على صفارات الإنذار، على أخبار الموت التي كانت تصل إلى بيوتنا قبل أن يصل الخبز. لم أعرف طعم الطفولة إلا كما يعرفه الغريب: من بعيد، مشوّهًا، ناقصًا. كان الزمن يسرق أعوامي، وكانت المليشيات تسرق وجوه أهلي، وكان الوطن يتآكل أمام عيني قطعةً قطعة.
نزحتُ أكثر من مرة. كل مرة كنت أترك خلفي شيئًا: بيتًا، دفترًا، صورة، قبرًا. كأنني عامل السكراب الذي يفتش في الخرائب عن شيءٍ يصلح للبقاء، لكنني لم أجد إلا ذكرياتي المتعبة. كان عليّ أن أتعلم كيف أعيش بلا بيت، بلا أمان، بلا وطنٍ يحضنني.أذكر يوم قُتل احدهم. كان وجهه يلمع كضوءٍ في عتمة الليل، لكنه سقط مضرجًا بدمه، لأنه قال لا. لا للغزاة، لا للميليشيات، لا للتقسيم. دفع حياته ثمنًا لكلمة، فيما أنا كنت أحمل صمته ودمه في قلبي، وأمشي مثقّلًا بوصاياه. ومنذ ذلك اليوم، صار كل قتيلٍ من عشيرتي، من أهلي، من أبناء مدينتي، يسكن داخلي. لم يعد الموت خبرًا، بل صار جارًا دائمًا يزورني كل ليلة.أدركت أن العراق صار محاصرًا بين ثلاثة وجوهٍ للوحش: وجه الاستعمار الأمريكي الذي دخل بحجة الحرية وهو يزرع الطائفية، وجه الهيمنة الفارسية التي ارتدت عباءة الدين لتسرق الأرض والإنسان، ووجه المليشيات التي تحولت إلى سكاكين داخل الجسد العراقي. كنتُ أرى هذا الثلاثي يقتسم العراق كما تُقتسم غنيمة في سوق السكراب.كنتُ عاملًا في ذلك السوق الكبير، لا لأنني اخترتُ، بل لأنني عشتُ بين الركام. أبحث عن وطنٍ في كومة صدأ، عن كرامةٍ في قطعة حديدٍ مهملة، عن حلمٍ في زجاجٍ مكسور. لكنني كنت أقاوم. لم أبع نفسي، لم أساوم على وطني، لم أنحنِ. كتبتُ، والكتابة كانت سلاحي الوحيد.كنتُ أكتب عن الدين الذي صار سلعةً في يد تجار العمائم. عن الوطن الذي صار خرائط تُرسم في مؤتمرات أوسلو وكامب ديفيد. عن التاريخ الذي يحاولون بيعه في مزاد الطائفية. كنتُ أصرخ بالكلمات: الدين لله، الوطن للجميع. لكن صوتي كان يتلاشى في ضجيج الرصاص.
ومع ذلك لم أصمت. لم أسمح أن يُدفن قلمي كما دُفن أهلي. الكتابة كانت حديدي الصلب وسط السكراب، كانت جسرًا صغيرًا أتمسك به كي لا أغرق في الطوفان.رأيت العراق بعينيّ يتحول إلى أنقاض، لكنني رأيت أيضًا أنه في كل أنقاضٍ هناك حجرٌ صالحٌ للبناء، في كل صدأٍ هناك ومضة ضوء. السكراب علّمني فلسفة البقاء: أن كل ما يُرمى يمكن أن يعود، أن الخراب ليس نهاية، بل بداية أخرى. وهكذا كنتُ أجمع، كعامل السكراب، بقايا الحلم، بقايا الذاكرة، بقايا الوطن.لكنني لم أكن وحدي. كنتُ أحمل معي وجوه كل من رحلوا: أبي الذي ظلّ يردد حتى آخر أنفاسه أن العراق لا يُباع، أمي التي كانت تغني بين الدموع كي تنسى فقدان أبنائها، إخوتي الذين تناثروا بين المنافي، وأصدقائي الذين دفنتهم تحت ترابٍ ملطخٍ بالدم. كانوا جميعًا معي، يرافقونني كأشباحٍ مضيئة في ليلٍ لا ينتهي.كنتُ أؤمن أن العراق، مهما تكسّر، لن يموت. سيظل وطنًا لا يصدأ، حتى لو حاولوا تحويله إلى خردة. لأن في كل عراقيٍّ شريف قطعةٌ من الحديد الصلب، لن تنكسر، حتى لو علاها صدأ الزمن.واليوم، حين أكتب هذه الكلمات، أعلم أنني لستُ مجرد راوٍ لسيرة شخصية، بل شاهد على جيلٍ كامل عاش الغربة في وطنه، وتجرّع المرارة باسم الدين والسياسة. أنا عامل السكراب الذي يجمع من بقايا الماضي مستقبلًا جديدًا، من الحطام وطنًا، ومن الدموع فرحًا مؤجلًا.

وسيبقى العراق، رغم كل شيء، رغم الدم، رغم الخراب، وطنًا لا يصدأ.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عطر الكتب القديمة… حوار بين الغبار والخلود
- مكتبة الأسرار الكونية
- بغداد حين تعيد للعتمة صوتها.. مسرح الطيب على ضفاف دجلة
- البؤس العربي وفقدان الحياء: صرخة في وجه الرذيلة
- -بين دم الأرض وحديد السماء: تأملات في صراع القوى ومآل الإنسا ...
- نهداكِ… حين يغنّي البنفسج
- تراتيل الرماد فوق معبد اليورانيوم المكسور
- أشباح الموت في وطن الطوائف
- دول المذهب وعرش الدم
- كارثة الأشباح والعبيد في عراق الهدر
- ملحمة السيوف والنار… ذكرى الرد العراقي على العدوان الإيراني
- -مهرجان بغداد السينمائي… احتفال بالصدى الفارغ-
- مأساة المبدع بين حياةٍ يُغتال فيها وموتٍ يُستثمر فيه
- موازنة 2025… لمن ذهبت؟ بجيب الفأر أم بجيب الجار
- رحيل داود الفرحان… حين يغادر القلم وتبقى الذاكرة
- العراق: عبث الوجود وفلسفة البقاء
- إلى المجهول… حيث تُساق إيران وحدها
- موتٌ واحد بشرف… ولا حياة بألف خيانة
- حين يغتسل التاريخ في طين الذاكرة
- بين النص والسلطة: حرية الأمة ومصير العقل


المزيد.....




- روسيا تشن ثالث أكبر هجوم جوي على أوكرانيا منذ الغزو.. إليكم ...
- -لسنا ملزمين بها-.. إيران ترد على إعادة فرض العقوبات عليها ب ...
- روسيا تمطر أوكرانيا بوابل من المسيّرات والصواريخ.. وكييف تحت ...
- ارفعوا أيديكم عن حق الشباب المغربي في الحلم بمغرب آخر
- قتلى وجرحى في هجوم روسي ليلي كبير على أوكرانيا
- كاتب بريطاني: الإبادة البيئية لغزة تعني جعلها غير صالحة للعي ...
- دبابات الاحتلال تتوغل بأحياء غزة وصعوبة بالاستجابة لنداءات ا ...
- بريندان كار.. -رقيب خطير- عينه ترامب للتحكم بالإعلام الأميرك ...
- العاصفة -بوالوي- تضرب فيتنام وتخلف 26 قتيلا بالفلبين
- أبرز الصور في أسبوع.. قصف ونزوح جماعي في غزة واحتجاجات عالمي ...


المزيد.....

- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - عامل السكراب