أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - عطر الكتب القديمة… حوار بين الغبار والخلود














المزيد.....

عطر الكتب القديمة… حوار بين الغبار والخلود


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 10:53
المحور: قضايا ثقافية
    


في زاويةٍ منسية من مكتبةٍ عتيقة، تتدلى خيوط العنكبوت مثل وشاح الزمن، وتجلس الكتب على رفوف خشبية أنهكها العتق، كأنها جنود متقاعدون من معركة طويلة ضد النسيان. هنا لا تسكن الكلمات فقط، بل الأرواح التي خطّت الحروف، والآهات التي أُخفيت بين الأسطر، والأحلام التي حاولت أن تتجاوز حدود الزمان والمكان.حين نفتح كتاباً قديماً، لا نصطدم أولاً بالكلمات، بل برائحةٍ مميزة، خليط من غبارٍ متراكم وورقٍ مهترئ وحبرٍ ذاب في ذاكرة القرون. إنها رائحة ليست كبقية الروائح؛ إنّها رسائل صامتة من الماضي، شهادةٌ على أن ثمة عالماً عاش قبلك ولم يمت، بل تسلل إلى الورق ليبقى.
هذا العطر الغامض هو حوار بين الغبار والخلود: الغبار الذي يذكرك بهشاشة الإنسان وفنائه، والخلود الذي يهمس بأن الفكر ينجو حيث الجسد يندثر. في تلك اللحظة يختلط التاريخ بالفلسفة، والذكريات بالأساطير، ونصبح نحن القرّاء شهوداً على عرسٍ سري بين ما فنى وما بقي.
لقد كان أجدادنا يعرفون أن الكلمة ليست حروفاً، بل دماءٌ حارة تسيل على صفحة بيضاء. في كل مكتبة عراقية قديمة، أو في بيوت بغداد العتيقة، أو بين رفوف النجف والكاظمية والبصرة، نجد آثار تلك الأرواح التي تحدت الموت بالحبر. أولئك الذين كتبوا لم يعرفوا أن أبناء القرن الحادي والعشرين سيفتحون أوراقهم المصفرة ويستنشقون عبقهم، لكنهم كانوا يؤمنون أن الكتابة بذرة تُزرع في تربة الغيب، وأن ثمّة أجيالاً قادمة ستجدها ذات يوم.واليوم، ونحن في زمنٍ تُستبدل فيه المكتبات بالشاشات، والكتب الورقية بالملفات الرقمية، نفقد شيئاً من هذه العلاقة الحميمة مع الزمن. فالأجهزة لا تحمل رائحة، ولا تختزن غبار القرون، ولا تفتح باب الحنين كما تفعل كتب الأجداد. ومع ذلك، تبقى الكلمات ذاتها، لكن الذاكرة الملموسة تضيع، ويخفت صوت الحوار بين الغبار والخلود.حين أجلس أمام كتاب قديم، وأفتح صفحاته ببطء، أسمع كأنينٍ خافت، كصوت شيخ حكيم يهمس: "احذر أن تظن أني ورق فقط… أنا تاريخك، أنا ظلّك، أنا أنت حين تنسى أنك زائل." في تلك اللحظة أتذكر كيف ربط الإنسان الأول النار بالكلمة، وكيف نقل العراقيون الأوائل في بابل وأور، ثم الإغريق والعرب، المعرفة على الألواح والجلود والورق، كأنهم جميعاً يشتركون في هاجس واحد: كيف نغلب الموت ونخدع النسيان.إنها معركة لم تُحسم بعد: الجسد يذوي، لكن الحبر يبقى. الحجر يتهالك، لكن المخطوط يروي. ونحن نعيش بين طرفي هذه الجدلية: زوال محتوم، وخلود متخيّل. عطر الكتب القديمة ليس إذاً مجرد رائحة، بل هو وعد بالاستمرار، هو اعتراف صريح أن الماضي ما زال حاضراً بيننا، وأننا حين نقرأ نصاً عمره مئتا عام أو أكثر، لا نقرأ كلمات على ورق، بل نصغي لصوت إنسان عاش، أحب، حلم، وربما مات، لكنه ترك لنا أثراً لا يموت.في النهاية، نكتشف أن المكتبات ليست أماكن، بل مقابر مضيئة، يجتمع فيها الموتى والأحياء على طاولة واحدة. الغبار شاهد على أننا زائلون، والخلود يبتسم ليقول: "لكنكم لستم بلا أثر." وهكذا يظل عطر الكتب القديمة بوابةً سرية، ندخل منها إلى ما وراء الزمن، لنفهم أن الكلمة وحدها تملك حق البقاء، وأننا جميعاً لسنا سوى هوامش في كتاب أكبر اسمه التاريخ.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مكتبة الأسرار الكونية
- بغداد حين تعيد للعتمة صوتها.. مسرح الطيب على ضفاف دجلة
- البؤس العربي وفقدان الحياء: صرخة في وجه الرذيلة
- -بين دم الأرض وحديد السماء: تأملات في صراع القوى ومآل الإنسا ...
- نهداكِ… حين يغنّي البنفسج
- تراتيل الرماد فوق معبد اليورانيوم المكسور
- أشباح الموت في وطن الطوائف
- دول المذهب وعرش الدم
- كارثة الأشباح والعبيد في عراق الهدر
- ملحمة السيوف والنار… ذكرى الرد العراقي على العدوان الإيراني
- -مهرجان بغداد السينمائي… احتفال بالصدى الفارغ-
- مأساة المبدع بين حياةٍ يُغتال فيها وموتٍ يُستثمر فيه
- موازنة 2025… لمن ذهبت؟ بجيب الفأر أم بجيب الجار
- رحيل داود الفرحان… حين يغادر القلم وتبقى الذاكرة
- العراق: عبث الوجود وفلسفة البقاء
- إلى المجهول… حيث تُساق إيران وحدها
- موتٌ واحد بشرف… ولا حياة بألف خيانة
- حين يغتسل التاريخ في طين الذاكرة
- بين النص والسلطة: حرية الأمة ومصير العقل
- يا ربّ، لا أحتملُ عينيها


المزيد.....




- مفاوضات إنهاء حرب غزة في -مراحلها النهائية-.. اتفاق وشيك أم ...
- الدنمارك تحظر الطائرات المسيرة قبيل قمة أوروبية بسبب مخاوف أ ...
- أزمة في فرنسا.. مصائب ماكرون عند بوتين فوائد؟
- أفغانستان: سلطات طالبان تعلن إطلاق سراح معتقل أمريكي
- حزام ناري عنيف حول مستشفى الشفاء والدبابات تتوغل في عمق غزة ...
- دراسة: كبسولات صغيرة تسعى للحد من التهاب الدماغ
- دراسة: يمكن علاج الألم دون إعاقة الاستجابة المناعية المفيدة ...
- روسيا تشن أعنف هجماتها على الأحياء السكنية في كييف
- الرئيس الإيراني يندد بعودة العقوبات الدولية ويرفع شعار -الصم ...
- كيف انتقلت من كونك قائدًا معارضًا لجزء من حكومة سوريا؟ الشيب ...


المزيد.....

- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - عطر الكتب القديمة… حوار بين الغبار والخلود