أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - انحنى الحجر وظل النور قائماً














المزيد.....

انحنى الحجر وظل النور قائماً


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8481 - 2025 / 9 / 30 - 09:43
المحور: قضايا ثقافية
    


في الموصل، تلك المدينة التي شربت من دجلة ماءها وتوضأت بتاريخها، قامت "الحدباء" منذ قرون طويلة، مائلةً كقوس صلاة، شامخةً كقلب عاشق، رشيقة كأنها عروس تتكئ على كتف الغيم. لم تكن منارة فحسب، بل كانت روحاً زرعها البناؤون في قلب الحجر، نافذةً بين الأرض والسماء، ومئذنةً ظلّت ترشد المصلين في الليل الطويل وتحدّث الغرباء عن هوية مدينة تعرف وجه الله كما تعرف وجه القمر.حين شيدها نور الدين زنكي، لم يكن يقيم حجراً فوق حجر، بل كان يخطّ تاريخاً، يغرس جذراً في ذاكرة الأمة. ومن بعدها جاء صلاح الدين الأيوبي، فاتخذها رمزاً للانطلاق، ولتكون شاهداً على وحدة الصفوف، وعلى كسر شوكة الفاطميين، وعلى المسير إلى القدس محرّراً لا غازياً، ملهماً لا طامعاً. صارت الحدباء ظلاً له في ساحة المجد، وبوصلةً تؤكد أن الأمة تستطيع أن تنهض كلما اجتمعت على كلمة.لكن الحقد لا يشيخ، بل يتوارثه الدم كما يتوارث الاسم. ظلّت المنارة شوكة في عين من أرادوا أن يطمسوا ذاكرة الأمة، لأنها صارت شاهداً على نهضة رجل وحّد المسلمين وأذل الطغيان. وفي أقبية السياسة، في دهاليز الكراهية الممتدة من فارس إلى كل من أراد أن يطفئ النور، كان اسم الحدباء يُذكر كجرحٍ لم يندمل. وحين أظلمت المدينة في زمن الفتن والسواد، واشتد الحصار، لم يسقط الحجر إلا حين اجتمع عليه حقد الحاقدين.في اليوم المشؤوم، ارتجف قلب الموصل. لم يكن الأمر مجرد تفجير حجارة، بل اغتيال ذاكرة بأكملها. سقطت المنارة، واهتزت الأرض تحت أقدام الأبرياء، وارتفع غبار أسود غطى وجوه الأطفال والنساء. بدا كأن المدينة كلّها انكسرت، وكأن يد التاريخ قد ارتجفت وسقط القلم من بين أصابعها. أرادوا أن يقولوا: "ها نحن قد محونا رمزكم، ها نحن قد قتلنا شاهداً على وحدتكم." لكنهم لم يفهموا أن الروح التي تُزرع في الحجر لا تُقتل بالبارود.الحدباء لم تسقط يومها، بل تكاثرت. صارت في عيون الأمهات اللواتي ودّعن أبناءهن على أكتاف الأكفان، وصارت في أصوات الأطفال الذين كتبوا على الجدران المحترقة: "سنعود". صارت في الأغاني التي رددها الشيوخ، وفي الدموع التي غسل بها الموصليون وجوههم بعد ليلة خراب. كل قلب صار منارة، كل بيت صار مئذنة، وكل دمعة كانت حجراً جديداً في بنيان الذاكرة.ثم جاء يوم العودة. الموصل، التي عرفت الموت والخراب، لم تركع. نهض أبناؤها، رفعوا أنقاضها، وحملوا الحجارة بأيديهم البسيطة، أعادوا المنارة إلى الحياة، حجراً فوق حجر، ودمعة فوق أخرى، وإصراراً فوق إصرار. لم تكن عودة بناءٍ مادي، بل كانت عودة روحٍ ظلت حيّة رغم كل ما جرى. كانوا يعيدون كتابة المعنى: أن الحقد لا ينتصر على الأمل، وأن النور، مهما تآمروا عليه، لا يُطفأ.واليوم، حين يسير الغريب في شوارع الموصل ويرفع رأسه ليرى الحدباء واقفة كما كانت، مائلة برفق كأنها تبتسم ساخرة من كل من أراد موتها، يسمع همساً خفياً من أعماقها: "لقد سقطت حجارة، لكن النور لم يسقط. لقد انهارت جدران، لكن الذاكرة بقيت. لقد فجّروا رمزاً، لكن الرمز تكاثر حتى صار أمة."
وهكذا يا صاحبي، لم تعد الحدباء منارة فقط، بل رواية فلسفية كتبتها مدينة بدمها، وأعاد أبناؤها رسمها بدموعهم وصبرهم. إنها درس للتاريخ: أن الرموز لا تموت بالتفجير، وأن الحجر حين يسقط، تنهض الأرواح. وأن الموصل، التي أنجبت صلاح الدين، ستظل تنجب كل يوم صلاحاً جديداً، ينهض من رمادها، ليقول للعالم: هنا مدينة لا تعرف الانكسار، وهنا منارة سقطت لتنهض أبد الدهر.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -المذبوحون باسم الله-
- -الطرق التي تبكي تحت أقدام الغائبين-
- دواء الروح بين كأس الحكمة وأفعى المعرفة
- عامل السكراب
- عطر الكتب القديمة… حوار بين الغبار والخلود
- مكتبة الأسرار الكونية
- بغداد حين تعيد للعتمة صوتها.. مسرح الطيب على ضفاف دجلة
- البؤس العربي وفقدان الحياء: صرخة في وجه الرذيلة
- -بين دم الأرض وحديد السماء: تأملات في صراع القوى ومآل الإنسا ...
- نهداكِ… حين يغنّي البنفسج
- تراتيل الرماد فوق معبد اليورانيوم المكسور
- أشباح الموت في وطن الطوائف
- دول المذهب وعرش الدم
- كارثة الأشباح والعبيد في عراق الهدر
- ملحمة السيوف والنار… ذكرى الرد العراقي على العدوان الإيراني
- -مهرجان بغداد السينمائي… احتفال بالصدى الفارغ-
- مأساة المبدع بين حياةٍ يُغتال فيها وموتٍ يُستثمر فيه
- موازنة 2025… لمن ذهبت؟ بجيب الفأر أم بجيب الجار
- رحيل داود الفرحان… حين يغادر القلم وتبقى الذاكرة
- العراق: عبث الوجود وفلسفة البقاء


المزيد.....




- الإليزيه يعلن عن صفقة أسلحة فرنسية لأوكرانيا تشمل 100 مقاتلة ...
- حادث مأساوي.. مصرع طفل عمره عامين بعد سقوطه من الطابق الـ20 ...
- نقيب الصحفيين الفلسطينيين يطالب الجنائية الدولية بكشف إجراءا ...
- اليونانيون يحيون ذكرى انتفاضة البوليتكنيك 1973
- زوجة خاشقجي تنوي إحراج بن سلمان في واشنطن.. قضية الصحفي المق ...
- الفقر -هدد- أكثر من مليوني طفل في ألمانيا عام 2024
- نقص التمويل الدولي يهدد تعليم أطفال الروهينغا في مخيمات بنغل ...
- جورجيا تطلق سراح إسرائيلي احتال بـ10 ملايين.. ما القصة؟
- حضور صيني بارز بقمة المناخ في غياب الولايات المتحدة
- فيضانات في مناطق بإيران بعد عملية تلقيح سحب


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - انحنى الحجر وظل النور قائماً